استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/26

ما بعد عهد الصبى

 الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى




حظي الفيلم الذي أعده المخرج مظهر لتصوير معاناة الفلاحين في أبي تيج بنجاح تجاري متوسط، ونقدي كبير، شبيه بما حازه فيلم الأرض قبل سنوات ثمانية، عرض بكر لرحلته من الصعيد إلى الإسكندرية ما خلا بعض الحقائق التي أخفاها عمداً لاحتوائها على ما قد يشينه ويزري به (كقضائه ليلة ثملة في المقهى الليلي "لورانتوس" لا يتذكر على الدقة وقائع ما حدث فيها)، وكانت نور بدورها من السعادة في نهاية حتى أنها دعته إلى سهرة احتفالية أعدت له فيها حساءً بالكرنب تندراً، وكان الفتى المسرور إزاء طعمه غير المستساغ بلا حول ولا طول، تعلقت نور بالفتى فكان يحدث أن يساورها نحوه شعور بالأمومة جنباً إلى جنب مع الاغتباط الذي سيطر عليها - لنجاحها كممثلة - فرد الأشياء جميعاً - وحتى حساء الكرنب - في وعيها ونظرها إلى تألق ونعمة منيرة، وكانت تضيق ذرعاً بعجزها عن الولادة بسبب قصور زوجها فأورثتها حالتها اليائسة إعجاباً مضاعفاً بالشاب الذي بلغ لتوه سن الاستقلال (واحد وعشرين عاماً)، فكأنما قد قطع عهد الطفولة والصبى الذي تخشى فيه النساء - عادة - على أولادهم فلا يطقن صبراً أن يرونهم وقد شبوا وبلغوا أشدهم، وعلى المجمل إذاً فقد كان بكر في نظرها خلاصة ما تصبو إليه دون عناء وتعجز عنه.. وقالت نور :

- فلنأمل أن يحوز (الفيلم) السعفة الذهبية في مهرجان كان..

وقال بكر في تواضع جم :

- لا أريد أكثر من أن يلتفت أحد المسؤولين القادرين إلى مآساتنا فيغيرها بيدين بيضاوين، لقد عرضنا للأمر وأخشى أن يقتصر تعاطي المشاهدين معه على قصة يشاهدونها ثم يستهلكون غيرها، سأعود إلى أبي تيج، هناك يحتاجون إليَّ فوق المدينة، إنه ابتلاء الريفيين بعد أن حازوا حق تقرير المصير، ولولا علمي بأن الجفاف ظاهرة لا دخل لامرئ بتسييرها قط لقلت بأن رضوان ضالع في الأمر.

وقالت نور قولاً أزعج عز الذي كان لا يشاركهما حديثهما  إلا لماماً :

- بهذه السرعة؟ لو قدر لي أن يكون لي ولد ما كان له أن يكون خيراً منك من وجه..

واحمرت وجنتيه (بكر) يقول :

- إن هذا لعطف منك سابغ، سيدتي ! ما أسخى لسانك إذ يرى فيَّ ما يستحق الحمد على كثرة ما بي واقعاً من عيوب !

وسألها يخفي ما انتابه من ارتباك الإطراء  :

- أين فردوس؟ لقد أدت إليَّ ديناً لم أشكرها عليه بعد حق الشكر، إني لا أزال أحفظ لها جرأتها وحسن تصرفها.

وقالت نور :

-  سأدبر لكما موعداً دون علم هدى، والأخيرة لا تزال تتألم لما وقع لها يوم فسد تدبيرها، سامحها الله، وحتى رؤوف فقد أضر بتحصيله الدراسي مشاركته في تنفيذ ما كانت توعز به هي إليه عبر رسائلها الأثيمة، فالتحق بالألسن وكان يروم الطب.

وكانت نور تبتسم لقولها لولا أن الحديث قد وقع من بكر موقع الجدية، فجعل يهمس :"وعلى الباغي تدور الدوائر، وليكن تدبيرها في تدميرها، وليرد كيدها في نحرها.."، يردد كل أولئك مثلما تعلم من أمه تسنيم !

شعر بكر في زيارته الثانية للإسكندرية أنه قد امتطى هذا الوحش الكاسر الثائر الغضوب، كان في ذروة طاقته وبأسه، مفعماً بالأحلام ذائع الاسم والشهرة،.. فإذا هو عاد إلى داره الأولى فماذا يجد هناك إلا الجدب والخوف والمجهول؟ رضوان الذي يروم عودة يستغل معها البلاء الجاري؟ أم إبراهيم الذي غدا ظهوره مرادفاً للأذى والخلاف؟ إن له اليوم في المدينة - كالريف - أحباباً، هنا غدا يعرفه الناس الذين رأوه على شاشة السينما، وشعر بحزن وغصة، وعنَّ له أن يجوب الظهير الريفي للمدينة (الإسكندرية) عله يجد نفسه في مناطق التماس بين الواقعين المتنافرين، طاف بعضاً من قرى أبيس العشرة المقسمة بين البحيرة وبين الإسكندرية، وثمل بسرور حقيقي كأنما وجد الحل العسير لمشكلته العصية، وألفى الترياق السحري لهويته الممزقة، لقد ذكرهم هيرودوت (أهل أبيس) فقال إنهم لما أرادوا أن يأكلوا لحم البقر (المحرم في مصر لعبادتهم إيزيس)، ثم لسكنهم خارج الدلتا واختلاف اللغة، أرادوا التنصل من نسبهم إلى المصريين، ولكنهم ردوا عن هذا وزجروا عنه بالقول : إن مصر هي البلاد التي يجري فيها النيل ويرويه، لقد ردد بكر القول نفسه - على جهله بالقصة القديمة -  في سياق آخر، فجعل يقول :"إن مصر هي البلاد التي يجري فيها النيل ويرويه،.. إن انتمائه إليها يسبق نسبته إلى الريف أو الحضر.."،  وانبثق من واقع السرور المنزه صوت كصوت تسنيم يهتف به يقول :

- هذا لن يعوضني فقدانك،.. إنهم يطمعون فيك !

فانتفض له وارتعد، ولكنه تذكر حديثاً آخر كان قد نطق به فرضي به وهدأ :

 - لن أرى في هذه الحياة إلا المقدور، وإذا أنا عشت في المدينة سأعيش بقلب ريفي بسيط..

حين عاد إلى قلب المدينة كانت نور قد جهزت له لقاءه إلى فردوس، شاهدا معاً الفيلم الذي من بطولته في سينما ميترو، فذرفت فردوس الدمع في القاعة المظلمة حين أبصرت ما طرأ لبيوت الطين في مشهد الفيضان، وما نزل بالريفيين في الجفاف الذي أعقبه بعد إِجْدَابُ المسايل، واسترعتها على الخصوص هذه البركة التي قامت على جانب من رأس بيت العمدة من حجر أسود لا تنفك تطفح طفحاً خفيفاً بماء آسن ينصب فيها، يقبل عليها بعض أبطال الفيلم إقبال اللهفة والحاجة فيغبون من طهور مائها، فكانت محوراً لصراع رئيس يتغلب فيه أصحاب الحق على أشياع الباطل،.. وحين انتهاء العرض قال لها بكر قولاً شغلها عن الأنين ونزف العاطفة، متأثراً بشعوره بأداء الواجب في عرض مآساة قومه، ثم ما غيرته زيارته لقرى أبيس من قناعة سابقة :

- إني قد جمعت أمري اليوم على ما كان قد اشتبه عليَّ : سأبقى في الإسكندرية..

وابتهجت فردوس تحت سحابة التأثر، فما كانت قولته إلا شهاباً يمرق في سماء باهتة فينيرها ويشغف الناظرين بها.

 

في فيلا لوران..

كان عبد القدوس قد نهض يستقبل الفجر السنيَّ يروم أن يصلي صلاته قبيل الشروق، وتوضأ الرجل وضوءاً ارتعشت له أعضاء بدنه الدافئ، فلما فرغ عائداً شَدَّه صوت سنين سكين آتِ من المطبخ، وحدس بأنه للخادمة الفيتنامية الجديدة، أبدت المرأة الآسيوية همة جديرة بالثناء منذ انتدبها عبد القدوس للعمل في الفيلا البيضاء، وتحلحل الرجل عن موضعه فانعطف إلى حيث كانت هي منخرطة في تقطيع اللحم ثم تتبيله بالمستكة التركية وقد بدا أنها تستعجل عمل الظهيرة أو ساعة العصر، وتدانى إليها - بعد أن فتح مقبض الباب الوصيد - يقول في إنجليزية ركيكة :

- "إلهي ! إنه لَحْمٌ قَدِيدٌ (محفوظ عن طريق التجفيف بعرضه على الشمس أو نار الفحم) حري به أن يلقى في القمامة، سأجيء لكِ بخير منه غداً..".

وفزعت المرأة لحضوره الذي لم تتوقعه فوقفت على حال اللافعل كأنما تسأله :"وماذا يجدر بي العمل اليوم إذا تخلصت منه؟ أي طعام يبقى لي؟"، فأتبع الرجل يقول كأنما يجيب عن سؤال لم تنطق به :

- "فلتستريحي الساعة من عناء العمل الباكر، وسأجد في ثلاجتي القليل الذي يشبعني..".

ومضت بعد أن غسلت يديها، ولكن الرجل ظل واقفاً في المسار الذي كان يجب أن تمر به، على كثب من طاولة ذات مفرش باهت الزرقة تنكر تحته خشبها، يقول كأنما يجاهد رغبة قوية في نفسه قرب امرأَةٌ غَرْثَى الوِشاح :

- "فلتسمعيني : إني أروم زواجاً بكِ يقيني الزلل..".

ولكن المرأة لم تنطق بعد أن استوحشت مطلبه، ومضت إلى حيث اعترضها دون أن يتحرك حقاً، وحدث نفسه يقصد الخادمة :"تماما كشجيرات المَصطَكى التي تستخدمها، دائمة الخضرة، حمراء الثمر، ولكنها مرة.."،  وهناك هتف ذهب الذي بدا كأنما كان يرقب جزءاً من وقائع ما يجري عبر الباب المفتوح :

- فلتترك الخادمة وشأنها..

وتحركت المرأة إثر النداء فيما يشبع الأمان الذي يعقب الفزع حتى أوسع لها ذهب فمضت عبر الباب، وأحس عبد القدوس خجلاً أخذ يداريه بالغضب، فكز على أسنانه مجمجماً ثم قال :

- ماذا أدخلكَ فيما لا صلة لكَ به؟

انزعج ذهب من السؤال المتبجح فانتقل إلى صنف من التصميم الجاد يقول وهو يتقدم خطوة أو اثنتين إلى الداخل :

- رأيت فيها (أي في الخادمة الفيتنامية) صورة نفسي ساعة كنت اُمتهن لوضاعة عملي في دنيا البشر.

وهناك صاح عبد القدوس كمن يعيد الأمور زوراً إلى نصاب :

- كلاكما خادم في دار هي لي..

ولم يعجب ذهب من قول محدثه إذ كان هذا حقيقة شعوره الذي يحسه في محضره دائماً، بيد أنه قال :

- لولالي لما ذقت من لذة الربح إلا قليلاً..

وارتبك عبد القدوس بعض ارتباك، كان عرقه قد خالط ماء وضوئه فتدحرج على جبينه إلى ذقنه الكثيفة، ولمح أول ضوء للصباح فجعل يقول لمن شق عليه أن يحاوره في موقف الضعف :

- ذرني والصلاة قبل أن يفوتني الفجر..

وتركه ذهب يمضي وهو يهمس :

- ليس قبل أن تعيد الوضوء الذي قد فسد..

 إن مما يصح أن يفكر الرائي فيه هو مجرى القدر الأحمق هنا : كيف انتقلت الملكية من رجل خميصُ البطن عن أموال النَّاس كطه إلى من يستحل حرمة المرأة في خلوة كعبد القدوس، لم يرِ ذهب الأمر على هذا المنوال قط، كان يكره عبد القدوس مثلما هو مبغض نعيماً وأسرته، لقد سرق الثاني منه محبة نجله منير، لم يعد منير نجله حقاً منذ عصاه فآثر عليه الغريب يوم جاءه طالباً، لقد مات في مخيلته يومذاك، موت الهجران والنبذ والحياد، واليوم أحس نفسه خادماً بدرجة مساعد، إنه - كذلك - في معية الرجل المتعجرف لممتهن، وحين انتهى عبد القدوس من صلاته كانت الخادمة الفيتنامية قد رحلت بلا عودة عن الفيلا، بتوصية منه.

 

وفي موقع آخر كان طه بعد إذ قضى في حلواني «أتينيوس» ليلة عائلية حميمة مع أسرته أحس في خاتمتها شعوراً متدفقاً من الدماء يسري لدى فؤاده، ونقل إثر ذاك إلى المشفى، وشخص الطبيب حالته فجعل يقول في حياد لا يليق بلهفة المستمعين :

- يعاني تضيق الشريان الأبهر..

أطبق الحزن على نعيم وصب جام غضبه على طبيعة النوائب الذي لا تأتي فرادى، إن من يعدّ العصى ليس كمن يتلقاها : لقد ترك فيلا لوران، ثم ها هي ذي الضربة الثانية تأتيه في أبيه الحكيم المقرب، وإذا أزهرت حياته يوماً فبفضل نصائحه أزهرت، كان يشتعل دون أن يحترق كعليقة النبي موسى المتقدة ناراً، أحس طه اقتراب نهايته - إذ هو بالأصل طبيب عارف بأطوار الموت وأحوال النهاية - فجعل يقول لنعيم بعد أن رأى قرص الشمس الغائب فيدرك أنه إلى ما يصير إليه صائر :

- الشباب ثروة وثورة، فواحسرتاه إذا أنت تهدره في حزن تندم بعده! ولتحسن التكيف بعدي إذ أنني ما أريدك واهناً ضعيفاً. فلتعدني بألا تطل في حزنكِ.

وقال نعيم  في ألم :

- لن أعدك بما لا طاقة لي به..

فهتف به النائم في شدة حتى لقد يخال الرائي معها أنه قد برأ من علته :
- أرأيت إن وسدوني التراب الناعم، وأنزلوا عليَّ الحجارة والحصى، ثم مرر أحدهم يديه على الرمل فوقي.. فبم تنفعني حينئذٍ أدمعك؟

- ...

 زاد حديثه من الحزن فصلاً، ومن الأسى بيتاً. وهمس الجد في أذن عارف ومنير بحديث هامس، فأوصى الأول على الثاني، وحث الثاني (منير) على تحقيق وعده : العودة إلى فيلا لوران التي أُخرجوا منها.

 فهز منير رأسه في براءة على جهله بالطريقة وافتقاده للوسيلة.

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق