استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/05

قلب كارمن

                                 الفصل الخامس عشر: قلب كارمن



نبت حسين في بيئة باريس منقطع العرى والأواصر ببيئته الأم في الإسكندرية، كان في الثالثة عشر وقد أبدى مبكراً وجهاً عصياً على القياد، أقرب إلى أمه المتأنقة من أبيه العفوي فلا يراه - إن هو حضر - إلا ضيفاً ثقيلاً، كان يوسف بدوره جاهلاً بعالمه يغضبه شعوره الدفين بأن وجوده في وعي نجله الأصغر وغيابه سيان، وكأنما تجلت في حالة المراهق آفة بعض أبناء المهاجرين من الاغتراب الثقافي عن البيئة الأم الناتج عن التشبع بمفردات حياة المناخ الجديد، ونضحت أكثر في تمرده على تعلم العربية، رغم إلحاح أبيه، ويوماً قال له :

- "لماذا تلح عليَّ بتعلم لغة القوم المهزومين؟".

وقال يوسف منفعلاً :

- "ويحك ! من قمم الجهل أن تنسب الهزيمة إلى لغة هي محض لسان تتحدث به، تحمل اللغة - أي لغة - فكراً معيباً أو سليماً، تتحمل الفكر وحدها وزر النتائج العملية في الميدان الواقعي.. إنها (أي العربية ) ثرية غنية، تتقبل أساليب شتى : من الفلسفي الصرف إلى الشاعري الحالم..".

وقال الابن :

- "اللغة رسول الثقافة،.. وقد أوصلتكم ثقافتكم إلى الحضيض،.. حدثتني يوماً عن سلامة موسى الذي عاب على العربية تكلفها، ودعا إلى كتابتها بالحروف اللاتينية، فعدها وثبة نحو المستقبل، سأتعلم عربية الحروف اللاتينية.. لماذا تسمون العربية باسمه أصلاً ما دامت هي خليطاً من الأرامية والنبطية وغيرهما من لغات بلاد ما بين النهرين؟".

كان يوسف - وفي أعقاب تشخيص حالته النفسانية بالاضطراب الوهامي - قد اعتمد الشاي الأخضر بديلاً للأحمر ناجعاً، الظروف ضاغطة، ويروق للرجل أن يشعر بالهدوء، وأن يحيط حياته بدواعيه، علاوة على أنه لا ينفك يتعلق بما يحدث في مصر، وديدن المتعلق ألا يعرف الوئام أو السلام، قال يوسف وهو يجهز البراد فيضع ملاعقاً للسكر سبعة، وللشاي اثنتين، يعقبهما بشيء من النعاع في قارورة حافظة من الستانلس ستيل - قال بعد أن فرغ من هذا كله :

- "كان الأديب سلامة موسى ليتبرأ منك إذا هو سمعك تقول ما تقول، لا أساس لحديثك في علم اللسانيات فثمة فارق بين المشترك من المفردات عند لغات شقيقة هي ابنة العائلة عينها،.. وبين المعرب والدخيل الذي يأتي من طريق التداول والتشابك الثقافي،.. تحرص على دروس البيانو وتهمل دروس اللغة وإلا لأدركت الجهل الناضح في حديثك..".

وقال حسين :

- "لأنني أحب الأولى وأكره الثانية ببساطة،.. لقد بحثت في الأمر ولا تحسبني متحاملاً قشرياً : توحيد العرب أدى إلى تدمير الثقافات المحلية وطمس اللهجات التاريخية لصالح لهجة قريش، التي تطورت عنها الفصحى خلال العصر الأموي،.. زملائي في دروس الموسيقى يتهامسون سخرية قائلين بأنكم لم تنتصروا منذ خمسمائة عام في حرب خضتموها..".

- "لا تحدثني بضمير المخاطب.. أنت عربي ولو أنكرت..".

- "خير للعربية أن تندثر، أنها لغة عسيرة على التعلم، صعبة على المواكبة، عفا عليها في زمن ديدنه السرعة والتقلب، إنها نوع من الشطرنج، يحتاج فيه المتكلم إلى تأمل موضع الكلمة من العبارة قبل النطق بها، من جهة النحو والإعراب، كما يتأمل لاعب الشطرنج موضع الحجارة قبل التحرك، ستنقرض مثلما انقرضت اللاتينية يوماً..".

وقال يوسف :

- "أحيا الأشكناز من اليهود لغة لم ينطق بها أجدادهم إلا في الصلوات، وتريد أن تنهي في رمية سيرة لغة معجمها هو فوق الإنجليزية والفرنسية،.. فلتتقن لغة الشعوب المتحضرة ولتبعث نفساً جديداً في لغتك الأم..".

كانت عفاف تأخذ تقول :

- "فلترفق به، وبما يحب، اتفقنا على أن تدفعه وألا تقف أمامه..".

كان حسين قد جلس على كرسي البيانو، عديم الظهر، واطئ المستوى يتجهز كيما يعزف مقطوعة توكاتا وفوجا، أشهر مقطوعات باخ، مفاتيح البيانو الثمين مصنوعة من عاج الفيل، يتآلف تكوينه من صندوق الطنين، وحامل الأوتار، وآلية المطارق، ولوحة الملامس، والدواسات والجسم الخشبي، يتآلف كل أولئك في تكوين رائع الجمال والرونق، أجاد حسين عزف النغمات، وجعلت الأم تصفق له راضية كل الرضا، جعل دخان البراد يتسرب من الفوهة المستطالة، وتذكر يوسف حقيقة أنه ترك الشاي مدة تناهز الدقائق العشر حين انشغل بالعرض الموسيقي البيتي فنهض كيما يصب الماء المغلي في قارورة الستالنس ستيل، وسكبه حتى انتهت بقبقة فقاقيعه وخمدت غَطْغَطته، ثم عاد بالمشروب إلى نجله الذي كان قد مر بعزفه في قفزات عابرة على شوبان (المقطوعة الحالمة رقم 1 Florence Robineau) وموتسارت (مقطوعة ضوء القمر) فحاز إعجاب الأم في كل مرة تضرب فيها أنامله الرفيعة أزرار الآلة الوترية، وقالت ليوسف حين عاد، مبهورة الأنفاس كأنما وعت عجباً :

- "لماذا يحتاج إلى تعلم العربية إذا هو يعزف لغة الجمال ذاتها؟!".

وقال يوسف وهو يصب في كوبه الشاي فتبدو الأشياء وراء البخار أشبه إلى رؤية قائد السيارة في منطقة سرابية :

- "عزيزتي، أنتِ ساذجة حد أنك لا ترين المشكلة في أن ينبذ ابنك أصوله وجذوره.. إنها كارثة لا يبررها أو يشفع لها العزف الجيد من وجه..".

وقالت :

- "تأخذ الأشياء على محمل من الجد منذ صُنفت حالتك النفسانية على النحو المعروف..".

وقال بعد أن بثق رشفة الشاي فتنبه إلى سخونته ومرارته :

- "كان تشخيصاً خاطئاً، إن عقلي سليم، أشد سلامة من عقول النبهاء، وأقرب إلى الواقعية من أبرع العمليين..".

كان حسين قد جعل ينهض عن جلسة البيانو فقالت وقد وجدت الفرصة سانحة لتنطق بما في جوفها دون خوف من سماع الابن :

- "مصارحة النفس أقرب السبل إلى الحقيقة، تخايل إليك القط الرمادي، وعدوت خلف أسراب الذات في غير مرة..".

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وقال في مكابرة يشيع فيها الحزن والإشفاق، مستخدماً العربية لأول مرة:

- إنني مشاغب مجنون، أجل.. إنني كذلك ولا أنكر هذا الذي يتلازم مع سجيتي من الجموح  المحسوب، كنت في شبابي أقف على أكتاف الرجل فاتلقف الأطباق الطائرة تأتيني من غيره وأنا على هذه الحال المعلقة، أضحكت ما لا يحصى من البشر، ونزعت من حياتهم سُميتها، ثم أزلت عنها جلف الرتابة والسأم،.. (وضرب على زر البيانو ضربة عابثة أصابت حرف الدو ثم قال..) من أسف أن الطب الحديث بات يصنف الجنون مرضاً يستوجب العناية والتطبيب..

 

في مساء هذا اليوم كان درس الموسيقى قد بدأ في بيت يوسف، يجلس حسين مع نفر من المتعلمين في هيئة الاستعداد للتلقي، فيما تحكي المعلمة عن قصة أوبرا كارمن، تقول :

- "كانت فتاة غجرية حسناء، ومتعجرفة، تحاول إغواء الرجال، ومنهم الجندي دون خوسيه، الذي يتخلى بدوره عن حبيبته وواجباته العسكرية، ليكسب الرجل قلب كارمن، ينتهي به المطاف إلى قتلها بسبب غيرته من مُصارِع الثيران إسكاميلو الذي وقعت المرأة في حبه..".

يبدأ المتعملون في العزف ويجيء الدور على زهير الذي يعزف دون نظر إلى النوتة الموسيقية، تعزم المدرسة على أن تعاقبه عقابها المألوف :  أن يهبط غطاء الأزرار على أصابعه، يقول كمن يستجدي صفحاً أخيراً :

- "ولكنني لم أخطئ في حرف واحد..".

- "القواعد هي القواعد..".

تكاد المدرسة تنفذ العقاب فتقترب عفاف منها وتقول فزعة :

- "لا تفعلي هذا.. لا تفعلي هذا..".

فيما يقف يوسف بلا حراك، يلقي على الحضور نظرة ثم يمضي.

 

مايو 1971م..

كان فؤاد قد جمع من الحمّال ما أهلّه أن يدفع الأقساط الأولى لسيارة حسني، قصد الفتى إلى الحانوت مستخدماً المركبة الجديدة فلما بلغه استخدم البوق (الكلاكس) كيما ينبه من بالداخل إلى حضوره، وذهل حسني الذي كان منخرطاً في تلميع خوذ الدراجات الهوائية - ذهل مما رأى، ولم ينبس ببنت شفة وإن طفرت عيناه بدمعة، أو دمعتين، ماسيتين، لقد أبصر الرجل حلمه.. وجعل فؤاداً يهتف فيه :

- حدثتني يوماً عن حلمك الضائع، وها قد جئت لكَ به !

وقال حسني الذي كان خبيراً بسيارات هذا العصر، يتفحص هدية فؤاد :

- volkswagen beetle، تشبه الخنفساء الكبيرة ولكنها تفي بالغرض!

ذلك اليوم وهب حسني دراجاته الهوائية جميعها للحمّال، وقال حين ألفاهم أمامه بعد أن جمعهم فؤاد له :

- ستكون لكم (أي الدراجات الهوائية) ليوم واحد، عرفاناً بالجميل..

وحدث أن انطلق الموكب الكبير تتقدمه السيارة الزرقاء ذات المصابيح البيضاء، وخلفها جمهرة من الدراجات الزرقاء والحمراء، أمست حركتهم الحاشدة حديث المدينة، يذكرهم من رآهم، ويتندر بهم من سمع عنهم، وبلغوا أبا قير، هناك تحطم أسطول نابليون بونابرت وأمام هاته الشطآن على يد الأسطول الإنجليزي، يوماً، وكان فؤاد يقول بينما تخيم زرقة مغربية مشبعة بحمرة :

- لقد انتهى سعينا لدى هذا المكان الرائع، وآن لنا أن نعود إلى الإسكندرية القديمة مجدداً.

واستداروا جميعاً فانقلب المسير، الدراجات في الصدارة والسيارة تمضي في الخلف، طفق الأهالي يصفقون في حين تسبب الزحام في حنق التجار، واستوقف ضابط المرور هذا المسير يقول :

- أريد رخصة هذه السيارة،.. (وانقلب سخطه تجاه راكبي الدراجات جملة فجعل يقول..) أين بطاقاتكم الشخصية؟ وماذا تعملون؟!  

وارتبكوا جميعاً ولم يدروا ماذا يصنعون؟ ودب الصمت في مظاهرة النشوة المشيعة بالتصفيق والتهليل، أشار فؤاد إلى الحمال (راكبي الدراجات) بالمضي قدماً وعدم الاكتراث، وعبثت أولى الدراجات بسلطة الضابط المعنوية فتبعها البقية من الدراجات غير مكترثين، انتهاءً بالسيارة الخنفساء، وتجلت الأشياء هازلة على مسرح عابث في غيبة من نظام، عاد الموكب الذي تشتت سعيه، وانفرط تكوينه، عاد إلى كرموز من سبل متفرقة، التقى فؤاد بحسني في حانوته، كانت صورة الرئيس عبد الناصر المعلقة بشارتها السوداء قد تنحت وحل محلها صورة الرئيس الجديد السادات، هذا الذي استوى بدوره على كرسي الحكم بعد 15 مايو (ما عُرف بثورة التصحيح)، وقال حسني لفؤاد في حين طفقت الدراجات تتواتر على العودة مع رجوع الحمال تباعاً :

- لقد أخطأنا حين تخطينا الشرطي..

وقال فؤاد في شغب طفولي :

- أراد أن يضبط النظام على حساب البهجة التي كانت تملؤنا..

وقال حسني :

- إنه واجبه على أي حال،.. ولماذا لم تفصح له عن عمل الأفندية (يريد الحمّال)؟

- إنهم يعملون معي في جبل نعسة دون علم القانون الذي لا يتحصل منهم على ضريبة..

ونظر حسني إلى عربته نظرة يشيع فيها لون من الازدراء :

- تقصد أنك جئت بها من مال مأثوم؟

- المهم أنني جئت بها..

- سينكشف سترك يوماً، ستعلم الحكومة بما تخفيه أنت وأصحابك.

- ماذا جنيت منهم طوال سنوات انتظار إلا الوعود الكاذبة؟ وأعجب العجب أنك قد صورت لي خيبتك على عهد الملكية فالاشتراكية، أجل.. أنت نفسك نطقت بهذا..

وطرده حسني من حانوته حين عاد آخر الحمال بدراجته، يقول :

- فلتأخذ عربتك معك.. (ثم حين يخلو الحانوت إلا منه فيعود يلمّع هاته الخوذ ويغلق بابه نصف إغلاق..) كنت أعلم أنني عثر الحظ، دائماً !

وجلس (حسني) جِلسة يلفها البؤس والتبرم.

 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

  

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق