استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/04

أيام فاترة في البحر الأحمر

                              الفصل الثاني عشر: أيام فاترة في البحر الأحمر



قضت أميرة مع أباظة أياماً فاترة في البحر الأحمر، كان أباظة يتعجب من ازورارها عنه وفتور علاقتها به، ولأجل ذلك ارتأى استخدام بعض الشعر الذي يحفظه سبيلاً في إزكاء الحرارة المفقودة، يقول من شعر النابغة الذبياني في الغزل، يصفها :

 كالشّمسِ يومَ طُلُوعِها بالأسعُد

أوْ دُرّةٍ صَدَفِيّة ٍ غوّاصُها

 بَهِجٌ متى يرها يهلّ ويسجدِ

 أو دُميَة ٍ مِنْ مَرْمَرٍ، مرفوعةٍ

 بنيتْ بآجرٍ، تشادُ، وقرمدِ

وكانت أميرة تطرب لسماع مثل هذه الأبيات وإن جهلت بماهية بعض المفردات الغريبة فيها، ولكن طربها لا يطول، وسعادتها الطبيعية - كونها امرأة تحب أن يشاد بصورتها - لا تدوم، وكأنما يسقط الغزل من اعتبارها بغتة فتحل برودة في النفس مجهولة المصدر، وتنتهي نشوتها لدى أعتاب رؤيتها للرجل الذي لم تخطط قط الزواج به، أسرف أباظة - وكان قد فطن إلى مواطن الخلل في علاقته بها - في الثناء عليها،  وطاب له أن يلبي حوائجها، ولكنها البرودة عينها تتأبى الرحيل، تعشعش في مستقر مجهول، تتجدد من موقع مستحيل العثور، ينحي الرجل باللائمة على نفسه، فيقول : "إنها أصغر من أن تكون سبباً في أي مشكلة.."، وغشته كآبة في يوم عاد فيه إليها حائر الفؤاد فسألته عما هنالك، وقال :

- مات الرئيس.. وسلمنا إلى مصير مجهول..

وقالت :

- أحسب أن في موته خيراً لنا، سيزول الغمام،.. من صنع المشكلة يستعصي عليه أن يحلها إذ هو لم يترك المسلمات الأولى التي كان يصدر عنها، كان هذا الأمر مستحيل الحصول في حالة عبد الناصر، فالمشكل أن الدودة كانت في أصل الشجرة نفسها.. بكاه الناس مع ذلك في الميادين..

وقال أباظة وكان يحمل الرئيس المائت مسؤولية الإخفاق في الحرب الأخيرة، وحرب اليمن :

- الجنازات الضخمة ليست دليلاً على حسن السيرة، يجتمع الناس بالألوف لأتفه الأسباب في مباريات الكرة، إنها ظاهرة اجتماعية تؤشر إلى الأثر الذي خلفه الشخص في النفوس، لقد قاد الرجل ثورة اجتماعية وسياسية على الملكية، ولا أقصد الثورة بمعناها الإيجابي الذي يتبادر إلى الأذهان،.. ما من ثورة أمكنها أن تقيم المدينة الفاضلة بطول التاريخ، اليوتوبيا فكرة بشرية خيالية محضة تفترض مركزية الإنسان في الكون، الثورة الفرنسية أفضت إلى استبداد نابليون، والثورة البلشفية انتهت إلى إجرام ستالين، وهلم جرا،.. يقولون بأن خيراً للجندي ألا يتداخل في السياسة، وأقول : السياسة بديل اخترعه الرجال للحرب، أنى لي أن أنزع نفسي من سياقها؟

وتأمل أباظة في مستقبله في استغراق نأى به عن محيطه، الحرب كالأسرة غائمة المعالم، فقيرة المقدمات، عام مضى دون أن ينجب من المرأة التي تتمنع عليه، ما عاد يفهم السر وراءها، لم يكن جيداً قط مع النساء، ولكن لغزاً محيراً تخفيه وراء ستار براءتها المزعومة، وتواصل مع هدى يسألها عما يجعل التحفظ ديدنها حين تتعامل معه، وقالت الأم يوم زيارتها للعروسين :

- لا أعرف، إنها خجولة، منذ كانت طفلة يحمر خديها لأهون سبب..

وقال :

- بدت أضيق ذرعاً بالأمر..

 تُبدد هدى مخاوفه وقلقه وتزرع في نفسه ثقة جديدة، يجسد أباظة صورة الزوج المثالي لابنتها ولا تريد أن تتخلى عنه، تنصحه فتقول :"فلتشترِ لها الحمص والسوداني الذي تحبه، ولتُرفق بها، وعبد الحليم حافظ، إنها تحب أغانيه العاطفية."، يبدو الرجل غير قانع تماماً بما سمع فتزيد تقول له :"أغنيات ماهر العطار أيضاً.." !

 

في باريس..

منذ ذلك اليوم رصد يوسف تغيراً عظيماً طرأ على مسلك زوجه عفاف، أبت المرأة عرضاً للظهور في إحدى البرامج الحوارية الفرنسية رفقة لويس، إيذاناً بتخلصها من هاجس الأضواء تخلصاً محموداً، وقال لها يوسف :

- حاولت التواصل مع ناتالي، ولكنها تتهرب، إنها تعلم الجرم الذي ارتكبته ابنتها، والاتهام الزور الذي نطقت به، حصلت على موعد للقائها أخيراً بعد طول عناء..

وكان التلفاز يذيع عرض لويس الموسيقي فقالت عفاف :

- ماعدت أصدق عزفه..

نبت حسين مهملاً للثقافة العربية فلا يجيد من اللغات إلا الفرنسية، أتقن زهير اللغتين العربية والفرنسية، كان ينصحه يوسف بتعلم العربية معللاً قولته بالمأثور الذي يشير إلى أن تعليماً في الصغر كنقش على الحجر، ولكن الفتى المراهق لا يبالي.

وقف يوسف في الفجر يرقب مقدم القط الروسي، هذه المرة يائساً فوق كل المرات، وكان يهمس :"المتفاؤلون يزعمون أن اليأس هو وقت تحقيق المعجزات،.. الرؤية الواقعية تقول بأنه وقت أشد عتمة من غيره، سنرى.."، ونهض ثم استدار عن وجه السبيل يقول :

- فلتحضر أيها القط الجميل ولا تخجل، إنني لا أراك !

وجاءه حمود وهو على هذا الحال فتهكم من وقفته، واستدار يوسف إلى ما كان عليه فجلس على الطوار في شيء من الخجل، كان حمود يزيد في تهكمه منه فصلاً آخر، ولكن يوسف سرعان ما طفق يحث الآخر على الصمت، يقول :

- إنني أسمع شيئاً..

وكان مواءً وصوت اضطراب في صورة شجيرة غير بعيدة، ولاح ذيل رمادي ففطن يوسف إلى ما هنالك، واقترب من الشجيرة والقط، ولكن القط فزع بغتة وجعل يعدو خياله مفارقاً الشجيرة، كان حمود قد نهض يهتف في يوسف :

- إلى أين تذهب ؟!

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

ومضى يوسف خلف خيال القط يقتفي أثره فانتهى إلى سبيل مسدود، وضرب ساقه بالبناية التي أنهت أمله آسف الشعور، وجعل يسير عائداً إلى مطعم حمود خائب النفس، كانت مسألة اعتدائه المزعوم على آنجيلا قد شاعت وذاعت، وأحاط به ثلاثة من الرجال الفرنسيين الذين كانوا من حضور حفل لويس الأخير، يقول واحدهم :

- "تلبس عقداً أنثوياً من عاج، لن تكون رجلاً بتسلطك على النساء.".

وقال :

- "لم أضرب أحداً.".

ودفعه منهم واحد لدى كتفه يقول :

- "حقاً؟ والآن؟".

اشتبك يوسف مع الرجال الثلاث، سرعان ما جاء حمود الذي كان قد اقتفى أثره يخلصه من بين أيديهم، وعادا يجلسان إلى الموضع الأول، طوار (رصيف) الحانوت المواجه للسبيل الذي تحدد بشائر النور معالمه، وهناك قال الرجل الجزائري :

- أقدر دفاعك عن سمعتك وعن نفسك، بدوت شرساً فوق تكوينك الجسدي وطباعك المتساهلة وسط الرجال الثلاث.. ولكن لماذا كنت تعدو بادئ الأمر؟!

وقال يوسف يتحسس موضع كتفه في انفعال وعجب :

- كنت أطارد القط، تتبعت أثره، والأثر يدل على المسير !

- أي قط؟!

طلب يوسف من حمود الانفراد بنفسه، نهض حمود منصرفاً عنه ولكنه ظل يرقب صديقه من نافذة المطعم، رَوَّعه ما تخايل إلى صديقه من هلاوس وضلالات، كان يوسف قد أمسك بجبهته بين يديه، ثم ما لبث أن حرر يديه ومكث يحرك حصوة، عاد حمود يسأله عن المبرر وراء شروده فأطلعه يوسف على قصة آنجيلا، اليوم سيلتقي يوسف بناتالي ويجب أن يكون على أهبة الاستعداد، لقد حددت المرأة موعداً في حي مونمارتر (Montmartre) ذي الطبيعة الخلابة والطابع القديم بباريس حيث تقيم، بعض بيوته مبنية كبيوت القرى، وفيه حقل للعنب وطاحونة هواء، ووقع الاجتماع الذي أصرت عفاف على حضوره، تجلس ناتالي في جهة في حين يجلس الزوجان - عفاف ويوسف - إزاء كرسي ناتالي، والأخير بدا منتمياً إلى المقهى والسبيل في آن، وقالت ناتالي بعد أن بدت كأنما عادت من لحظة تفكير داخلي إلى حقيقة الاجتماع :

- "ماذا تريد؟".

 وقال لها يوسف :

- "أعرف أنكِ لو كنتِ تصدقين قول ابنتك آنجيلا أقل تصديق ما قبلت بحضور هذا الاجتماع..".

وقالت ناتالي :

- "ليس لدي ما أقدمه..".

وقال يوسف متحفزاً :

- "بل تملكين كثيراً..".

وألقت على السبيل نظرة ثم عادت تقول له :

- "فليحترق العالم قبل أن أتسبب في إيذاء آنجيلا.. إنها قرة عيني..".

وتدخلت عفاف تقول :

- "تعرفين الحقيقة كما يعرف العاقل نفسه حين ينظر لمرآة، فلتسمعينني، سيدتي، ستُشهرين الحقيقة، أعني الخفي منها، أمام الملأ وستقولين بأن لويس أغرى آنجيلا بأن تفتئت على يوسف، ليس لأنك تهدفين إلى إيذاك ابنتك ولكن لأن هذا أقرب الأشياء إلى الإنصاف..".

كانت الهلاوس تتزايد في عقل يوسف أمام أجوبة ناتالي المحبطة، يشعر الرجل بأنه مُلاحَق على نحو ما، ويولي أهمية كبيرة لمشاعر الثقة والولاء تجاه الأصدقاء، وقالت عفاف وهي تلحظ اضطرب زوجها وتحرُّجه :

- "سيدتي، لازلت أذكر كيف تنحيتِ عن لقاء يوسف قرب المعبد اليهودي بالإسكندرية، لقد تركتِ لي الفرصة بدلاً منك، قلة من النساء من يتسمون بسماحة نفس مماثلة، كان هذا سبباً لزواجي بيوسف، (ثم بعد أن تلتفت إلى زوجها فتجده على حال من الشرود..) ولا أعرف إذا هو من حسن التقدير أم من سوئه..".

وقالت ناتالي وقدا بدا أنها قنعت بعض قناعة من بوابة الإطراء والإقرار بالمعروف القديم :

- "فلتتركاني مهلة تختمر فيها الأمور في عقلي..".

وقالت عفاف كأنما تلومها :

-"بربك.. أيحتاج التصرف الأخلاقي السليم إلى تفكير واختمار؟!".

وما كادت المرأة تتم حديثها حتى نهض يوسف بغتة وأخذ يركض، ووقفت عفاف ترقبه دهشة، عاد يوسف إلى عفاف حين ألفى المرأة واقفة يقول :

- إنهم يلاحقوننا.. كيف تكونين على هذه الدرجة من الكسل والنكوص؟!

- من هم؟!

- أيعقل أنكِ لا ترينهم؟

ونظرت عفاف حولها يمنة ويسرة تقول بعد أن لم تجد أحداً :

- بل.. أيعقل أنك تراهم؟

في مساء هذا اليوم قصد يوسف إلى طبيب نفساني يريد أن يعينه على تفسير حالته، وقال :" في الضحى تخايل إليَّ قِط رمادي وطاردته قبل أن أعود بخفي حنين، وفي مساء اليوم نفسه كنت أهرب من أشخاص لا يراهم إنسان سواي.."، وخلص الطبيب إلى تشخيص حالته بالاضطراب الوهامي (delusional disorder)، كانت عفاف قد نجحت في إقناع ناتالي بالظهور على شاشة فرنسية كيما تفضح ما قد تعرضت له آنجيلا من غواية العازف الأمريكي الشهير لها، يسمع يوسف ناتالي تقول على الشاشة :

- "لن أسمح لأحد منكم أن يتجنى في حق آنجيلا، إنها بريئة حتى أن بمقدور أحمق أن يستغلها، قال لويس لها : سأكون صديقك إذ أنتِ نسبت إلى الرجل العربي ما ليس فيه، وقد جذبتها شهرته.. صحيح أن يوسف غريب الأطوار حد أنه يتوهم أن ثمة من يطارده، فينهض فزعاً كالموتور، رأيته يفعل هذا في اجتماعي معه، ولكنه ليس مؤذياً على المجمل، كان كالمأسوف على فروسيته دون كيشوت، يحارب الوهم فيظن بطواحين الهواء شياطين تنشر الشرور، ويطعن برمحه الخشبي أشباحاً تخلقها له عيناه..".

وأغلق الرجل تلفازه وهمس راضياً وهو يتجهز للاستحمام بعد أن خلع عقد العاج عن رقبته، يهمس :

- "أتمنى ألا يكون هذا وهماً جديداً داخل عقلي..". 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

   

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق