استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/25

حوار على مقهى إيليت

                                            الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت



أرادت ابتهال أن تبحث عن إقامة لها ولأخيها أنور ولأبيها رضوان وقد شق عليها أن تقيم في بيت هو ليس لها، مضت رغبتها هذه في سبيل مضاد لرغبة رضوان الذي شاء الإقامة في البيت المنعم بما فيه من مائدة البليارد التي وجد فيها تسلية حين كان يشرع في تحدي يوسف فيغلبه (يعاني يوسف كيما يضرب الكرات البعيدة بـ "الأستيك" لقصر قامته)، علاوة - وهو الأهم - على ما تستطيع ابتهال تحقيقه داخل البيت ولا تستطيعه خارجه : من آمال الارتباط المنشود بحسين، باعت المرأة خُلخاليها الفضيين إذاً وبعض ما لها من زينة مذهبة، ووقفت تهمس بالأمنية في شُرفة البيت حين هبط هذا الشهاب استناداً إلى أسطورة بطليموس (عالم الفلك اليوناني)، وكأنما تبوح بما لديها إلى الإلهة التي يحدث - بدافع الملل أو الفضول وفقاً للأسطورة عينها - أن تنظر إلى الأرض فتنزلق النجوم من الفجوات وتظهر في صورة الشهب، وهبط حسين من سلم خشبي لولبي يخترق هذا السقف، ثم مضى إليها فقال لها :

- إني أعرف أي أمنية بُحت بها.. تريدين منزلاً رائعاً يغنيك عمن انتزعته منكِ أيدي الحي.

والتفتت إليه في شيء من مباغتة لاستغراقها في نجواها سرعان ما تداركتها، تقول :

- سأبيع هذين أيضاً لأجل أمنيتي هذه..

وأشارت إلى قرطين من الذهب المشغول بتطريز يدوي، تنام في شباكهما لؤلؤتان صافيتان تبرقان بريقاً خافتاً حيياً، ثم أردفت :

- لم يتبقَ سوى القليل قبل أن نصل إلى الرقم الذي نستطيع معه الاستقلال في سكنانا الجديد.

وأزعجه حديثها، فتساءل :

- هل ساءك الوجود هنا؟

وقالت :

- كلا، إنه (أي مقامها وأسرتها في بيت يوسف) من الترف حد أنه لا يناسب أسرة متوسطة كأسرتنا، علاوة على أنني اشتقت إلى صورة البحر، وفي قناعتي لا يهم إذا كان المبنى منعماً بالإستبرق أو مفروشاً بالزرابي إذا لم يكن يطل على بحر.

وقال يستعيد خاطراً في نفسه وقد تألقت عيناه كمصباح قديم :

- أتدرين أني كنت في خوف منه (أي من البحر) حتى كان يوم ذهبت إليه بخوفي فتحررت منه؟

وقالت فيما تبصر صورة العمارات الكونكريتية (الخرسانية) من أمامها تحجب الرؤية عن البحر في المدينة الساحلية :

- أجل، إنه لجبار عظيم، تسببت ملوحته في تصدع جدران سكنانا القديمة، وإن ظل وفياً للحدود التي رسمها له البشر إلا في حالات المد حين شعشعة القمر.

وسألها حسين :

- كم تبقى من ثمن المسكن الجديد؟

وقالت في تركيز واضح غير هائم، لأول مرة :

- أقل القليل، حتى أنني صرت أعجب من حاجتنا التي تجعلنا غير قادرين على الوفاء بمثل هذه الإضافة الطفيفة التي تعوزنا، أبي يدبر الأمر بنفسه، ثمة أشياء تُستجد - كالفرش والتجهيز - من حيث لا ندري وتحتاج إلى المال..

وقال حسين يتظاهر بالتفكير في الأمر لأول مرة :

- أقل القليل؟ كثمن عقد من العاج؟

وعطف الشاب تساؤله بأن خلع عقد العاج - الذي وهبه له يوسف ذات يوم - عن عنقه فأهداها إياه، وقبلت ابتهال به سارة ممتنة، بوسعها الآن - وقد بلغت إرادتها مستوى أمانيها - أن تستقل بمقام ترى فيه البحر، غير أن زهران ولما علم بالأمر استوحشه، وقال :

- لماذا قبلتِ بالعقد؟

وتساءلت تجيبه على سؤاله بسؤال :

- قل ولمَ أرفضه؟

- كان يجب أن نبقى ريثما تختمر الأمور بينكما أكثر، ولو أنكِ رفضتِه لامتلكت ذريعة ذات وجاهة لإطالة الأمر أكثر وأكثر.

وتجهمت في انفعال تقول :

- كنت تزيد من تكلفة المسكن على الدوام لأجل ذاك إذاً، افتعلت الأمر وقد حسبتك من الصادقين.

وقطع حديثهما مجيء يوسف الذي طفق يقول لزهران في غير اكتراث أو وعي اجتماعي لما يدور حوله :

- سأفتقد لمنافستنا وجلساتنا حول مائدة البليارد.

وكان زهران يقول في مزاح ثقيل :

- إلام ستفتقد؟ كنت خاسراً على الدوام.

وقال يوسف :

- سأودعكما وداعاً كريماً في مقهى "إيليت"، على تبجحك، لأجل الآنسة (أي ابتهال)، ولأجل الورد يسقى العليق.

وفي أشهر مقاهي الجاليات اليونانية بالخمسينيات اجتمعوا جميعاً، كان المكان أشبه إلى كوخ كبير ذي نوافذ زجاجية واسعة يحفل بالمتقاعدين المسنين وغيرهم من الأعمار الأصغر، اختاروا جميعاً مأكولات ومشروبات يونانية - بتوصية من يوسف - ما خلا زهران الذي آثر الشرقي من الطعام، وعلت موسيقة أوروبية كلاسيكية، وجدها يوسف فرصة للحديث عن كفافيس الذي يحب أن يلتف دائماً كي يعرج إليه، قال بعد أن أبصر بورتريه له معلق على الحائط :

- كان المقهى مملوكاً لـ «كريستينا كوستانتينو»، إحدى أشهر ملهمات صديقي كفافيس في خواتيم أيامه.

ومضى يوسف يتحدث عن كفافيس بلا توقف، فيما جعل حسين يهمس في أذن ابتهال :

- لقد ضُغط على الزر، ولن يوقفه أحد.

وتدخل زهران يقطع استرسال يوسف الذي كان قريباً من النهاية لسيرة شاعره المفضل يقول :

- وهكذا، أعزائي، اختطف سرطان الحنجرة أبرع شعراء الإسكندرية، فإذا أصاب الداء الخبيث حنجرته فقد قصر عن أن يخرسه وقصائده لا تزال تتردد بألف حنجرة من حناجر محبيه..

- معذرة، معذرة،.. (ثم بعد أن يسود الصمت بسكوت يوسف..) إننا ممتنون لفترة تحملتمونا فيها، واليوم انتهت محنتنا، لقد أفرغ أنور قبعته من تراب البيت القديم الذي احتفظ به ذكرى احتفاءً بالمناسبة، إن لكم في المقابل من معروفكم الذي لا يُغبن يوماً نقضيه عند البحر، في مقامانا الجديد، ولدى القوارب المزينة بالأقمشة والسجاجيد الملونتين..

وابتهجت ابتهال بحديث أبيها الذي بدا رزيناً رصيناً، غير أنه أتبع يقول :

- وأما عقد العاج ففوق طاقة القبول به،.. ستعيده ابتهال إلى صاحبه (حسين)، الذي يستطيع بدوره أن يهبه إياها في سياق رسمي، كطلب الخِطبة..

وهناك زمت الفتاة شفتيها فنهضت عن الاجتماع غاضبة.

 

في الكويت..

قضى فؤاد أيامه الأولى بعد عودته إلى الكويت في عبادة، يتحنث الليالي، وافقت عودته حلول شهر رمضان وقد تدثر البلد الخليجي المتدين وأهلوه - لأجل ذاك - بدثار من التقوى، وإن لم يفارقه طيف جارته غادة المسيحية الذي كان يتقافز بدوره إلى خاطره في خضم ما كان يؤديه من مناسك، أو ينهض به من شعائر، فإذا هو أراد أن يميته - لاعتقاده في انشغاله بما هو أهم - عاد يجيئه من حيث لا يحتسب، فيفسد عليه عبادته وتنسكه، كان يتذكر الصراع الديني الذي نشب بين جيران النطاق الواحد، فسيئت لأجله الوجوه واسْتَذْفَرَ كل فريق بما لديه من الأمر وكأنما قد عمي عن غيره، فانتهكت الحمية الفارغة مغازي الأقداس، وطوحت بمرامي الشرائع، فيتساءل : من ذا الذي ترك عقب السيجار مشتعلاً كيما يحرق محصول الوطن المشترك؟ وكيف أنقذه حسن تصرف الفتاة القبطية من مصير مخيف حين أمسك الفزع لسانه؟ ثم يعرج إلى لواذ الفتاة به في حجرته فيعود يتساءل : لمَ يفرض التبتل على من لم يختره؟ وهل يحتاج الإله العظيم إلى سيوف ترفع، وعيون تسمل، وجماجم رؤوس، هنا أو هناك؟ ثم أليست السماء بغنية عن صيحات الغوغاء ونقمة الرعاع ورؤية القاصرين؟ ومن ذا يتحمل معرة هاته الأفاعيل ومغبتها إذا تنصل منها الجميع؟ من المأجور في الفرقتين؟ ومن الموزور؟ لقد حوت هذه الأسئلة في نفسه على نار ونور، وقد حوت هذه الأسئلة على ما قد شغله حقاً عن شأن العبادة،.. لقد رأى في جارته غادة نافذة إلى إنسانية سمحاء فوق المذاهب، وغدا يتذكر صورتها - القريبة من حجاب السيدة مريم - حين كان يتعطر بهذا الْمِسْك الْأَذْفَر، فامتلأت روحه بنغمة رقيقة مثلما فاض منه الطيب..

 

وكان ثمة خلاف غير خفي بين صاحب الحانوتين : رمزي، الرجل العراقي الصارم، وبين رئيسه المباشر في الكويت - الذي هو مرؤوس للأول في الوقت عينه - أمجد، العجوز الرصين، وكان مما يزعج أمجد أن يشنأه رمزي في زيارته القصيرة فيغمز قناته بحديث عن العراق الذي كان يملك الكويت - لولا بريطانيا ورغبتها في تصغير ميناء العراق على الخليج - دون أن يكون بوسعه أن يرد الأذى عن نفسه لوقوعه في نطاق المرؤوسية الذي يجعل جوابه خجولاً، مبتسراً، ولقد كان يمتلأ رأس فؤاد بالإنزعاج لحياده في القضية التي لا يعلم عنها الكثير، وقد كان رأسه - في الحق - لدى لإسكندرية، وجارته غادة، ويوم لمعت السيوف ثم تفرقت الحشود في فتنة قُدر لها أن توأد في المهد، لم يفارق نطاق هذا كله،.. إنه عامل بنصيحة الأم له بعدم التدخل في شؤون غريبة عنه، فيعد اغترابه - كشأن أكثر المهاجرين المصريين إلى الخليج في عين الفترة - "فترة جمع النقود التي تسبق الراحة الحقيقية."، وإنه لمحب لأمجد صديق له فيجالسه في أوقات يذكر له فيها الآخر أشعار المتنبي فيستأنس بها ويحفظ بعضها، ويعرف منه أن أكبر شعراء العرب (المتنبي) كان قُرْمُطِيًّا بزعمه المبني على استقراء التاريخ، وانتزعه أمجد مما هو فيه فقال كأنما يرمي حديثاً يروم أن يرى أثره في نفس من يسمعه :

- ومشكل رمزي أن شنبه الكث يحجب عنه صورة الحقيقة، لشد ما هو جهول رقيع ! ولو سألته عن الكويت ما أجابك - إن أجابك - إلا بأنها بلد ساحلية مارس أهلوها التجارة البحرية والغوص على اللؤلؤ فترة دون أن ينفذ حقاً إلى عمق التاريخ ! والمعرفة شرط من شرائط الحكم السليم، لقد حظي بالعقل من طريق خاطئ، إن صورة رخوة للنخاع الشوكيِّ تكفيه !

وأجابه فؤاد في غير كثير اهتمام :

- وقد آليت على نفسي اعتزال مواطن الفتنة جمعاءً، عملاً بنصيحة أمي.

واستحسن أمجد جوابه فكأنما حدس بأن تمادي الآخر في جواب غير هذا سيزيد من تورطه في اغتياب الرجل الذي يحمل عليه المآخذ، فقال :

- أحسنت، ليته فعل مثلك فترك الخوض فيما يجهله ولا يحسنه، (ثم وهو يتطلع إلى صورة الحسابات التي كان قد أجراها فؤاد فيحذق إلى سلامتها..) إنه لمهدر طاقتنا في نقاش أجوف على نحو يضر بالمسائل الجادة التي منها ننكسب قوت اليوم والغد، المتشتت بين أمرين مضيع جهده بينهما، والملتفت لا يصل، كقول أولاء المسمون بالصوفيين.

- هل أنت صوفي؟

- بل أنا زعيم أنهم دجاجلة نصابون، ولكن بعض حديثهم مما يستفاد منه في تنقية الروح، كثيرون من المداورين المناورين والمرائين المداجين يستحبون الاختفاء وراء رداء الفضيلة، لأنه أبعد المناطق من الاشتباه.

وقال فؤاد :

- بعض حديثهم طلي رائق..

وأجابه أمجد متأثراً بنسخته الأكثر تشدداً في شيء من غلواء :

- الرائق من حديثهم مختلف عليه أو غير صحيح أو في غير موضعه : كشأن الذي يستخدم قوس الكمان يرسم به لوحة.

وقال فؤاد يعود إلى النقطة الأساسية بعد أن يخطو نحوه خطوة أو اثنتين :

- إن خيراً لكما (يريد أمجد ورمزي) أن تنشغلا ببلادنكم من أن تطلعا إلى مثل هذا من غث الحديث، فلتسمعني : يخيل إليَّ أن شر عدو للعرب هم أنفسهم، وإذا كان منهم من هو دائم النقمة على اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت - بزعم الناقمين - الأمة الوحدة إلى فرق وأشياع، فإني زعيم أنها حملت خيراً لهم، إنهم إن تركوا وشأنهم لقسموا أرضيهم إلى مئة حتة وحتة، ثمة برميل من البارود لا يكف عن إحداث الدمار، سمه صورة من العصبية المفرطة أو نسخة من التدين المقيت، إنه داء عضال، يشتعل كطنين النحل أو رنين الجرس يسمعه المصاب بصرع فيبدأ في أعراضه المعروفة، إنه كعب أخيل العرب.. ماذا يفيد مثل ذاك الإقذاع وبلادنا على هذا الحال؟ لماذا تركتُ (يريد نفسه) مصراً وأتيت إلى هنا إلا لو أن عطباً حقيقياً قد نزل بها؟ إنهم يقولون : فلنلزم الأسلم من الحديث بدلاً من أن نزيد الناس حيرة وبلبالاً، وخاطبوا العوام على قدر عقولهم كأنهم القصر فاقدوا الهويات، غير أن الإشكال يزداد حراجة وضيقاً، وأموره متداخلة يأخذ بعضها برقاب بعض، لقد وضعوا حولنا خطوطاً حمراء حتى صارت الأرض كلها حمراء!

وغضب أمجد من حديث الفتى فكأنما ترك في فمه مرارة واكتفى بقوله :

- فلتعد إلى ما كنت فيه.. يا تعسها من كلمة قد قلتها ! لقد أهملت صلاة المغرب، وقد ألقى الشيطان - لأجل ذاك - في حديثك ! ستصلي ما فوَّته بعد أن تتم العمل.

وطاوعه فؤاد في تصرف يشرب من ماء القناعة، فسار على رؤوس أصابعه إلى حيث كان، عتا الهواء من جهة الخارج في طقس حار ذي لهيب، استروح الفتى إلى النسمة تكفيه عناء التفكر. 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق