نقاش عند حلواني ديليس

     الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس





قضى زهير أياماً عصيبة في باريس يريد أن يتأقلم على حقيقة ما وقع من خيانة "زوجه" إيفون له، وانسحابها المستهتر من حياته، ومرت به أيام من البارانويا الخفيفة والقتامة، وكان يحدث أن يستولي عليه حنق مسعور يعود يهدأ بعده لطبيعته المرهفة فيحس نفسه كأخف من الريشة، وهكذا تقلب بين متناقضات الشعور،.. وانتهى به الحال بعدها إلى قرار الطلاق من المرأة التي غَمَصَت النِّعْمَةَ وغَمَطَتها، وشق عليها أن تصاحبه في "رهبنته" الفنية، فطعنته بخنجر الخيانة المسموم،.. فلما انتقلت الأنباء إلى الإسكندرية - عبر وسيط الأم (وصفت عفاف إيفون بـ"العقربة" التي لا ترضى إلا بتدمير نجليها، وأما تدبيرها فذاهب كما ذهب رماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف - اختلف الاستقبال بين حزن الأب وبين شماتة الأخ، وكان الأخير (حسين) منتشياً بحياته الجديدة في المدينة التي استقبلته يوم كان على حافة اليأس فوهبته من الأصدقاء والنعمة ما جعله يعيد النظر في موقفه من كآبة الحياة وعبثيتها، أو "فضيحة الوجود" بتعبيره القديم الذي قد نسخته ظروفه الجديدة،.. وكان يوسف يحاول الخروج من حزنه على نجله البعيد فاقتني تلسكوباً بيتياً يريد أن يرصد به ظاهرة اقتران كوكب الزهرة مع الحشد النجمي المعروف بخلية النحل Beehive، كأحد الهواة الجدد للفلك، ثم هو يعد لنفسه أرزاً بجوز الهند، وبرمة كانت قد أخذت تفور على موقدها بلحم كالحمم، فجاءه حسين يقول :

- لعبت بنا (يريد نفسه وأخاه) الحياة لعبة الكراسي الموسيقية..

وانصرف يوسف عما كان منغمساً فيه من التحديق في عدسة التلسكوب فقال :

- بل لعبت بكما الفتاة الفرنسية (إيفون)..

وقال :

- يظل العربي عربياً ولو قضى حياته كلها في بيئة أوروبية، لقد آثرت علينا ابن جلدتها لأنه إليها أقرب.

- لا أريد منك أن تشمت بما نزل بأخيك،.. هل رويت لك غيرة قابيل من هابيل؟

- لا حاجة بك إلى إعادة قص الرواية المعروفة، إنه مني، وأنا منه، ولست أشمت بمحنته إلا لو أني قد اعتليت بالسادية، لقد بدلني الله بخير منها.

وشاعت الريبة على وجه الأب الذي كان يستبعد - وعلى نحو غريب وساذج جداً - أن يفكر نجله في الزواج بابتهال، وجعلت البرمة تفور أكثر فقصد الابن إلى الموقد حتى اطفأها، وعاد يقول :

- زهران دعانا إلى قضاء ليلة لدى القوارب المزينة بالأقمشة والسجاجيد الملونتين احتفاءً بمقامه الجديد..

وقال يوسف مبهوراً بما يرى على صفحة السماء :

- إني ما رأيت رجلاً قط دونه تنزلاً في عرض ابنته..

وأخذ حسين يوافقه يقول :

- أجل، والمؤسف أنها دون الحاجة إلى مثل ذاك التنزل إذ هي رائعة الجمال، زاهدة في التكلف، لا عيب فيها.

كان يوسف يرى في وصف نجله للمرأة مبالغة كأنه "ينتقي الكرز"، ولعله حدس بأن تجربة المرأة الأوروبية تركت في نفسه مرارة صار معها مثمناً أكثر لما تبديه جل النساء الشرقيات عادة من الإخلاص، ولكنه لم يفاتحه فيما دار في خلده آنذاك، كان مشهد السماء الذي افتتن به عامراً بالنجوم التي توزعت فيما يشبه الفوضى الخلاقة، وتجهز حسين رفقة أباه للمناسبة التي كانت إلى طلب الخِطبة أشبه، فارتدى صديرياً جديداً من الكتان، كان حسين من فرط الجمال حتى أنه أصيب بهاتف من الخجل حين رأى صورة نفسه في المرآة فجعل يقلل من أهمية الجمال بالنسبة إلى الرجال بالعموم، وقصدا إلى العنوان الموصوف لكن ابتهال استقبلت الزائرين تقول في عاطفة محمومة :

- فلتنقذا أبي،.. سيدفع حياته ثمناً للمراهنات !

سار الرجلان في إثر المرأة التي طفقت تقودهما إلى نطاق مشحون بالجمهور في إحدى المقاهي المزينة بالأرابيسك، كان بعضهم حاملي زجاجات المولتوف الحارقة (سميت كنوع من السخرية بسبب اعتراض الفنلنديين على اتفاق مولتوف - ربنتروب الموقع في آخر أغسطس 1939م!)، وبعضهم من ذوي الهيئات الأفضل من أصحاب الشعور الكبيرة الهائلة المفلفلة، الرافلين في بناطيل جينز من شارلستون (موضة السبعينيات)، هاته المعروفة باختلالها إذ أنها تنتهي لدى القدمين أكبر بكثير مما هي لدى الساقين، كأنما نسي أو تناسى مصمموها معنى الاتساق،.. وقد شاعت في الوجوه جميعاً نظرات من البلاهة والحنق، كان لدى حسين شعور مسبق من إقامته بباريس - وملاحظته لمسالك المشجعين الغاضبة بعد وقبل مبارايات كلاسيكو العاصمة هناك بين باريس سان جيرمان و‌أولمبيك مرسيليا - بأن مشجعي الكرة هم بعض من "أكثر البشر سذاجة وعدوانية"، وقد احتفظ بشعوره هذا - ولعله ضاعفه لاعتبارات يفرضها فارق التخلف - حين انتقاله إلى الدولة النامية، وسمع لهذا المشجع يقول له وهو الممسك بياقة قميص زهران الكوبية الطراز بيده، فيقول له وقد توسم فيه الحياد :

- أيهذا الأفندي، فلتكن حكماً بيننا : لقد تنصل الملعون (أي زهران) من وعده، وتملص من أصول المراهنة، قال لنا بأن أموالنا ذهبت مع الحمام.

وقال زهران وهو لا يكاد يقدر على الحديث، وكان حريصاً على أن يحدثه متصنعاً الجهل به فيناديه هو الآخر بالأفندي كأنما لا يدرك اسمه، إذ هو يريد أن يحتفظ به "حكماً محايداً" في عيون خصومه المسعورين بحمى الانتقام :

- أيها الأفندي : إن هذا طرف من الحقيقة، وليس كل الحقيقة : تعادل الزمالك قبل خمس دقائق من النهاية، سجل حسن شحاتة هدف التعادل برأسه من الوضع الطائر، صنعه صبري المنياوي ولابد أن الجميع قد رأى هذا وانزعج به ما خلا أنا، إذ أن محافظة كالإسكندرية أكثر شعبها نزاع إلى تشجيع الأهلي على نحو صرت أبدو معه كبطة سوداء، أقول إنها النتيجة التي لم نتفق قط على مقابلها من المال أو النَّشَبُ !

اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وقال الأول وهو يزيد عليه الخناق بقبضة يده :

- إنه لكذاب أشر، لقد وعدنا بأن يدفع لنا المال في حالتي التعادل أو الخسارة، إذ هو كان عظيم الثقة بانتصار فريقه.

كان لدى حسين شعور آخر من القلق إزاء الجماهير بالعموم، إن الجماهير في عرفه هي كل ما زاد عن اثنين، كان ينتابه شعور بالقلق - هو دون الرهاب الاجتماعي - حين يشهد التجمعات أو يقترب منها، إن بداخله شعوراً هو النقيض من الإحساس بحكمة الجماهير التي يُفترض بها أن تمثل المتوسط الموزون لمجموع المعرفة والرشاد، إذ هو أميل إلى الاعتقاد بظاهرة القطيع وما يمكن أن تمثله الكثرة من غياب المسؤولية الفردانية،.. كانت زجاجات المولتوف بسوائلها سريعة الاشتعال وسداداتها القماشية تزيد من شعوره هذا فانصرف عنها إلى تهاويل الأرابيسك للحظة، وإنه لمن العصي أن ينظر إلى موضع ليس فيه صورة الزجاجات ما خلا جهة هذه التهاويل، وقال كأنما يريد أن يتملص من موقف خانق، يحدث الممسك بياقة زهران :

- أرأيت إن وهبتك صديرياً من كتان : هل تترك الرجل وشأنه؟

وخلع حسين صديريه الكتاني وسط ذهول الجميع، فكأنما أنهى بتصرفه الحكيم - أشبه إلى قوة عذراء رائعة - ما حواه المقهى من تفاهة وضحالة، وانصرف من انصرف عن المكان فلاح ما قد أورثته ضجة النقمة من اختلال نظامه، كانت الكراسي مبعثرة، والطاولات غير منتظمة، والزجاجات في كل نحو، وهرعت ابتهال إلى أبيها المنُهك فقالت تزيده رهقاً :

- اللعنة على عقلك الطفولي الأرعن، ستقصف الكرة عمرك ! فإذا أنقذتك الصدفة الأمس واليوم، فمن ذا ينقذك غداً؟!

وأحس زهران وزراً ما، فقال :

- فلتسامحيني بنيتي، (ثم وهو يتطلع إلى حسين الذي صار مرتدياً لبذلة بلا قميص داخلي.) وأنتَ فلتغفر لي ما قد أقحمتك فيه من موقف لا شأن لك به.

وكان حسين قد جعل يعتاد جسده الرافل في بذلة بلا صديري، فالتفت إلى أبيه يوسف يقول :

- إن هذا لخير وأسلس حركة.

ونبذت ابتهال فكرة النزهة لدى القوارب المزينة بالأقمشة والسجاجيد الملونتين لما وقر في خاطرها سوء تدبير أبيها الذي يفسد بدوره الأمور جمعاء، كان يوسف مبادراً إلى اقتراح آخر هو حلواني "ديليس" (الأقدم في الإسكندرية)، التقت حسين المفردة الفرنسية التي سمعها وكانت ترادف معنى يعرفه في لغته الأم - فجعل يقول :

- ديليس Délices يعني البهجة أو المتعة بالفرنسية..

وكان هذا سبباً كافياً لأن يوافق على الاقتراح الجديد، وقد سارعت ابتهال إلى القبول مسايرة للشاب الذي أبدى لها شهامة حقيقة بالامتنان، وأما زهران فقد رضي بأن يتملص من فاتورة ليلة احتفاء باهظة ولو كان هذا يعني أن يُوضع في نظر ابنته في خانة الرجل غير المسؤول المسبب للمشكلات الذي تتهرب من كل ما قد ينتمي إليه، وإن أبدى امتعاضاً ظاهرياً كاذباً، فجعل يقول :

- من أسف كيف تسير بنيتي وراء اقتراحات الرجل القصير (أي يوسف)، متجاهلة في عين الوقت أباها الحريص على مصالحها.

كان لاختيار يوسف للمقهى سببان أخفاهما عن نجله : الأول : أنه يوناني الأصل لصاحبه كلوفلوس موستاكاس، والثاني : ما عرفه عنه من كونه ملتقى للعشاق، وقد حدس بأنه سيكون خير مكان لاجتماع نجله - ولو كان بلا صديري - مع الفتاة التي أبدى له رغبة لم يتوقعها في الزواج بها، ترك يوسف نجله رفقتها إذاً، وجلس الرجل في طاولة بعيدة صحبة زهران الذي أفاض في حديث الكرة أمام أكواب مملوءة بالصودا، فكان مما قال :

- إن هذا الهدف الأول لحسن شحاتة في الأهلي،.. ولن يكون الأخير !


وانصرف يوسف عنه متأملاً في كعكة زفاف الملك فاروق والملكة فريدة ، وكعكعة حفل تتويجه الأخرى ملكاً لمصر، هاتين اللتين تزينان أركان المقهى، كأنما استعاد شريطاً طويلاً من الحوادث التي لا يستطيع أن يتنصل من سلسالها الموصول بلحظته، هذه المرة نظر إلى السماء بلا تلسكوب أو وسيلة تكبير وقد أًصابه شعور بالحيرة والوحشة رفقة الرجل الثرثار، ما الأشياء كلها، هاته التي نوليها الأهمية فنحزن لها أو نسر بها، ما كل أولئك إلا حبة رمل شاردة، لقد فكر فيما يشبه مغالطة قناص تكساس : هل رسم الهدف بعد أن رميت الأسهم؟ وتساءل : هل يعقل أن وجودنا البشري هو محض تكتل لعشوائية أو محاكاة مصطنعة؟ ولكنه نبذ الفكرة العبثية حين عاد يبصر نجله صحبة ابتهال وقد أصدرا للتو ضحكتين رنانتين متمازجتين.