استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/22

قفص من ذهب !

                                      الفصل الرابع: قفص من ذهب



كان فؤاد يأخذ يتأهب للعودة إلى الكويت فيجمع حاجته في نهار الأحد الهادئ، حيث ينعم الناس في حيّنا بسلام مقرون باللاعمل، وأسدل الستائر على مشهد المدينة التي حدْس بأن شوقاً سيأخذه إليها ولكنه تجلد وعزم أمره، وكان يحدث أن يكحل عينيه - سنة عن النبي محمد - فيضع المرود في مكحلة لها شكل طاووس فضي دقيق ثم هو يغسل شعره بزيت زيتون - أحياناً يحدث أن يستعمل زيت جوز الهند وأوراق النيم - كبحاً لظاهرة تساقط شعره لدى هذه المنطقة الوسطى من رأسه، وإنها لظاهرة غريبة عن رونق الشباب ومثاليته، لقد كان كذلك لولا أن سمع طرقاً للباب عنيفاً غير مألوف فأزعجه أن يفد إلى حالته التي أراد لها وداعاً أخيراً واستقراراً أشبه إلى من يروم النوم أو التأمل من إخماد انفعالاته وتهيئة جوارحه - أقول أزعجه أن يفد إلى حالته هذه طارئ، ونزع رأسه من تيار الماء فشهق إذ هو كان يسد مجرى تنفسه لفترة، ثم مضى إلى الباب - وما كاد يفعل - يفتحه فيما تتصبب قطرات الماء الممزوجة بزيت الزيتون على مساره المنبعج، وألفى غادة قبالته تقول في لهفة :

- فلتجعل لي في بيتك منزلاً، لا أريد لحياتي أن تضيع أسيرة للرهبنة !

ومضت تدخل إلى فضاء البيت دون استئذان منه، ثم زَلَّفَت في حديثها تقول:

- أمي ترى أن عصراً يعيشه المسيحيون اليوم في الإسكندرية هو موصول بزمان الإمبراطور فاليريان من حيث الضرر والإجحاف ينزل بهم، أرادتني خادمة للرب عابدة له كيما أنصر العقيدة المستضعفة، وقد ارتأيت أن خدمته تكون في الدير وفي خارجه، إنها الرؤية التي لم ترق لها قط.

وقال فؤاد وهو يهب ساعته الجلدية نظرة :

- ومهما يكن من أمر الإمبراطور الأخير،.. فلا ريب أن أمك تبالغ كثيراً في وصفها !

وقالت الفتاة القلقة وقد وطأت قدماها موضعاً للماء وزيت الزيتون من مواضعه المتناثرة على صفحة الأرض :

- أراك تسفه من محنتي..

وكان يتقي النظر إليها - لما كانت بغير حجاب - عملاً بالتعاليم الدينية، لكن عباراتها الأخيرة استوقفته، فرفع إليها بصره يقول كأنما يعتزم الحركة :

- سأبلغ أمي بحقيقة الأمر، إنها ربة البيت وأول من يجدر إعلامه بما جدَّ فيه..

وانتفضت غادة كأشد ما يكون الانتفاض، ثم زَلَفَتْ إِلَيْهِ تقول :

- إنهما (أي هدى وأمها) صديقتان، يثرثان لساعات طوال في الشرفتين، إنك إن أخفيت سري معها تكون كمن أظهرته..

وأبدى فؤاد امتعاضاً فترك حقيبة السفر كأنما يزأر وينفعل :"وارحتماه.."، وسألها :

- كم من الوقت تختبئين فيه؟

وقالت في تأثر كأنما أُعيد إليها الأمل المفقود :

- إذا أنت تركتني حتى مساء هذا اليوم أكون من الشاكرات لصبرك ومعروفك.

واستأخر الطارئ نيته في السفر فعزم - في كراهة نفس - على تأخير الأمر ليوم آخر، ولكنه ما لبث أن وعى - متأخراً - أنه قد احتفظ في بيته بلغم، وقال لها حين دلفت إلى حجرته :

- أخشى أن تثور الأقاويل بين دهماء الناس، (ثم في استغراق يهيم معه في غِضاب الذهن..) الفتنة نائمة لعن الله موقظها..

وقالت في حماسة :

- هناك أُظهرهم على الحقيقة التي تعفيك من أية مسؤولية..

وقال لا يكاد يرفع رأسه :

- الغوغاء لا عقل لهم، وإلا لكان حقاً بهم أن ينتهجوا سبيل الرشاد، وأن يذروا ما هم فيه.

وسألته :

- لماذا أراك تخفض عني ناظريك دائماً؟ هل أن بي ما يشين؟

وقال وهو يعود يرفع رأسه نحوها في بطء :

- تكشفين شعر رأسك،.. فلتسمعي لي : لقد لهجت بالعبادة في الكويت ولا أريد لإثم أن يفسد صفاء حالتي هذه، استمسكت بالهدي الظاهر وصرت أحيط نفسي بمن لا يخالفونه، إن في المحنة وانقطاع الأسباب ما يقربك إلى الله، وقد لا يكون دافعك في هذا هو الإيمان العميق بقدر ما هو البحث والسؤال..

وكان في حجرة فؤاد ثمة طرحة أمه هدى تغطي كرسي الصلاة، أمامه سجادة خضراء مزخرفة في رسم قبة مسجد، وسألته أن تجربها فوق رأسها فأذن لها مرتاباً، وأغلق عينيه، فلما انتهت بدت في حجاب أقرب إلى ما عرف عن حجاب السيدة مريم، إذ أن غطاء شعرها مزحزح لمفرق شعرها فيما تظهر رقبتها بوضوح، وتطلع إليها - بعد أن فتح عينيه بإذن منها - وقد دارت به الأرض لتتابع الحوادث حوله وغرابتها، فأبصرها مضيئة الوجه كأن قِدَّة من حياة تتقد فيها، وإنه كذلك حتى سمع من ينادي :

- فؤاد ! أما زلت هنا؟

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

ونهض من فوره بعد أن حدس بأنه صوت أمه هدى، فجعل يسد بجسده منفذ الباب فيما سألته الأم الدخول تقول :"أبحث عن طرحة الرأس كيما أصلي صلاة الصبح،.. من أسف كيف فاتتني صلاة الفجر إذ ثقل رأسي حتى جاوزت يقظتي أوان الشروق.."، وأدرك أنها الحالقة فتركها تمضي بعد أن تراخى عزمه، وهناك ألفت قصدها (طرحة الرأس) على الكرسي مثلما كانت، دون أن يقع منها وجود الفتاة موقع العجب، وسألته على حين لم يفرغ بعد من عجبه :

- ألا تنتوي السفر؟!

وأجابها يتنفس الصعداء، متداركاً حين أبصر طرف فستان غادة يلوح من الشرفة المتصلة بحجرته التي تدارت فيها :

- لقد أجلته إلى يوم آخر، إن بنفسي لم يزل ظمأً إليكم وإلى المدينة، علاوة على أنني قد شعرت ببعض اللغوب والنَّصَب حين يقظت، ورأيت أن السلامة تقتضي أولوية الإنسان على مصالحه.

 

في موقع آخر، قريب..

وفي حجرة أخرى من حجرات بيت هدى كان بكر قد يقظ، جاءت له فردوس بفطور النهار، هذا المشتمل على خبز يابس وجبن أبيض وشاي أخضر، جاءته مضطربة في همامة نفس هذه المرة، كان الحديث الذي دار بين عبد الغني وبين هدى لم يفارق وجدانها منذ سمعته، إن بكراً لمحبوس في دارها وما هي إلا حارسة تصاحبه في الرائحة والغادية، لقد كانت كذلك لأيام دون حتى أن تدري، رعته في سذاجة وتعلقت به في وداد.. قاتل الله الطمع والطامعين ! كأنها عاشرت النمور دهراً فخالتهم قططاً وديعة مغمضة،.. هدى؟! من أين لها بمثل ذاك من طاقة الشر والتدبير؟ ولو نطق ضميرها المؤرق لقال كفى، وقد نزهتها تنزيه المحبة فوضعتها في منزلة هي والصالحين سواء، وعدتها أماً لها وإن لم يجمع بينهما نسب،.. وأحست يأساً من البشر حتى أنها لم تُعنى بموقع رأسها المواجه للشمس القوية، ولاحظ بكر اضطرابها وشرودها عنه فجعل يقول متفكهاً :

- كنت من الجوع حتى أنني تسليت بباقة الموز كلها، السليم الطازج منها وحتى المستوي الأسمر.. من الخير أنكِ قد جئت..

وهم بالانقضاض على الخبز اليابس - دون حتى أن يمزجه بالجبن - فأتى على سقفه وبنيانه المجوف بضربة - لا يأتي بها إلا نهم مفجوع - من يده، وهناك سمع فردوس تقول وهي تأخذ تزيح رأسها عن نطاق الأشعة اللاهبة، لأول مرة، كأنما تجشمت عناء الفكر - منذ اختلست السمع لحديث أبويها وحتى الساعة - فنضحت بصرامة تتنهي معها عذابات نفسها :

- لن أشارك في مسرحية بدور لم اُستشر في قبوله أو رفضه.. كلا.. وما ينبغي لحر أن يفعل.. 

وتعلقت لقمة الخبز في فيه محدثها كأنما يسألها :"ماذا تقصدين؟"، وقالت له في حياد كأنما تظهره على حقيقة جامدة :

- إنك هنا محبوس..

وقال عجباً، فنبذ ما أمامه من الطعام على جوعه فكأنما لم يعد يراه :

- غريب، إنني ما شعرت قط بأنني كذلك..

وقالت كأنما تفصح عن وزر تورطت فيه دون علم فتضيق به الآن حين تستعيده :

- أغرتني أمي برعايتك وملازمتك كيما تحبب إليك البقاء هنا فتظل تحت بصرها، كان سجانوك لطفاءً يبتسمون لك إذا هم رأوك، يهبونك حاجتك من الطعام، ويسهرون على راحتك،.. ولكنهم كانوا ليمنعوك لو حاولت الهرب.. (ثم وهي تحدق إليه في جدية تخفي إعجاباً لا يجد سياقاً مناسباً..) لقد كنت إذاً في قفص من ذهب !

وقال وقد بث الأمر ذهولاً في روعه :

- وماذا أرادت (هدى) في المقابل من هذا؟

- الأرض..

وقال عجباً :

- إن هذا محال،.. هل استوثقتِ من أضغاثك هذه؟

- سألت عبد الغني عن الأمر بالأمس فأطلعني على تفاصيله من كرسيه المقعد في صراحة وكمد، اليوم يفاوض أخي رؤوف والدتك في مقايضة الأرض بكَ.

وقال وهو يبصر قرص الشمس غير المهادن في حراراته :

- لن ترضى أمي بلي ذراعها، إنها صعبة المراس.

وقالت فردوس :

- ستلين شكيمتها حين تلتاع عاطفتها، اليوم أو غداً،.. ويجب أن نكون أسبق إليها من ذاك، وإن وضعت امرأة سوية أمام قرار الاختيار بين الأمومة وغيرها آثرت الأولى.

وضغط بكر على أسنانه السفلية بالعلوية يقول بعدئذٍ في عدوانية ظاهرة :

- الويل لأهل المدينة ! حذرتني منكم أمي مراراً، وليتني أخذت بنصحها.

- فات أوان الندم،.. لسنا نسيجاً متشابهاً وإلا لمَ أساعدك؟

- وما العمل؟

-  لابد من حرفة لتخليص الحق..

وإن هي إلا دقائق من اختبار حدود السياقات، وتصور آفاق المآلات، حتى سمع صوت تأوه في الحجرة عظيم يقول :

- "لقد التوت ساقي المسكينة، آه.. تداعى - لأجل ذاك - سائر جسدى، فليخلصني أحدكم من ألمي، فإذا لم يشاطرني وجعي فليحملني إلى طبيب.." !

وحمله فؤاد إلى خارج البيت يقصد أن يصل به إلى من يداويه، وجرت مناوشة عابرة بين فردوس وأمها هدى- التي كانت قد فرغت لتوها من صلاة الصبح - في صالة البيت، قالت لها في قلق بادٍ :

- كيف التوت ساقه في حجرته؟

وارتبكت فردوس، ثم أسعفتها بديتها أن تقول :

- غسلت الأرض ونسيت أن أجفف الصابون، كان في اضطراب النائم حين يقظ فلم يلحظ مواطئ خطاه التي انزلقت.

- لا تتركيه يمضي دون متابعتك..

- سأفعل..

وهبطت فردوس إلى باب البيت حيث كان فؤاد دهشاً من تحسن حالة المصاب (بكر)، حتى ظن بمحموله الخبل والمزاح الثقيل، وهمس (فؤاد) متأثراً بلواذ جارته غادة به، ثم بما يراه الآن :"اليوم أغرب أيامي.."، وقالت له فردوس :

- لا تقلق، لقد كنت رسوله إلى الحرية، دون أن تعلم.. (ثم وهي تزلف إلى بكر الذي عاد إلى المشي الطبيعي) لا تصم أهل المدينة ولا تنساني، إن منهم من صفدك وقيدك، ثم أن منهم من رعاك وحررك !

وكان بكر عجل الخطى يسابق الزمن كيما يسارع إلى أوبة منيبة في غلالة شوق إلى منزله الريفي، وإلى أمه تسنيم التي بات يقدر لها بعض أمور، فجعل يقول قولاً قصيراً مقتبضاً، عطفاً على قول الفتاة، كأنما حملته رؤية السياق الكامل لما وقع له على حسن الحكم والاستيعاب :"أجل، وهما لا يستويان.." !



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق