استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/08

على مقهى الشابندر

                                       الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر





أمام باب عرض الباليه..

كانت صابرين رفقة عز ونور قد انتهوا من عرض الباليه، حين اعترضهم رجل لدى هذا الباب يقول بينما يرمق ثوب الفتاة (نور) في نظرات يشيع فيها الازدراء :

- ويحك ! أتعس بثوب تلبسينه !

وخلع الرجل الصعيدي جلبابه وألقى به على جسد الفتاة يقول :

- فلتستري به جسدك العاري !

تقدمت الأم نحوه في غضب يشتعل على جذوة الواجب، فصفعته على وجهه تقول :

- فلتغض طرفك إذا أنت ضعيف الإرادة.

وكان يمسك بموضع خده المضروب في ذهول، لم يتوقع الرجل الفتيّ الممشوق أن تأتيه الضربة من المرأة التي أبيض شعرها، ثم قال وهو يأخذ يتدارك فعلها شيئاً فشيئاً :

- امرأة عجوز تحمي التهتك، وتدافع عن السفور، هل اخترعتم عرفاً جديداً في المدينة؟

كان عز يرقب ما يحدث فيجتهد أن يمسك بناصية نفسه دون أن ينفلت فيسبب الأذى للفتاة إذا حدث ووقع الشجار لدى عتبة المكان الذي ترقص فيه، ولكنه لم يتمالك نفسه حين تعرض الرجل لأمه فكأنما انفلت من عقاله يقول :

- أعدناكم إلى الإسكندرية، وكان حقاً عليكم ألا تطأ أرجلكم هذه الأرض الطيبة أبداً.

وهبط الرجل حتى قبض على طرف جلبابه - وكان مما تعتد به ثقافة الصعيد - فيعود يلبسه، يقول بعد أن فرغ :

- أتبعت معروفك بما يكفي من المن.. ألا يكفيك أننا اعترفنا بك زوجاً، ثم أقمنا لك في بلادنا عرساً مشهوداً؟ كان جزاؤنا جزاء سنمار، هربت منا خوفاً وجُبناً في صبيحة يوم عرسك، واليوم تتأسد فلا أكاد أسمع منك إلا ثؤاج نعجة..

وقال عز وهو يبحث في صورته عما يصح أن يرد به على إهانته :

- بربك.. لماذا تلبس العدبة (غطاء الرأس) في المناخ البارد؟ أي شمس تخفي رأسك منها في الإسكندرية؟

وحدس الرجل - لما كانت الشمس في الأعالي بغير ظهور - بأن إهانة نزلت به، كانت راقصات الباليه قد أخذن في الانسلال عبر الباب وعلى قرب من الرجل الذي جعل يرقبهن فيما يشبه الازدارء يقول :

- لا تتطاول على ثقافة الرجولة التي لا تعرفونها.

- بين الرجولة وبين الحمق شعرة.  

وغاب الرجل الصعيدي بعد أن التفت عن الثلاثة وهدد وأنذر، عاد الرجل يلبس الجلباب فوق "التقشيطة" (ملبس خفيف أسفل الجلباب يضفي مهابة وجمالاً) فيما يغيب عن الأفق، وطفقت نور تبكي رغم انصراف الرجل واطمئنانها إلى سلامة المشهد من حضوره، فيما كانت صابرين تحاول أن تلم بأطراف الحقيقة التي جهلت بماهيتها على وجه الشمول، في حين تواسيها، تقول (صابرين) :

- ما أغلظ فؤاده ! من الخير أنه قد مضى.

وكان عز يقول لها :

- لقد رددتي إلى الرجل صفعته القديمة، يوم التقينا به في مدخل بيت حارة الجناينية..

 افترق الثلاثة فعادت صابرين إلى الجناح الفندقي، ولبث المتزوجان في المعمورة، كانت صابرين تريد من نجلها وزوجه أن يبيتا رفقتها بعد أن خلا الجناح إلا منها، على أن عزاً آثر الخلوة مع زوجه المهيضة دون حضور الأم، فكانت الليلة - وللمفارقة - أولى الليلات التي يفارق فيها زواجهما نطاقه غير القاصد للإنجاب، في صبيحة اليوم التالي أخبر عز نور بنيته الأخيرة يقول وهو يغسل أسنانه بمعجون :

- سننجب الأطفال رغماً عن أنف العائلة.

وقالت وكانت تنام على مرتبة إسفنجية وثيرة :

- أشعر أنني مجرمة في حقهم..

وكان يتفادى لثته الملتهبة بينما يمضي بفرشته على نحو عرضي يقول :

- إنهم أغبياء منكرو الجميل والمعروف، حتى أن الإجرام في حقهم يتساوى مع الإحسان.

وجعل يبثق الماء الذي امتلأ به فمه فيواصل الحديث مغمغماً :" لم يطرق أسماعهم مفهوم واحد من مفاهيم الحياة المعاصرة، العولمة، حيث الأرض مسطحة، لم يعد الإنسان ابن الكهوف.. هل تستطيعين رقص الباليه بجلباب صعيدي؟"، وجعلت الفتاة تضحك منه على كدرها.

 

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

1973م..

ودع فؤاد أصدقاء الشارع - بعد أن ودع حمال جبل نعسة - قبيل سفره، وقضى أيامه الأخيرة في الإسكندرية يرقب الترام رقم 5 آتياً من المستشفى البحري إلى كرموز، ينتظره في رثاء، كأنه يودع آخر عهده به، وحتى لقد عرف الصلاة في مسجد العمري (مسجد الوداع كما يسميه أهل المدينة) يوماً، بصورته الأولى الخجولة (قبل الترميم) حيث يتناسج لوني الأحمر والأصفر في شرائط عرضية على مبناه القصير، وتروح السيارات السماوية وتجيء على مهل من أمامه في الشارع ذي الاتجاهين ، وكان من نكد الدنيا عليه أن يترك هذه الحياة تركاً هانت لأجله الأشياء جميعاً، يعرف أنه سيقصد إلى العراق في مغامرة عمل فنفث هذا في روعه قلقاً كبيراً بل ووجلاً مقيماً، وكانت أمه هدى تودعه فتقول بعد أن تدس ورقة في جيبه :

-"هوناً هوناً، ستجد هناك (أي في بغداد) عمك إبراهيم، إنه صاحب متجر للألعاب والدمى، وقبل هذا صديق لأبي قديم، وستجد عنوانه في هاته الورقة، وستعمل معه، إنها بلاد حارة، لا تترك نفسك طويلاً نهباً للشمس وإلا أصابتك ضربتها..".

 

حاولت هدى قبل اليوم إقناع عبد الغني إشراكه في إدارة الحانوتين، فقالت : "الأقربون أولى بالمعروف.. من الخبل أن يعمل مراد في عمل فؤاد أولى به منه.."، ولكن محنة عبد الغني الأخيرة جعلتها تنبذ الإلحاح عليه خصوصاً بعد أن أبدى فؤاد تملصاً من المسؤولية تجلى في غيابه عن أيام التجارة حين جربه الأب، وقال عبد الغني لها :"سيتعلم فؤاد أن يتجشم عناء المسؤولية إذا هو فقد الحائط المنيع الذي يرتكن إليه لدى كل هفوة يقع فيها.. الأمر أشبه بأن تلقي بنجلك في بحر تريد أن تعلمه العوم من واقع اختبار التجربة.."، فقنعت برؤيته على مضض، وإن ودعت نجلها جريحة النفس والفؤاد، فذابت شدتها في وعاء الأمومة حين أسبلت أولى الدمعات.

 

كان العراق آنذاك يبدو بلداً واعداً من كل وجه، علاوة على شبهه الكبير بمصر من حيث التاريخ الضارب، والحاضر المتطلع، فقد كان البلد البترولي الوحيد الذي يمتلك مقومات الانفصال عن الثقافة الرجعية السائدة التي تدين بها دول الخليج العربي،  نما الاقتصاد العراقي بشكل سريع في السبعينيات نتيجة سياسة تطوير ممنهجة للعراق، بالإضافة للموارد الناتجة عن الطفرة الكبيرة في أسعار النفط آنئذٍ.. ومن نافلة القول الحديث عن كيف كان فؤاد جاهلاً بطبيعة البلد الذي وجد نفسه مرتحلاً إليه، وما عدا يوم سمع فيه عبد الناصر يدين عبد الكريم قاسم (الرئيس العراقي) فيصفه وصفاً هو قاسم العراق في إذاعة لا يتذكرها، فلم يعر لما سمع انتباهاً كبيراً، ولعله قد ترامى إليه أيضاً تلك العبارة القائمة على المبالغة المتمسحة بمسحة من الشوفينية المصرية : "مصر تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ"، وقد احتفرت في وجدانه ساقطة من طفولته التي قضاها إبان الفترة الناصرية،.. وبخلاف هذا، فقد جهل الفتى كل شيء آخر عن بلاد آشور، كان يبكي ويبكي، وحين تذكر صلاته الأخيرة في مسجد العمري بالإسكندرية أخذته سنة من النوم، وارتأى نفسه في منامه يرمم المسجد فيحيل صورته إلى شيء أكبر وأفضل في يوم يعود فيه إلى المدينة وقد أثرى واغتنى. ومضى فؤاد على جناح الاضطراب في ضروب المشاة ببغداد أول وصوله وجلس يسترد أنفاسه في مقهى الشابندر في نهاية شارع المتنبي، ونهض وقد لاحظ أن الورقة التي كانت قد دستها هدى في جيبه قد تعرقت بطول القبض عليها في يده حتى كاد يضيع معالم حبرها فيفسد المرموز بفساد الرمز، وأخذ يفسر طلاسمها الباقية محققاً ومدققاً حتى إذا بلغ واجهة حانوت الدمى الموصوف تنهد يجفف هذا العرق عن جبينه، وألفى أم سبع عيون على هذه الواجهة، هذه المطلية بالأرزق ذات القدرة - مثلما تزعم الأسطورة المنسوبة إلى الزمن البابلي - على امتصاص طاقة الحسد، ودلف بأولى خطاه فوق أرض خالها أقل حرارة من قيظ السبيل، وإن كان مجال الحانوت مملوءً بالبخار الذي خنق الأجواء نظراً لقيام صاحبه بتبخيره بمخبرة هي من النحاس الأحمر ذات شكول هنسية بديعة فيها بخور الحرمل، هذه الطاردة للشرور والنحس مثلما استقر في الإرث الشعبي العراقي،.. وحدس فؤاد من الشاهدين - أم سبع عيون ومبخرة الحرمل - بحقيقة اهتمام الرجل الزائد بالحسد، وتقدم متردداً يسأل هذا الجالس (بعد أن فرغ من التبخير فلم يعد يسع مجال الحانوت المزيد من طبقات الأدخنة المتكاثفة) :

- معذرة، هل أنت إبراهيم؟

وأجابه الرجل مستريباً، وقد ارتأى في تسرب الدخان عبر الباب المنفتح إضاعة مستهترة لجهده :

- كلا..

واستدار فؤاد عنه ومضى خطوة أو خطوتين وهو يأخذ يدقق في العنوان - كالمنصرف - حتى سمع الرجل يقول :

- إنني نجله.. اسمي رمزي..

وعاد فؤاد إليه يقول وقد استرد روحه :

- حسناً، جئتُ من طرف هدى..

 - إلهي !  تبدو صغيراً حقاً.. هل تعرف كيف تدير التجارة؟

وأبدى فؤاد تردداً يجيب وقد شق عليه الوقوف في الطقس الحار :

- جربت الوقوف في حانوت أبي بالإسكندرية..

ونهض يسأله بعد أن تموضع قرب لعبة قطار :

- وهل نجحت؟

وأجابه فؤاد في بداهة وتلقائية :

- أحسب أنني إذا نجحت بالإسكندرية ما كنت لأغادرها إلى غيرها !

وأثنى رمزي على رجاحة منطقه البسيط وابتسم، وبدأ فؤاد بدوره في استعياب حقيقة انتقاله إلى نمط الحياة الجديدة، يسأل البائع عن بعض مفردات العامية العراقية الغريبة عن أذنه فيجيبه رمزي بما يوازيها في فهمه. 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

  

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق