استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/17

غضب في المكس

                                                         الفصل التاسع والثلاثون: 

غضب في المكس





وجاءه صبي المقهى بصينية الشاي وقد زاد من ثمن الشاي مرة ونصف المرة، فلما سأله عن السبب، قال في لهجة تحيل السين ثاءً :

- السكر زاد بنسبة 25%، وأما الشاي فـ35% !

وحدق إليه مراد فيما يشبه الازدراء يقول وهو يمنحه ما يريد، وكان من دأبه ألا يجادل بائعاً في ثمن يطلبه :

- ألا تجيد الحساب؟ هذا أقل مما تطلبه من الزيادة..

ولكن صبي القهوة مضى راضياً دون أن يزيد في نقاش يبرر به موقفه، وهل أن به حاجة إلى النزاهة وإثبات الموقف وهو المنتشي باحتياله؟ وقال جمعة لمراد :

- كما ترى، رعاع المصريين يفسرون التلاعب الذي درجوا على الإتيان به في حياتهم بلفظة هي "الفهلوة (الحذق)"، والأسوأ أنني استشرف غضباً تصير فيه سرقات واسعة النطاق عملاً سائغاً شائعاً.

- وماذا ستفعل؟

- أرى ضرورة سحب الأموال من بورصة القاهرة !

وتطورت الأمور في يناير فاجتمع مراد إلى جمعة وقال :

- إنهم يسمون السرقات العشوائية غضب الشعب، عمال شركة الترسانة البحرية في منطقة المكس أشعلوا فتيل فتنة لن تنتهي !

وكان ثمة ناشط يساري - يجلس في الجزء الخلفي الذي تعقد فيه الاجتماعات بمقهى البورصة التجارية الكبرى غير بعيد من ركن صغير للصلاة - يسمع لحديثهما فبادرهما إلى القول :

- الأثرياء يسفهون من حق البسطاء في الحياة (ثم انبرى يهتف..) يا حكامنا في عابدين، أين الحق؟ وأين الدين؟!

وسرعان ما وقع التجمهر في المقهى الصغير، ففر مراد وصديقه ممن اعتقد أنهم يمثلون تهديداً، وتفرقا لدى وصولهما إلى موقع آمن قرب البحر،.. قصد مراد وحده إلى ما كان يوماً مبنى بورصة الإسكندرية فألفاه يحترق، ووقف يرقب جمهرة الخلق حوله في عينين يملأهما غباش الرماد، وحمرة النيران، إنهم يحاولون نجدة بنائه المحترق بما لا يكفيه من الماء، كأنما يعاندون ما لا راد له من مشيئة الأقدار، إنه يئج باللظى ويغرق في ضرام اللهب مهما تواضعت الجهود، وعلى هذا النحو انتهى ما بقى من رمزية حلمه القديم.

 

أصابت مراد محنة مالية بعد أن خسر جزءاً غير يسير من حصاد الأيام، لامته أميرة في أمر الوثوق بجمعة بعد كل ما بدر منه فكانت تصفه بالحائط المائل الذي استند إليه فسار في إثره إلى عين الجحر الذي لُدغ منه، وأخذت تواسيه وتحثه على النظر إلى المستقبل بالمَثَل تورده على أسماعه :"إذا أفلس التاجر فتَّش في دفاتره القديمة.."، ولاذ الرجل المنكوب بتهاني التي ورثت بدورها تركة زوجها المتوفي زكريا، فلما علمت هدى بالأمر استقبحته وقالت :

- بتنا نعتاش على فتات موائد الرجل المائت، ألا لعنة الله على ذاك الزمان الأغبر ! 

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وقلبت المرأة (هدى) أوجه التصرف، وطرق الكسب والحوزة، فاهتدت إلى ما كان من ميراث أبيها بهاء الدين، وقالت لمراد :

- كانت له فدادين خمسة وقد تهاونَّا حين تركناها تذهب نهباً إلى الغرباء، إن لبهاء الدين أبناءً ثلاثة، ولقد تخلى يوسف عن استحقاقه في الفدادين لثرائه، وله الحق في التخلي، وقد ماتت صابرين دون أن تطلب نصيبها من الملكية فيهم، شكر الله تسامحها وتفريطها،.. وأما نحن فما يكون عذرنا؟!

ونظر لها مراد نظرة السأم، يتساءل كالمثقل بما لا طاقة له به :

- ماذا تريدين مني؟

- أريدك  أن تسافر إلى من سرقوا ميراث أبي في أبي تيج، فسحروا له وزينوا لإرادته الشائخة أن تجور على أبنائه من أجل غريب !

وقال مراد كأنما يتقي معركة بالتماس أسلم السبل :

- أميرة تقول بأنه (أي بهاء الدين) نقم على أبنائه ترْكهم له في أواخر أيامه، واتخذ قراره دون سحر أو زينة..

وقالت هدى في تصميم لا يكتسب مزيداً من الوجاهة إلا لانفعالها :

- بل سحر له الأبكم (تريد نوح) فأوقعه في شباك الضلال وحبائل الإجحاف !

وقال في قناعة كأنما يصرفها عنه في كياسة تتخذ صورة الحكمة :

- القليل ينال بعد التعب خير من كثير ينال من غير نصب.

وقالت هدى كأنما تزيد تحبب إليه الأمر :

- مثل هذا الحديث حمّال أوجه، فكر بالأمر، سيكون الميراث خيراً يهل علينا كقطر الغمام فينبت الزرع في أرضنا الجدباء، وينعش آمالنا في مستقبل غائم، إنك مسؤول ولو ألقيت كل معاذيرك !

وتركته هدى لما استيأست من عزيمته الخائرة، واستوثق انطباعها القديم عنه : إنه "دون المطلوب" كي يظفر بابنتها، أو أن يقيم أسرة على أسباب من القدرة والكفاية، هذه المرة محصته التجربة، فلا هو جالب للخير من سعة مورد أو وظيفة، ولا هو مصمم على نصرة العدالة التي تراها قد اُنتهبت،.. والتفتت هدى - بعد أن استبعدت زوجها العليل - إلى ابنه رؤوف الذي كان في عمر الخامسة عشر، كان رؤوف خلافاً لأبيه كثير التودد إليها، تقياً، معتاد الذهاب إليها حين يتم حفظ حزب أو جزء من القرآن فتكرمه المرأة -  كالجدة السخية تهب أحفادها - بالمال، والثناء، والدعاء، يسألها فيما اختلف فيه من معاني ما قرأ أو غمض، إذ هي حازت من درجات التعليم ما جعلها أهلاً لتفسيره، ولم يكن يعيبه في نظرها إلا نسبه إلى نرمين، ولكن هل تزر وازرة وزر أخرى؟ وهل أن البغي أو الفسوق مما يورثان؟ وأخذت تباريه في حفظ السور القصار فغلبها وغلبته، تجود عليه بعين الجمل واللوز والبندق وسواهم من أسباب التسلية والإيناس، ويوماً جاءها يقول :

- إنني أقرأ سورة الفتح لدى كل نهار عسى أن يزيل الله عنا (أي عن أسرته) الغمام !

وكان ينتظر جزاء صنيعه، ولكن هدى باغتته تقول :

- الله يقول خذوا بالأسباب ولا تركنوا إلى الدعة أو التخاذل..

وبدا أنه لم يتوقع جوابها المعتاد - الذي يبدأ عادة بالثناء على التزامه وينتهي بالدعاء له -  فانتظرت هي بضع ثوانٍ حتى يَئِن وقت يستوعب فيه وقع الصدمة التي أرادتها له، وكان قد وقف حيالها ممتثلاً، تقول :

- فلتكن خيراً من أبيك مراد في نصرة الحق، إنه ربيب الطيش، وصديق جمعة ولو دخل جحر الضب الخرب لدخله وراءه، ولْتعد إلى الأسرة المنكوبة زينتها في هذه الحياة ! 


 

 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

  

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق