استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/13

الأحلام الكاذبة

                                                 الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة









 

جاء الطفل منير يوماً إلى مريم وقد انبجس الدم من جبهته، يقول في وهو يلهج بالبكاء كأنما يستجير بها :

- لقد دفعني عارف من فوق الأرجوحة، كنا نتناوب الأدوار على كرسيها الخشبي، رأيت مشهد الأشياء من أمامي تعلو وتهبط : نبت الجهنمية، السور، وما وراء السور، أخذتني النشوة، واستهواني اللهو، فلما رمت الإطالة صعر لي خده، وجمع عزمه على إيذائي، وجُرحت ههنا (يشير إلى جبهته) الويل له !

 

وسرعان ما حازت سرديته المستضعفة تعاطف الأم، ولاح لها منير أزج الحواجب  سوابغ  في غير قرن، يملأه شعور بالقهر، كان نقي النظرة على نحو يستدر التعاطف التلقائي، ماهراً في غير مكر، وقصدت مريم بدورها إلى نعيم تشكوه صنيعة الولد (عارف)، فيما كان نعيم جالساً على مقعد الحديقة الخشبي كأنما استهواه مماهاة الطبيعة بين أفنان الشجر، فصار وجوده فيها كلاً لا جزءاً، يقبض على ميدالية المفاتيح يلهو بها فتحدث صوتاً أشبه بالشخشخة، وكان من بين المفاتيح واحد نحاسي يتمثل صورة العنخankh/ (مفتاح الحياة الفرعوني) :

- ألم تر إلى ما يصنعه الأخوة في بعضهم؟ 

وقال نعيم، وهو يبصر الولدين من أمامه فكان عارف منكس الرأس مطأطأها، فيما بدت وقفة منير أكثر تحدياً، وكأنما أورثته المظلمة شعوراً نفض عنه الضعف :

- حقاً؟ منذ متى أمسى منير أخاً لعارف؟

وهنالك أبعدت المرأة منيراً من نطاق نعيم كأنما تحجب عنه أذى، فلما تحقق لها ما أرادت عادت تقول لزوجها كأنها تعاتبه :

- ويحك ! ألم نتفق على أن نعده ابناً جاءنا بالتبني..

وقال نعيم وهو يعتدل في جلسته، فيختلس النظر إلى منير الذي يقف ههناك تحت ظل شجرة أخفته :

- أنتِ تعرفين الحقيقة، تركه لنا ذهب كي يمضي موغلاً في شقاوته مرتاح الضمير، إنه ابن رجل عديم المسؤولية منزوع الأمانة، أراد ذهب اختطاف عارفاً يوماً واستخدمه (منير) طعماً نأمن له، لعله أراد أن يساومنا على هاته الفيلا، فيلا لوران، في مقابل الولد في خطوة لم يكتب لها الوجود، لقد كشفتُ مخططه الأثيم في موقف صدفة، وهذا من رحمة القدر ورعاية التصاريف، أجل، لعله أراد امتلاك الفيلا البيضاء بعد أن كان مبلغ أمانيه استحمامات يقضيها في مغطسها الخشبي! لقد شب الملعون بطموحه الجامح الجارف عن طوق كل ممكن ومعقول، واختفى إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، إلام ندفع جزاء حسن ظننا بالناس؟

وقالت مريم :

- لماذا تجتر الماضي الذي أعرفه وتعرفه؟

- أجتره لأنه حقيقة لا فكاك منها..

وتقدمت نحوه في غضب فغرست قدماها في عشب الأرض :

- ما بالك كيف تحكم؟ تقضي العدالة بأن كل العائشين هنا سيان، إما أن تطيب خاطر منير وإما أنني سأمضي معه، سأنصرف عن هنا مجللة بالأسى والأسف.

وأهداها نعيم ميدالية المفاتيح المميزة برمز العنخ كأنما هو غير مكترث لتهديدها، كان نعيم يضيق ذرعاً بفكرة الابن الذي هبط دون سابق حساب أو تقدير على كتفيه، وقد أورثه الغضب من خيانة ذهب له استهتاراً تجاه منير، ثم هو لا يرى فيه (منير) إلا سمرة غريبة، وحقيقة وافدة، ونسيجاً فذاً.. ولكن همة المرأة قصرت عن الوفاء بوعيدها فعادت إلى منير تمسح على جبهته النازفة، وتحيطه تحت ظل الشجرة بعناية معجبة، كأنما اكتفت بما تبدى لها من خذلان نعيم لها فأحاطتها سلبية أشبه إلى رثاء قعدت معها عن الفعل، كربان سفينة أضناه سوء حظه في يوم عصفت فيه الرياح وزمجرت فلاذ بحجرة سفينته الغارقة وكفاه عناء المحاولة.. في مساء ذاك اليوم حضر والد نعيم (طه) الذي انخرط بدوره في حديث عن نظريات نشوء الحضارة، وأحوال ما يجري، بمناسبة إعادة حفر قناة السويس،  يقول :

- ارتأى فيجر (Vigor) أن للحضارة أطواراً ثلاثة : عصر الأهلة، عصر البطولة، عصر الناس،.. وأما الفيلسوف الألماني شبينجلير (Sehpingler) فقد صور الحضارة كالكائن الحي الذي يمر بطفولة، يعقبها شباب، ونضوج، فشيخوخة، ولابن خلدون مذهب قريب إذ هو مشير إلى البداوة كطور أول، يعقبه الإعمار والإزدهار والتوسع، ثم يزول كل أولئك فإذا بالمشعل المنير منتقل إلى أمم أخرى، وهلم جرا !

وقال نعيم، وكانت مريم تقف لتشذب هذه الشجرة بمقص كبير غير بعيدة من الرجلين :

- نعيش في رحاب العام 1975م ولايزال ثمة من يرى بأن نهضة ممكنة دون نزع الوهم والخرافة، ما أحوجنا إلى من يؤطر المعاني العلمية التي ثبت الإتفاق عليها، والتي تخلق بدورها بيئة سليمة تصلح كمرتكز للاستنتاج والعمل والتنظير، ثم هي ظهير لاستشراف سبل السياسة الأنجع وآليات الاقتصاد ! انتقلت مصر من مربع القومية العربية إلى الأممية الدينية، ولست أدري لمَ يستعصي النظر إلى بلادنا على أنه قطر مستقل له خصوصيته وكأنما قدر عليها أن تتحمل أعباء هي فوق إمكاناتها؟ تحتاج كي تقيم الحضارة، إلى منهج يتوخى الحقيقة، ونظام يدير الأفراد، وأما الضلع الثالث فهو...

وقاطعت مريم قول زوجها تقول تاركة الشجرة المَشْذوب، تمضي خطوتين على أغصان وأوراق ذابلة :

 

- العدالة ! تحتاج إليها في تعاملك مع من تسوسهم..

ووعى طه في حدس نافذ أن في الأمر شيئاً يتجاوز الموضوع النظري، ويتصل إلى واقعيات الحياة اليومية بين الزوجين، فما قالته المرأة في حماسة الإفراج عن عسف في النفس يحمل الإسقاط العابر، فتساءل كالجاهل بين طرفي نزاع يروم التوفيق بينهما فيبحث عن أسباب اختلافهما :

- فيم حاف الشقي؟ (يريد ابنه)

وقالت في عبارة موحية  :

- لقد حاف الأب، فضّل بعض أولاده على بعض.

ونهض نعيم عابراً امرأته فأمسك بالمقص يعود يشذب الشجرة، ثم يقول في إسقاط آخر :

- إذا لم تُنزع الأوراق الذابلة عن سياق الخضرة فَسَدتْ الشجرة، وشاهت الحديقة !

وقالت :

- ما أنكر وعياً يصور لك طفلاً نقياً كمنير بحزمة من ورق ذابل ! هل تروم أن تتخلص منه؟

وقال وهو يعود يجلس، إلى جوار أبيه :

- العقل والمنطق يسوقناني إلى ذلك..

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


في الجناح الفندقي..

كانت صابرين قد أصابتها نوبة من الاعتلال والمرض، لم يبدُ في وقفتها بالمطبخ أول الأمر أن غريباً قد نزل بها - ما خلا إحساسها الخفيف بالإجهاد - لولا أنها انهارت بغتة فخرت فاقدة الوعي، ولما كانت المرأة وحيدة الإقامة في الجناح الفندقي فقد عدمت من مطبب يداويها أو من معين يؤزرها، وفتحت عينيها فإذا هي على هذا الرخام، وقد تحطم عقد اللازورد لدى عنقها المجروح، وكانت تقول لنور التي كانت أول السائلين عنها :

- لقد تحطم خرزه الأزرق بسبب من الحسد، لابد أن ثمة من يقول : امرأة عجوز تعيش في جناح كامل، الشباب أولى بمتاع الحياة، يا حسرة على العدالة، وهلم جرا !

وقالت نور، وكانت قد قصت شعرها كيما يناسب الدور الجديد الذي ستلعبه فلا يكاد يصل إلى شحمة الأذن :

- لعله تحطم (أي عقد اللازورد) بسبب السقوط نفسه !

- لماذا تنكرين الحسد؟ لقد حدثنا القرآن عنه في غير موضع !

وأبدت الأم التأفف من منطق الفتاة في إنكاره كأنما أورثها الكبر ضيق الصدر، كانت ترى في انشغال نور عنها في محنتها الأخيرة خذلاناً لها، وأما مريم  فتسأل عنها بين الحين والحين ولكنها تعطي الأولوية للطفلين، والأخيرة (مريم) فتنعتها الأم بالحسن من الأوصاف إذ هي تصدر عن لب قناعة في ذاتها مفادها أن رعاية القادمين أولوية على استبقاء من شارفوا على رحيل، ولزمت صابرين هذا السرير آناء الليل وأطراف النهار، كان الفراغ يستبد بها فتأخذ تنشغل بالغَزْل على هذا النول المستطيل، إنها تضيع ذرعاً بالإمساك بإبرة الكروشيه، لم تعد أعصاب يدها تسعفها على العمل الدقيق الماهر، ولكنها وطنت نفسها على الاستمرار، في هذه الأيام تذكرت عهدها مع  فتوات الحي، باتت كثيرة الذهاب بالخيال إلى عهود ولت، وجنحت إلى العادية والبساطة والسلام، ولعلها تساءلت : منذ متى أحبت غزل الملابس؟ وهل تنبت مثل هذه العادات في كهولة امراة؟ حتى أتاها عز ذات يوم يقول :

- أمسى الفيلم جاهزاً للعرض في سينما مترو، أمي، لدي أمنية أرجو أن يسعفني القدر كي أراها موضع النفاذ، لابد أن تحضري عرضه الأول ! وخلع عز ساعته من جيب الصديري المبطن بالحرير ثم قال حين وعى التوقيت الذي ناهز التاسعة ليلاً :

- هلم، سنتأخر.

 

وتساءلت فيما يغطي جبهتها شعر كثيف شاع فيه البياض وأصابت الحناء بعض مواضعه فتزيح خصلاته الهجين عن عينيها :

- وما اسمه؟

- الزهرة الحمراء.. إنه عرض مليء بالاستعراض والطاقة الشبابية..

- لا أريده، الشباب في هذا الزمن أقرب إلى القرود..

قالتها فابتسمت وابتسم الابن فقبل منها موضع الجبين، وقالت :

- السينما تبث فيكم الأحلام الكاذبة، الحنين لما لم يكن ولن يكون، في هذا العمر أريد الحقيقة، في الماضي كانت صالات الأوبرا، هذه التي استحالت بدورها إلى مسارح شاسعة ذات قبب، ثم أتت السينمات، فالتلفاز، وقد كفاني الأخير مغبة الجهد..

وأحس عز أن ممانعة الأم عن حضور العرض لا سبيل إلى إثنائها، وأن الدائرة باتت تضيق عليه، فقال لعلمه بمثابة البنت في نفس الأم :

- ستحضر مريم أيضاً.

وتحولت صابرين عما هي فيه، فقالت :

- حقاً؟ سأحضر لأجلها.

كانت الخدعة - كالطُعم - أريد بها إقناع المرأة الممانِعة، وقد انطلت عليها الحيلة، فلا حضور لمريم،.. وطاوعته الأم - على فرط علتها - في مراده فهبط بها إلى الشارع يخدمها على أكف الراحة، وانتهيا إلى السينما فذكرت صابرين شيئاً عن كيف كانت (السينما) أنيسها ومصدر الرفاهية الوحيد في زمانها الفقير في مصادر إمتاعه، الثري بسلامه ونبل الطبائع فيه بوصفها، كانت القاعة مظلمة باردة وما لبثت أن توشحت الأم بشال كانت قد نسجته في خضم عزلتها الأخيرة، أخذت صابرين بالعرض فجعلت تبكي، رغم ما غلب عليه (العرض) من سرور، أليس من الدمع ما يهبط حبوراً؟ عند الاستراحة، قالت لنور :

- رأيت نفسي في صورتك.. حين درتِ وأنت تمسكين بهذا الحبل دورة كاملة شهقتُ شهقة السرور،.. تماهيت فيما رأيت تماهياً أنساني السقم.

وأظلمت الأنوار تمهيداً لإذاعة الشطر الثاني من عرض الفيلم، فلما كُتبت كلمة النهاية، وقف عز ونور يرقبان حديث الجمهور المنصرف، ويرصدان انطباعه عما عايشه، وانتظرا حتى فروغ الصالة، هناك حاول عز أن ينبه الأم إلى الوقوف يجذبها من راحتها الرحبة، لكنه لم يجد أقل الاستجابة، وكانت نور تقول :

- لابد أنها أمست راضية في مقعدها الدافئ على نحو كره إليها تركه.

ولكن الوصف الهازل سرعان ما استحال إلى رعب كامل، فالأم فاقدة الوعي، غائبة عن الانتباه، وأسرع عز إلى نجدتها، طال الوقوف، أنيرت الأضواء فجاء صاحب الكشاف يحث الجلوس على المغادرة، وحمل عز أمه على كتفيه يؤزره - في ذاك - جسده الملآن فمضى إلى حيث البيت، وهناك انفتحت عينيها، قال :

- إني آسف إذ أثقلت عليك، لقد أذنبت في حق راحتك..

وقالت تبتسم :

- الذنب ذنب الزمان والكبر..

وحضرت نور فأوصتها الأم بحسن الاهتمام بنجلها، ثم ترك الخلاف فشبكت بين أصابعها في حركة واهنة، وجعلت تغني الأغنية التي أحبتها :" طير بينا ياقلبى ولا تقوليش السكه منين دا حبيبى معاى ماتسالنيش رايحين على فين.."، فلما ضعف صوتها واصلت نور:" الورد من يوم وحدتى خاصم حبايبه كلهم خاف من نصييبى وقسمتى ليكون نصيبى زيهم.."، وأما عز فقد أخذ يذرف الدمع، لا يدري وقد تحير مبهوتاً.. هل يبكي أم يبتسم؟ ومن عجب كيف تألقت الحجرة بالبهجة على كآبة الحدث كالنجم يقذف بغلافه في الفضاء عند نهاية عمره فتتكون له سحابة كروية براقة غاية البريق Supernova،.. وهكذا خف الصوت الواهن حتى انتهى. 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

  

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق