استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/09

صاعقة الحب

                                        الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب



اشتعل في فيلا لوران نقاش بين طه ونجله في خلفية أحداث الفتنة الطائفية التي بدأت في التكرار منذ حادث الخانكة في العائم الفائت، فكانت آنئذٍ ظاهرة جديدة حقيقة بالرصد وبالنقاش، يقول طه مما يقول:

- ومن عجب أنهم ينسون حقيقة أن أول رئيس وزراء مصري كان قبطياً، واسمه نوبار باشا، إنه أرمني منسي في تاريخ مصر الحديث.

وكان نعيم يقول :

- الدين - شأنه شأن الأعراف والعادات - يفترض به أن يؤلف بين القوم على اختلافاتهم الديموغرافية، كأنه الصمغ يربط بين الأشياء ويآخيها، غير أن الحال في بلادنا منقلب على عقبيه، فدعاة التعصب يستخدمون الدين كالماسة التي تقطع وحدة المجتمع وانصهاره فيصيرونه كالزجاج يستحيل إلى شطرين، دون أمل في إعادة اللحمة والالتئام.. إنني أستبعد الحرب، إذ كيف تنهض بلاد على هذه الدرجة من الشتات والتناحر بعبء يتطلب التآزر كعبء الحرب؟ (ثم وهو يرنو إلى أبي..) ألست من هذا الرأي الذي يهمل احتمال نشوب صراع جديد؟

وجعل طه يقول :

- لا أعرف، الأمور معلقة، تطلب الأيام الحالية أعصاباً فولاذية، كأنما قدت من جلمد..

كان ذهب قد جاء في حالة من النشوة غريبة - بعد أن ظفر باستحمام جديد في المغطس الخشبي- يقول :

- المؤامرة تقودها أطراف خارجية لتفرقة الشعب مستغلة محنته..

وذكر طه شيئاً عن الفتنة الدينيه فى مصر سنه 1321م، وفى عصر توليرانسى مزدهر اقتصادياً و ثقافياً هو عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، حين هوجمت كنائس المسيحين فقوبل الهجوم بهجوم آخر على مباني المسلمين، كادت الفتنة القديمة تتسبب في تدمير القاهرة، أتبع يقول :

- وعبارة يوأنس التاسع/يوحنا التاسع بطريك الأقباط الأرثوذكس :"سفهاء زي (مثل) سفهاءكم.." أريد بها أن تضفي الشرعية على سلوك المتعصبين الأقباط، إننا إذا نسبنا كل شيء إلى المؤامرة نكون كمن يدفن رأسه في الرمال، فأي مؤامرة كانت تحاك آنذاك؟ وأي أطراف خارجية من ذاك الزمان القديم بقيت لتبث شرورها في هذا الزمن المعاصر؟ فإذا حدث ونسب كل طرف من أطرف الأزمة المحلية الصنع المسؤولية إلى الآخر نكون كمن يسأل : هل أن الديك أم البيضة أسبق من الآخر وجوداً؟ من الخطأ الجسيم أن تستقوي الأغلبية بكثرتها فتنسى مبادئ المواطنة التي باتت تنظم المجتمعات في عصر الدول الحديثة، وكذلك أن تعتصم الأقلية بحبل آخر غير حبل القانون،.. ولا يهم إذا كان المسيح قد قام بعد الصلب أو رُفع قبل الصلب إذا وقف الجميع موقفاً وطنياً كريماً.

وكان من دأب طه - إذ هو الأكثر ثقافة بين الحضور - أن يستأثر باهتمام الجميع، وشغفهم، فكان إذا حضر صمت البقية، إنها مهابة يفرضها علمه الغزير وعمره المتقدم - ثم موقع الأبوة - دون أن يكون وراءها شيء من الخوف،.. وقال ذهب :

- سينسى الجميع هذه الخلافات إذا وفقنا في الحرب، إذ أن زهوة الظفر ستطغى على صغائر الأمور كالشمس، النفوس الصغيرة لا تعيش إلا في الظلال، إن مثل هذه الفتن من مخلفات الهزائم، وحين تخبو أشعة الفضيلة في مناخ اليأس العام يعود البشر إلى أدران الحيوانية والعصبية.

وكان طه يقول :

- لشد ما هو تصور متفاءل تنعم به !

وانصرف طه عن المجلس ثم عن مصر، إذ هو عزم على ترك البلاد حين أتاه خبر طرد الخبراء والعائلات الروسية، فاستشرف نذر المستقبل منيباً إلى عيادته في إيطاليا،.. نهض نعيم متثاقلاً - بعد انصراف أبيه - فمضى إلى حجرة عارف الذي أكمل ربيعه الخامس، كان نعيم يقرأ عليه - قبيل النوم - شيئاً من موسوعة علمية يقول :"وهكذا بدأ الوجود المعروف بالانفجار العظيم، مثلما كان الظهور الجيولوجي لمستحاثات أسلاف الحيوانات المألوفة ضمن السجل الأحفوري للأرض معزواً إلى الانفجار الكامبري.."، يحفظ عارف ما سمعه جيداً فإذا حضرت مريم جعل يكرر على أسماعها ما استوعبه، فيتمثل صورة المعلم الشارح، تسر المرأة به كأنها ترى لبنة جديدة قد أضيفت إلى بنائه القاصر الصغير، ولعها تساءلت : متى يأتي زمان تعود تفخر به فتتملص من شعور الشفقة المسيطر عليها نحوه؟ لشد ما هو مسكين خجول التطلع،.. تقول حين ينتهي في تدليل :"إنه عارف، اسم على مسمى.."، جاء ذهب بعشاء الطفل فكان طبقاً من المش، وقال :

- أريده أن يتعلم الزهد في الفيلا البيضاء حيث الحياة الموسعة، حيث المشيئة منطبقة تماماً على الإمكانية.

كان عارف ينادي ذهباً بحضرة الخادم، هكذا لقنه نعيم احترام الرجل الأسمر، انصرف ذهب ونام الطفل، أخبرت مريم نعيماً بحقيقة الوليد القادم، وأحس نعيم رهبة وهو يقول :

- ستكون أنثى، وسنسميها بآمال ! أجل، سنسيمها بهذا الاسم.

 

أكتوبر 1973م..

مكثت أميرة أياماً قلقة تنتظر نتائج الحرب، حتى إذا استمعت إلى حلمي البلك يتلو البيان الأول :" إنه وفى الساعة الـواحدة والنصف من بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقة الزغفرانة والسخنة فى خليح السويس بواسطة تشكيلات من قواتهم الجوية، مؤكداً أن قواتنا تقوم بالتصدي للقوات المُغيرة."، انتفض قلبها دقاً وضرباً، ثم جلست وقد تحيرت في مقلتيها دمعتان، ورغم البيانات الإيجابية التي جعلت تتواصل لم يعرف فؤادها معنى للطمأنينة، ولم يركن إلى السلام، بدت حياتها - بصمتها ومقالها - ثقيلة كأنها مصفدة اليدين، وطرحت الكآبة حين هبطت إلى حانوت أبيها عبد الغني الذي كان منخرطاً في إطعام الطيور على كرسيه ذي العجلتين، فقال :

- يظن الإنسان نفسه سيداً للأحياء، انظري إليها (أي الطيور) كيف تحلق ! وانظري إلينا كيف نغرق في حمأة الصراع والقلق.

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

كان الطائر يأخذ يلقط هذه الحبوب من يد الأب، وأهدى إليها (هدى) الرجل بعضاً مما كان في يده فما أن جعلت تفتح يدها تكشف عنهم (الحبوب) حتى احتشد الطير حولها، ينقرون يدها، فلما استهدفوا هامتها جعلت تهشهم منسحبة عنهم، وجعل عبد الغني يقول منتشياً، راضياً :

- إنهم يحبونك، مثلما كانوا يحبون خالتك (يريد صابرين)..

وجلست بعد أن نفضت عن يديها بقايا الحبوب تقول :

- إني أخشى على أباظة، حدثني عن الأجل والمصير قبل سفره الأخير، كأنما يرثي نفسه.

ودار الأب بكرسيه وهو يأخذ يهتف عبر النافذة :

- سأوزع الشربات عليكم جيمعاً إذا عاد زوج ابنتي غانماً من الحرب..

وحاولت أن تستوقفه تقول :  "لماذا تفعل هذا؟!"، وأجاب :

- إنني أعرف بطبائع البشر من طول عشرتي بهم،.. سيدعون لأباظة في الزوايا وفي الصلوات، ليس محبة في سلامته حقاً، ولكن طمعاً في الشربات !

وخرجت من الحانوت وقد عرفت نفسها شيئاً من الراحة، توزع حملها الثقيل على اثنين فخف وسهل، فلما رأت مراداً أحست رغبة في الحديث إليه، هذه المرة لم تنفعل ولم ترتبك ولم تمضي مسرعة أو تواسيه في مصاب وإنما اعترتها نقطة بين العواطف جمعاء، وظل الاثنان في صمتهما حتى بادر مراد إلى القول :

- هل انتهت الكلمات؟

وقالت وهي ترمق هذا الأفق :

- تبدو كذلك حقاً..

- سيعود أباظة غانماً.

وأومأت له دون حديث إذ أن طاقتها قد أفرغت ثم مضت في سبيلها، وفكرت في الأطفال الذين يلعبون الكرة غير واعين بمحنة الحدود، جاهلين بالاختبار الوجودي الذي يتهدد بلادهم، وهمست :"ما الجهل إلا نعمة،.."، كانوا يستحثونها على الوفاء بوعد الشربات، وكانت صائمة فلما عادت إلى البيت أحست رجفة ورعشة، شربت - على إثرها - الماء فما أن تسرب إلى حلقها حتى بثقته ولكنها كانت قد فطرت، ومضغت تمرات من العجوة سبعة، وجعلت تفت خبزاً ناشفاً رقيقاً تغرقه في شاي  بلبن، تقرب فمها إلى ملعقة تصطفي بها قوامه اللين، تأكله قبل أن يتعجن، وإنها كذلك حتى عاد إلى نفسها الاتزان وصبغت الأشياء في وعيها بالألوان.

 

 في منامها رأت أباظة يعبر القناة على قارب رفقة زميليه، بعد أن عبرت الطائرات، وهدرت المدافع، وفزعت الفئران تخرج من جوف الأرض، رأته على هذه الحال، فأشارت له، لمحها زميليه ولكنه لم ينتبه إلى وجودها، وجعلت تحذره فلا يصله صوتها - تحذره من طلقة أصاب صدره فتلون الماء بالحمرة، وخر بنيانه المثالي فجعلت تصرخ في الجنود تحثهم على تطبيبه، ولكن لا حياة لمن تنادي، الوقت وقت جد، الأخ يفر من أخيه، ما من مكترث تحت شمس الظهيرة، وبعد أن حمي الوطيس، اقتربت منه فتنبهت وعجبت كيف تسبح في الماء الذي تشرّب حمرة الدماء بغير عناء، ووعت حقيقة أنها عروس بحر، فعجبت لذيلها وبدا أنها استردت وعياً ما، وقالت :

- آسفة أنني خيبت ظنك.

وقال أباظة وبذلته - كجسده - مضرجة بالأحمر :

- أي ظن؟!

- حياة القناديل العائمة.

- حياة القناديل العائمة ليست إلا خدعة، لقد جمع بيننا عذاب مشترك، إنني راضٍ عن كل شيء.

- حقاً؟

-....

ونبتت في موضعه شجرة حمراء الأوراق كانت قد بلغت بعد انهيار الخط الدفاعي أفقاً فوق الأفق، وجالت فيها البصر مشدوهة، فلما عادت تهبط إلى الرجل على صفحة القناة لم تجده، هناك استيقظت، وكانت قد دامت غفلتها حتى مدفع الإفطار فتنبهت إلى زغاريد الحي، كان الناس يهتفون ويهللون في نشوة لا توصف احتفالاً بالأنباء الجديدة التي تخص الحرب، وارتأت في أيديهم أكواباً من الشربات، فأصابها الفزع حين عرض عليها واحد منهم كوباً، منادياً، إذ هي أبصرت فيه الدم.

بعد أن انتهت الحرب - في نهاية يوم الرابع والعشرين من أكتوبر - وحين استقرت جبهات القتال، لم يعد أباظة مع الجنود العائدين، صُعقت المرأة رغم كل المقدمات، وارتأت أن تلبي أمنيته في الإقامة بالحجرة رقم 307 في فندق سيسيل (بعد أن باعت شقة البحر الأحمر)، وحدها،  كانت زاهدة في كل ما رأت هناك، فلا عادت تحرك التحف العتيقة ولا الأسقف المذهبة ساكناً في نفس أَلِفَتْ الحزن، واستوطن فيها الأسى،.. واعتصمت بحبل الإنسانية تداري كلوم نفسها، عادت تقرأ رسالته في شرفة شرقية، فتردد مقاله كالأصداء البعيدة في مخيالها، وأسبلت الأدمع مدراراً، وهي تمضي بين الأسطر على جناح التأثر :

"إنني أرى أن السعادة الحقة لا تكون إلا حين يحس المرء لطف القدر، فإذا لم يكن القدر كريماً بما يكفي فلتكن نفوسنا كريمة في التعامل معه، وهنا نحس سعادة مشبعة بالخلق والفضيلة..".

فلما انتهت دعت له بفردوس له أول، وليس له آخر، ينهل فيه من صنوف النعم إيان يشاء، واستحمت فغسلت شعرها بزيت اللوز ونامت..

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

  

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق