الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش
حضرت أسرتا يوسف وزهران في مسرح سيد درويش (دار أوبرا الإسكندرية) ذي الطراز الأيوني للتنزه وقضاء اجتماع عائلي، وقال يوسف لحسين وهو يأخذ يلتفت إليه إذ هو قاعد إلى الجوار من ابتهال في هذا الصف الخلفي فيما يجلس يوسف بالأمام لدى الوسط من زهران وداوود :
- ألا تراه شبيهاً بمسرح أوديون بباريس؟
وأجابه حسين أن نعم وهو يتذكر تجربته في المسرح الأوروبي، كان يوسف كثيراً ما يذكر تجربته في زيارة المكان لحضور عرض فرقة عبد الحليم نويرة، وكيف كان لحضور أحد عروضها في زيارته السنوية للإسكندرية بعد هزيمة 1967م دور في الشد من أزره، ثم فصّل فيما كان يُؤدى في الأوبرا من الإنشاد الديني، والباليه، مروراً بالأوركسترا، والرقص المسرحي الحديث وحتى الفرق الفولكلورية..، ولكن زهران لم يحفل بالأمر قط، وحين ابتدأ أوركسترا القاهرة السيمفوني في عزفه وضع الرجل إصبعيه في أذنيه، وكانت السعادة في وعيه مقصورة على لذة الحواس لا تخرج عنها إلى غيرها من المعاني، تحرجت ابتهال من تصرف الأب فهمست في أذنيه - بعد أن نزعت إصبعه - بما دعاه أن يستمع في سأم لما كان يُعزف، وقال حين انتهى العرض :
- أضعنا المال هنا،.. ولو أننا اشترينا الكستناء (أبو فورة) بثمن التذاكر لكان خيراً لنا.
وولدت عبارته مزيداً من الحرج في نفس ابتهال التي ارتأت فيه رجلاً غير جدير بالإكبار، متخلفاً عن زمانه، أو خارجاً عنه في أرحم الأوصاف، وقالت تداري ما تورط فيه من الوصف الهازل :
- لقد كانت حفلة رائعة..
وتدخل يقول كأنما يعمد إلى أن يفسد صنيعها :
- أي حفلة؟ لقد حُجر علينا أن نصفق مع العزف، وكانت الآلات تعزف دون مغنٍ..
وقال يوسف :
- أحسب أن من آداب الاستماع ألا نفسده بالتصفيق !
وانفعل الرجل يقول :
- إنها الآداب نفسها التي لا تجعل من الحفلة حفلة..
وسأله حسين سؤالاً غير موفق :
- من تحب من المغنيين العالميين؟
وابتسم زهران من السؤال يقول :
- الأجانب؟ إنهم يرطنون بما لا أفهم، أحب عدوية والست..
وسأله يوسف متأثراً بالألبوم الذي أصاب حظاً كبير من التوزيع في هذا العام"شبابيك" :
- ماذا عن محمد منير؟
- حسنته الوحيدة أنه يشبهنا، وأما غناؤه فصعب الفهم حد الإبهام، إذ كيف تكون العينان شبابيك؟
- إن هذا على سبيل المجاز.
وذكر يوسف - بعد جوابه الأخير - شيئاً في الثناء على المغني الأسمر ذي الهيئة الفرعونية الذي اعتبر تجربته الغنائية التمرد الثاني على القالب التقليدي لأغنية العود والتخت بعد عدوية، وعن إعجابه بفرقة يحيي خليل التي غامرت بالاقتباس الغربي، وهناك أمسك زهران المنفعل بقلبه ثم هوى على طوار السبيل، يقول :"اسعفوني.. اسعفوني.."، وانتاب غادة ويوسف وداوود الهلع فيما احتفظ حسين بنظرة محايدة مستريبة حملت يوسف على أن يهتف به يقول :
- ألا ترى حاجة الرجل إلى نجدة؟ فلتحمله قبالتي، هلم !
وحمله حسين ويوسف إلى هذا التاكسي الأصفر الذي أوصل بهم بدوره إلى المستشفى الأميري، دلفت إلى زهران ابنته ابتهال بعد إجراء التشخيص في ليل دَيْجور مظلم تقول :
- لقد أقلقتنا دون داعٍ، تشخيص الطبيب لا يرى فيك سقماً.
وأجابها يقول في قوة لا تليق بمريض :
- تشخيص كاذب، إني أعلم بنفسي منه، احتاج إلى عملية جراحية ولابد أنها ستكون ذات تكلفة كبيرة..
وخفضت الفتاة رأسها تقول في خيبة أمل :
- اصطنعت المرض كي تحوز المال من أسرة يوسف الثرية، عبثاً كاد قلبي ينفطر عليكَ، ألم تسمع قول النبي محمد : لا تمارضوا فتمرضوا، ولا تحفروا قبوركم فتموتوا..
- فلتخرجي إليهما (حسين ويوسف) ولتطلبي منهما المال..
- لقد رحل الرجلان حين اطمأنا إلى سلامتك..
والتاث زهران في كلامه، واعتدل في جلسته كأنما أدرك أن لا ثمرة ترتجى من تصنع العلة بعد انكشاف أمره يقول :
- تقفين على شفى بئر من البترول وتعافين أن تتطلخ يدك بسواده ! والساعة تلومينني؟ إننا فقراء بل أعجز من سنا نجم يناوشه الأفول، وإن هذا لحصاد عمري الجديب،.. إنك تشبيهن أمك المائتة في براءتها التي تشفي على السذاجة، وخير الناس أعجلهم إلى الرحيل لأنهم لا يكون لهم في دنياهم مأرب أو غرض..
وقالت في صدق تأذى منه الرجل :
- لماذا تصر على أن تلحق بي الأذى؟ لقد كنت كالأصم في دار الأوبرا، ونطقت بالسفه خارجها، شعرت بالعيب والغَضَاضَةُ.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وقال وقد شحذت ملامتها نصل لسانه :
- إنني أحتقر هذه الأسرة الثرية، أحتقرها لثرائها السهل، ولست أدري كيف حازوا ثروتهم ولكنني على يقين من أنهم قد اكتسبوها من سبيل يسير، بل أكاد أقسم بهذا الصدق الذي أراه في عينيك أنهم قد استولوا على ثروة بلا جهد، أموالاً لا تحرقها النيران، كما يقولون،.. ما أشق أن أرى الأب المثرثر (يريد يوسف) ! إن كل جديد ينطق به غير صحيح، وكل صحيح يفوه به غير جديد، وأما زوجه فخرقاء وجدت صوفاً، إن ثمة خياران هما أمامك بلا ثالث : إما أن تعينني على أمرهم، وإما أن تتركيني وشأني..
في الكويت..
استقبل فؤاد فيفيان في بيته بالكويت عند الساحة الديوانية وسط ذهول لم ينقشع، أخبرته المرأة التي جاءته بقطعتها العنبرية الثالثة أن ميلاد - لما كان قد علم بموقعه - قد دلها عليه، وأن الأخير (ميلاد) قد أقنعها بعد طول مشاوارت بترك ابنتها غادة لحياة تتفق وتطلعها دون جبر أو تسلط لقاء الجمع بينهما، وقال ميلاد لفؤاد أيضاً :
- شعرت بالإثم ووخز الضمير يوم أرشدتها إليك في وادي القمر، ورأيت أن أكفِّر عن خطيئتي بعد أن رددت إليها هذه (يشير إلى قطعة العنبر التي في يده).
وسأله فؤاد :
- وكيف عرفت بموقعي هنا (أي في الكويت)؟
- سألتُ هدى عنه، وقد كانت تثق بي لما كنت صديقك ووجهاً مألوفاً بالنسبة إليها.
وهنالك أحس فؤاد سروراً منزهاً، واستطار قلبه فرحاً، وقالت فيفيان:
- كان غياب غادة عني طوال هاته المدة مبتدأ الأوجاع ولكنني عفوت وصفحت..
وجعلت فيفيان تشرح للجلوس بعضاً من مفردات قناعاتها الدينية، تزيد عوداً على بدأ، مرة بعد مرة،.. ولكن من ذا يضجر أو يغص بها اليوم؟ ونهض فؤاد فأمسك بقطعة العنبر التي ما لبث أن أودعها في قلب الساحة الديوانية كالجوهرة ذات الألق، شعر فؤاد بتحرر أوحى له بأن يتحدث إلى فيفيان بما يخالج نفسه حقاً، ولقد كان قبل اليوم - لما كان صاحب غرض - مسارعاً إلى مهادنتها وإبداء الطاعة لها، ولم يقطع ذهابه إلى قلب الحجرة الفسيحة حيث أودع العنبر حتى أوصله برجوع إلى مكانه الأول يقول :
- حماتي العزيزة : الإنسان منذ قدم في شوق إلى مذهب يُسلِّم إليه نفسه، إنه يبذل في سبيلها اليوم ما كان يبذله سلفه في سبيل الله أو قيصر،.. إن وجود الشرائع التي لا تقبل الشك ولا ينالها الارتياب كان ضرورياً في فترة سابقة لإقامة المجتمع والحضارة، ولكن الأصولية اليوم هي المشكل لأنها تخلق واقعاً جامداً يعيق الارتقاء البشري، بمقدور الإنسان اليوم بعقله أن يمحص بين ما هو ملزم ضروري، وبين ما هو مفروض بلا وجاهة، إن بعض القوانين البابلية لشريعة حمورابي (التي كانت ضرورية في زمن ما) صارت بالمقاييس الحقوقية المعاصرة قوانين بربرية، الأصولية تجميد الزمن لدى نقطة بعينها، الوله بصورة ماضوية جرى تجريدها من كل عيب، وتنزيهها من كل زلل، ثم إبقاء على حذافيرها غير المهمة، وتفاصيلها العارضة المتزمنة، وهي ضرب من الانفصالية التي تفرغ مسؤولية الإنسان من البحث،.. وأكثر رجال الدين في بلداننا يرددون في الثمانين أو أكثر ما لقنوا أن يقولوه وهم في الثمانية عشر، وظني أن الله أرادنا أن نعارك الحياة لا أن نعتزلها في الصوامع أو في المساجد، سيدتي، إن التبتل إقرار غير مباشر بقدرة الشهوة على غواية النفس لأنك لن تهجر إلا ما يغريك بمحاسنه حقاً، ولن تنقطع إلا عما لا تزال تضعف أمامه إرادتك !
غصت فيفيان بما سمعت إذ هي ارتات أن الشاب يستهدفها بما أورده في حديثه، قالت وقد تجهم وجهها :
- لقد جئت أبارك زواجك منها لا كي تسمعني درساً في الثقافة.
وأحس فؤاد رعونته في تفصيل الأمر الذي أزعجها على غير ضرورة فجعل يقول كأنما يروم إصلاح بعض مما أفسده :
- حاشا الَّلهَ،.. إنني أشهد لطائفتكم أنها أقرب طوائف المسيحية إلى البوذية، أعني من جهة النزوع إلى النباتية، التنكر للجنس، تحاشي العنف، والتجافي عن العالم !
ولكن فيفيان لم تكتفِ بجوابه فأضافت كأنما لم تجد فيه الاعتذار اللائق أو الكافي : "بمقدورك ألا تكون متديناً دون أن تعيب على أهله المحافظين، ولا تعد القصور الذي في نفسك فلسفة جديرة بالاتباع.."، كان فؤاد كثير التردد على مكتبة الكويت الوطنية، وقد أضاف له تردده إبحاراً في بعض الموضوعات التي أضافت إليه عمراً فوق سنينه الثلاثين التي أتمها، أو هكذا هو شعر،.. وقد يتساءل الرائي ويتعجب حول هذا التغير الكبير في شخصية الصبي اللاهي، وكيف انتقل من طور مرهق إلى طور مسؤول، ولا يجسد تطوره من اللهو مع حمال الجبل بالإسكندرية إلى ما آل إليه في الكويت من زيجة وعمل إلا خط صاعد شديد الصعود، وجعلت غادة تقول وهي ترنو إلى قطعة العنبر :
- سأظهركم على خبر سار يقطع دابر الجدل غير المجدي : سأنجب ولداً..
وعمرت البهجة الوجوه، بدا فؤاد غير عالم بالأمر كذلك، قالت فيفيان :
- فلتلقنيه الإيمان العميق، ولتبعديه من أبيه ما أمكن..
انقضى اجتماع الساحة الديوانية بعد أن ودعت فيفيان ابنتها بحرارة، وأسبلت الدمعات وهي تقبلها ذات اليمين وذات اليسار، قبلت المرأة فؤاداً أيضاً وأوصته بزيارتها متى عاد في إجازته الجديدة إلى الإسكندرية رفقة المولود المنتظر التي ألحت عليه بتمسيته بعماد (وهو مما يُسمى به المسلم والقبطي بمصر في آن)، شكر فؤاد ميلاداً الذي اعتبر صنيعه تكفيراً مقبولاً عما كان قد تورط فيه، واستأنف صداقته به في امتنان له بعد غضب منه، وفي غداة اليوم قصد فؤاد إلى شغله في حماسة التحرر من ربقة أغلال قد انفكت، وقيود أصفاد قد سقطت، كان رمزي يأخذ يشق عليه بالمطالب على نحو غير مفهوم، ما عاد الرجل يفكر فيه كآدمي ولكن كوسيلة لتلبية ما لديه، يأمره بأن يُحصي الأرباح، ثم يكرر طلبه حين يتبين له أنها دون المطلوب، وحين سأله فؤاد :
- هل ثمة خطب ما؟! أحسب أن أقل زيادة طفيفة لن تصيبها (أي الأرباح) مهما أعدنا الكرة، لقد كَدَّني الأمر الذي ما عدت أجد فيه نفعاً..
لم يعره الآخر التفاتة، ولكنه قال (رمزي) كأن صوته يخرج من جسد آخر :
- كنت غير راغب بالتحدث عن التجارة التي تبدو على كف عفريت في العراق، فالحرب الدائرة مع إيران صعبة ضروس حقاً، وهي تلقي بظلالها الكئية على كل جوانب الحياة، كنت مغالياً في تصوري المتفائل، ولكننا سننتصر في الأخير.
كانت جدران الحانوت موشاة بورق حليبي اللون، وقال فؤاد وهو يضع يمناه عليها فتصير إلى قتامة الظل :
- بعض الحروب تنتهي بلا انتصار لطرفي النزاع، أخال أن هذه منهم، بين قادسية صدام والدفاع المقدس سنوات طوال دون حسم.
وأجابه رمزي :
- هل فقدت عقلك؟ ما من حرب تنتهي بانتصار أو هزيمة الطرفين !
وأجابه فؤاد بما كان قد اطلع عليه في مكتبة الكويت الوطنية :
- الاتحاد السوفيتي مثلاً انتصر في الحرب العالمية الأخيرة ولكن خسائره من جهة الأرواح والمعدات تجعله في عداد المهزومين..
- أنت تثرثر كأمجد..
وخفض فؤاد رأسه ثم مضى فيما هو فيه - كأنما اتعظ من مصير رفيقه - بإيثار السلامة على الجهر بالرأي فيما لا يفيد، ولكن رمزي الذي كان عقله أسيراً في كساد تجارته زلف منه يقول :
- أخبرني ولا تخفِ عني، هل سرقت شيئاً من الأرباح؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق