استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/05

النهضة المصرية

                                الفصل الرابع عشر: النهضة المصرية







قرب فيلا لوران..

ذلك اليوم عاد نعيم ومريم من فلورنسا بعد انقضاء إجازتهما التي طالت هناك، كان الشاب يحدث زوجه في مسار أخير يفضي بهما بعد سفرهما إلى البيت فيقول :

- إننا أبناء رفاعة (يريد رفاعة رافع الطهطاوي) الثقافيين، ولا يجب أن نعرف أنفسنا بغير ذلك، إنه رائد النهضة المصرية الحديثة، وأما نحن فحملتها الأحياء الممسكين بشعلتها من بعده ! من أسف أن فريقاً كبيراً من المصريين يجهلون بماهية المصطلح : النهضة المصرية لتقصير في تحصيل الثقافة، وفريق آخر يعرفون به وينكرونه لأسباب تتعلق بانحيازهم إلى مفهوم أموي هو الخلافة، يصعب على بعض العقول المتحجرة تقبل حقيقة أن الاحتكاك بالغرب قد أثمر حضارياً ومعرفياً بعد الحملة الفرنسية، كان رفاعة على رأس إحدى البعثات التي أرسلها محمد علي إلى هناك.

وكانت تقول له :

- أجل، كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز أشهر من أن يُذكر به، سيحسبك بعض المصريين مهرطقاً إذا سمعوا ما سمعت.

وانتقل بينهما الحديث عن مسألة الحرب، حديث الساعة، قال :

- لسنا في ميعاد مناسب لحرب جديدة خصوصاً بعد أن انتقلت السلطة إلى رئيس جديد (أي السادات) لا يحظى بالوفاق الشعبي القديم، المحرضون على ضرورة الحرب الساعة كالممسكين بقميص عثمان. 

وقال :

- مهما كانت أوضاعنا سيئة الآن فلن تكون أسوأ مما كانت عليه في الحرب الأخيرة.

وكان النقاش بين الاثنين موصولاً حتى حين انتهى بهما المسير المظلم إلى باب الفيلا فصتما عما كانا فيه، وأدخل نعيم المفتاح فأداره، وهناك سمعا صوت ضابط يقول وهو الممسك بكشاف (torch) :

- فلتقف مكانك، أيهذا المجرم الصعلوك، لقد بحثنا عنك طويلاً ولكن العدالة لا تعرف اليأس أبداً !

رفع نعيم يديه من فوره، بكى عارف حين سلط ضوء الكشاف على وجهه فأيقظه، وأما مريم فكانت مما رأت في ذهول كامل فكأنما ضرب على حواسها جدار من الثبوت والشلل (ما خلا يدين تحملان طفلها)، وجعل الضابط يتفقد صورة نعيم ومعالم وجهه فيقول :

- أنت ذهب إذن، ولولا أنني لا أثق في الفراسة لقلت بأنك بريء..

كان نعيم يقول :

- إنني بريء فعلاً..

وأظهر ضوء الكشاف وجود عربة شرطة وضابطين تولا بدورهما التحقيق مع نعيم، بعد دقائق تبين للضباط خديعة ذهب لهم وكيف اختلط عليهم الأمر، أظهر نعيم للضابط ما يفيد نسبه إلى والده طه، المالك الحقيقي للفيلا، وقال له الضابط بعد أن قنع بحديثه، وهو يرمق الفيلا بنظرة فاحصة :

- فلتستدرج ذهباً الحقيقي إلينا إذن، فلتقل له قولاً ليناً يطمئنه إليك أولاً.

دلف نعيم إلى داخل فيلته قلق الوجدان، أحدث الباب صريراً، لاح شبح ذهب فبادره نعيم إلى القول :

- لا تقلق، سأضمن لك الاختباء هنا..

اقترب نعيم من أضواء الفيلا البيضاء فتجلى ذهب في روب صوفي، مطرَّز بالحرير، ممسكاً بمسدس 357 ماغنوم سميث يقول :

- لقد ولى زمان القلق والاختباء..

وألفى نعيم ما يصح أن يوصف بشبيهه الأسمر، فقال :

- كنت شخصاُ نبيلاً..

- القهر يولد العنف، لسنا خداماً لسكان المدينة، سأعيش في الفيلا، أعجبتني صفتك، اقتبستها مرة، وراق لي أن انتحلها على الدوام.

وأطلق الأخير من مسدسه طلقة ضلت هدفها، هرع نعيم بعيداً من مجال ذهب الذي طفق يتعقبه في ظلمة ساترة، وتربص نعيم به ثم انقض عليه من الخلف فأوقعه وفقد ذهب سلاحه، اشتبك الرجلان اشتباكاً ضارياً بذراعيهما، يريد الأول أن يشج رأس الثاني وإلا فليسفعنه بالناصية، وكذلك يريد الثاني أن يفعل بالأول، وهما في عداوتهما أشبه إلى اشتباك الغزلان بقرونهم المتموجة في غابة،..حثت مريم الضباط على إطلاق النار ولكنهم امتنعوا عن القيام بالأمر مخافة إيذاء نعيم، الظلمة شاملة، والأمور تتقلب على صفحة عاصفة بلا قرار، ودفع ذهب نعيماً فتقهقر الآخر وترنح، أسلمه تراجعه إلى اصطدام رأسه بالتمثال الرخامي، هذا الذي جعل بدوره يتهاوى، أقبل ذهب إلى نعيم يريد أن يجهز على نعيم فكأنما كافأه القدر بما هو حقيق بنواياه، من سقوط التمثال فوق جسده المهاجم المتحفز.

 

هناك علا صوت ارتطام عظيم نجم عن انكسار التمثال الملائكي، وتلقفت الأسماع ما عجزت الأبصار عن ملاحظته في خضم العتمة  الشديدة، حينئذ تقدم الضباط فكشفت أنوارهم عن نعيم الذي أدميت رأسه بسبب الاصطدام الأول، انبجس الدم من رأسه كأنه أخذ ينسكب من كأس مقلوبة، وكشفت الأنوار عن ذهب الذي أخفى التمثال أثره كما تخفي البناية المتهدمة آلالاف الضحايا تحت أنقاضها، وأزاح الضباط التمثال عن جسد الأخير بعد أن تآزروا على حمله فيما قال واحدهم :

- لقد قتل تمثال الملاك ذهباً..

ولكن ذهباً لم يمت حقاً فها هو ذا الرجل يحرك ذراعيه فرجليه، كانت مريم قد لحقت بالضباط فلما انتهت إلى ما قد بلغوه روعها رؤية زوجها ينزف الدماء من رأسه الجريح، وصرخت فيهم (الضباط) تقول :

- يحتاج إلى مشفى،.. فلتعينيوني على نقله،.. هلموا !

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


في البحر الأحمر..

كانت أميرة منغمسة في أشغالها المنزلية المتعلقة بزوجها : تغسل القمصان حريصة - إلى ذاك - على تنظيف الياقات والأكمام، ثم هي تشرع في كيها بعد أن ترشها بالماء ثم تثنيها وتكومها كيما تبلل أجزاؤها غير المبللة الأخرى التي لم تصل إليها الماء، تمر بالمكواة بين الأزرار في تؤدة أقرب شيء إلى براعة الفنانين، وكانت قد سهت عن المكواة لماماً حين أبصرت انعكاس شعرها الأشقر المصبوغ على هاته المرآة المقابلة يتجلى على وجهها الحسن الجميل، كان قدها ممشوقاً، وحسنها سوياً، وجمالها روياً،.. وانتقلت بالتفكير إلى أباظة فحارت في تفسير أسباب غياب الوفاق بينهما حيرة شبيهة باليأس، إنها تعيش أياماً من الوحدة في البحر الأحمر، ثم عادت تتذكر الكي والمكواة في لهفة، فطفقت تمضي بها على سائر الأجزاء المعوجة والمنكمشة كفرشاة تخفي اضطراب الخطوط،.. وطُرق الباب فتركتها (المكواة) وأقبلت تفتح للطارق وقد انتشى قلبها بالسرور، واستقبلته تقول :

- ما أجمل عودتك ! كادت الوحدة تقتلني..

ولم يجبها وإنما مضى حتى تهالك على هذه الأريكة فمدد ساقيه غائر العزم، وجلس صامتاً مدة، ثم قال :

- المستحيل أهون من أن ننتصر تحت قيادة السادات، الرجل غير ممسك بأعنة القيادة حقاً، حوله تركة عبد الناصر من رجالات يستهينون به على نحو يزري بصورته، يخيل إليَّ مرات أن عبد الناصر لا يزال يدير البلاد من قبره !

وقالت وهي تجلس إلى جواره على عين الأريكة :

- ولكنني لا أريد الحديث عن الحرب، لن تحارب وأنت في المنزل.. (ونظرت إلى المرآة تقول..)  وما رأيك بشعري الأشقر؟

وقال :

- لا أعرف،.. كنت أؤثر نسخته القديمة !

وعدت الأمر إهانة لها، فقالت كالمتأففة :

- آه.. سكت دهراً ونطقت كفراً !

واشتم أباظة رائحة الشياط جاءته ممزوجة بتيار هواء مالح آتٍ من البحر الأحمر، فنهض - يتتبعها بحاسة الشم - إلى حيث المكواة والقميص يقول :

- لقد احترق القميص ! أما كان أولى أن تعتني به فوق عنايتك بشعرك وصبغته؟!

وانتابتها ثورة جنونية تقول :

- سأترك البحر الأحمر، أعيش وحيدة دونك، وأما حين تحضر فتنتابني وحشة مضاعفة، يحضر جسدك دون خاطرك..

ومضت تجهّز ملابس الرحيل، فثارت ثورة الرجل ودفعها حتى تأذت منه، ووقفت تقول :

- كنت عدوانياً دائماً، منذ التقيت بك أول مرة فقتلت كلاب دوبر مان وحتى هذا اليوم الذي تدفعني فيه !

وقال :

- لم أقتلها إلا كي أنقذك، ولم أدفعك إلا لمحبتك.. تشبهين الأطفال الذين يضعون أيديهم في النار، ويبكون حين يشتد عليهم أهلوهم، يردعوهم عما فيه أذاهم، من الخير أن أمك تقدر جهدي..

عادت أميرة إلى الإسكندرية عازمة هذه المرة على ألا تعود إلى البحر الأحمر، استقبل أبوها عبد الغني تصرفها بالرفض المعتاد ولكنه صار يقف إلى جانبها حين سمعها تقول فتبالغ في وصفها لما وقع :"لقد ضربني وآذاني.. ويقول بأنني طفلة.. يحسب نفسه فريد عصره.. فذاً كبيضة الديك.."، كان موقف هدى شبيهاً بعبد الغني إذ هو تقلب تقلبه، ولكنها انتظرت دون جدوى أن يعود أباظة إلى الإسكندرية معتذراً عما بدر منه، فلما لم يعد صرفت أملها عن انتظاره وأخرجته عن محيط عفوها وصفحها، كانت الأم ترى في ابنتها صورة الكمال المفقود فأحاطتها بهالة من الرعاية أقرب إلى التقديس والتنزيه غير المشروطين، وحتى لقد استهانت في سبيل الدفاع عنها بكل ما في الحياة من شخوص ومعانٍ.

 

كانت أميرة تجلس في حانوت أبيها تشغلها دوامة الفكر، ماذا تركت في البحر الأحمر؟ وماذا ستجد في الإسكندرية؟ كأنها جمرة من لهيب سنتها أن تأكل نفسها وما حولها، يغيب حضور الأب الذهني شيئاً فشيئاً و ينكمش اشتراكه في الحوادث، ولكنها لا تتخلى عن مشورته، يقول لها :

- ومن يصنع المعروف في غير أهله يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر.. قبلت هدى بظروفه (أي أباظة) المتعذرة بعد الحرب، كانت تقيه ألسنة الناس في الرائحة والغادية، واليوم.. فلتنظري كيف تصرفه معك!

وقالت في لحظة صفاء عارضة :

- يملك وجهاً إنسانياً رقيقاً، وآخر عنيفاً غليظاً، ويتقلب بين الوجهين في غير رشاد.

 حينذاك سرت جلبة أشبه بالزوبعة فها قد خرج مراد من محبسه، بعد شهادة صديقه جمعة، دفع الشاب الكفالة المطلوبة وعاد إلى نقطة قريبة من الصفر بعد أن رد الحقوق إلى أصحابها، أمسكت أميرة بكتيب السجن تفتحه عند قصيدة النثر، وتدانت إليه تقول له وهي تخلصه من المرحبين بخروجه من السجن :

- ماذا تقصد هنا؟!

وقال يغض عنها الطرف فيمضي :

- لم أقصد شيئاً،.. أنتِ امرأة متزوجة.. تعلمنا أن نحفظ الأعراض..

وجعلت تقرأ له المكتوب بصوت عال في حدة غريبة :

- ويصدق الوعد حين تصافح العرافة عجوزاً،.. حكيتُ لكَ عن العجوز، ورويت لي عن العرافة !

وقال وهو يعيد النظر إليها في ارتباك، بعد أن يتضرج خده بحمرة :

- الكلام هنا حمّال أوجه.. والمعنى في بطن قائله..

- وما المعنى الذي تضمره؟

- من حقي أن أحتفظ به لنفسي..

- هل تحسبني أدق العصافير؟

كان في انتظار مراد جمهرة من الآدميين كبيرة : رؤوف (تسعة أعوام) وفردوس (سبعة أعوام) وتهاني وأخوتها، وحاول أن يبتكر شيئاً ينهي به حديثه إلى أميرة فقال لأدهم وهو يتقدم نحوه خطوتين :

- كنت ملتزماً بشرب الحليب طوال الفترة الآنفة، أجل،.. نقلتْ إليَّ تهاني كيف كنت تشربه رشفة رشفة في دأب النملة، وأنت الذي تكره مذاقه، لقد شربته لأجلي.. ولقد خرجت من محبسي بسببكَ !

ثم أمسكه من وسطه فرفعه يدور به في سعادة أمام أميرة التي جعلت تبتسم بدورها، فيما كان عبد الغني يقول وهو يرمي الاثنين - مراد وأدهم - بنظرة :

- لقد نسبت الفضل إلى أصحابه حقاً ! 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

  

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

                        الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق