استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/18

كوخ رائع في قلب البحر

                                                          الفصل الواحد والأربعون: كوخ رائع في قلب البحر


في الكويت..

تجلد فؤاد في إقامته بالكويت وتجشم في زيارته الثانية عناء الغربة، كان مدفوعاً بفكرة : العودة التي تجر عليه الخزي، والمضي في طريق بلا نكوص، وأخذته نوبة إيمانية عميقة - شجعه أمجد على إدامة شعائرها - وتجلت في صلاة السنن وإحياء التراويح، وارتدائه للعباءة والغترة، واستقبله أمجد يقول :

- أهلاً بمولانا فؤاد..

وابتسم يقول :

- ليس إلى هذه الدرجة..

كان الأطفال بالشارع يلعبون الدرباحة مستخدمين إطارات الدراجات المستعملة، يسوقونها بالعصى، ويتبارون فيما بينهم، وسرعان ما وثب إلى خاطر فؤاد - في حين يتأمل حركة هذا الإطار كأنه حية تسعى - قصته مع حسني، مؤجر الدراجات الذي أراد أن يكرمه بتحقيق حلمه، وكيف وشى به، ثم ما تتابع بعد ذاك من الفصول : مرض أبيه عبد الغني، فسفره إلى العراق والكويت، لقد فكر في كل أولئك فبدا ساهماً، شارداً، لولا أن أمجد باغته يقول :

- لقد أضاع السادات القضية في خطوة غير مسؤولة..

وقال فؤاد :

- لعله أراد أن يقطف ثمار الحرب..

- قطف الثمار لا يكون على حساب المبادئ..

- لقد حدثتني عن البودريا، إنها واحدة من الخرافات البحرية التي عرفتموها هنا (يريد الكويتيين)، قلت لي بأن شطرها على صورة آدمي، أشبه إلى عروس البحر، وأما صياحها فمسموع، تتمثل صورة الغريق، حتى إذا جاء المنقذ تعمدت إمساكه وإغراقه، إنني أرى المسؤوليات العربية كالبودريا التي أغرقت بلداً فقيراً كمصر، وأورثتها فشل الاقتصاد والبنية التحتية..

ولم يسر أمجد فطفق يقول :

- لا يريد العرب إغراق مصر، وإنما قدر عليها أن تكون رأس الحربة ودرة التاج، إن هذا تفكير يقطر بالأنانية،.. (ثم بعد صمت) فيم كنت تفكر؟

وأجابه فؤاد إلى سؤاله يقول فيما يبصر دشداشته (ثوب واسع من القطن) البيضاء كأنما تبرق من فرط النصوع :

- إنها قصة طويلة، تبدو الحوادث غير العادلة التي يمر بها المرء في ذاكرته كمسمار جحا، تقتنص الفرصة كي تعود تنبثق من اللاوعي إلى أن يئن وقت يتجاوزها فيه الزمن فيعلق خاطره بغيرها، وهكذا دواليك،.. وقد يتساءل المرء : متى يجيء الوقت الذي تصير فيه مسيرته قد اجتازت حدود المواقف العابرة؟ أعني حين يصير مشمولاً بنعمة يتضاءل جوارها الصغائر من المنغصات، وأراذل البشر، وسفاسف الأمور،.. إننا نزيد في أعمالنا المفيدة كيما نقلص من شعورنا بالخزي..

ولاحظ أمجد اهتمامه بدشداشته فجعل يقول :

- كل شيء يبدأ من الأسرة العضوية، المنزل يضم أفراد أسرتي وحتى الجد والجدة، لدينا مجلس الديوانية حيث نتبادل أطراف الحديث.. لماذا لا تتزوج؟!

ولم يسعف الزمن فؤاداً كيما يجيب إذ حضر رمزي (مالك الحانوتين) فاستقبله أمجد استقبالاً حاراً، وتوافق الرجلان على القدح في سياسة السلام، والإزراء من رأي فؤاد حد التسفيه منه، وتجريده من الوجاهة والاعتبار، وقال أمجد :

- العاقل يتوق إلى وحدة إقلييمة عربية يمسي فيها السير من الشام إلى بغداد، ومن نجد إلى اليمن فتطوان، بغير تأشيرة سفر، لن يفرقنا الدين، ولا بارك الله في اتفاقية سايكس بيكو التي فرقت نسيج بين الأمة الواحدة..

وقال رمزي كأنما يوافقه :

- أجل، فكر بالأمر : لقد كانت الكويت يوماً جزءاً من العراق..

وقال أمجد :

- كلا، لم تكن كذلك..

- بل هي المحافظة التاسعة عشرة..

- إنني أقصد شيئاً أكبر وأعظم، وأنت تحدثني عن العراق والكويت؟

ووقع الخلاف بين الرجلين المتحمسين، وانصرف فؤاد عما شجر بينهم إلى المسجد يصلي صلاة المغرب وقد انطبع على فمه ما يشبه ابتسامة الرثاء.

 

في الإسكندرية..

روى بكر وقائع سفره الغريبة الطارئة إلى الإسكندرية، وكان الفتى من حسن الظن بمستقبليه حتى أنه أفرد في تفصيل الأمر بغير احتراس، فلما انتهى من أحوال القص، سأله عز في ذهول يأخذ صورة التقريع كأنه يستخلص بعضاً مما سمعه :

- هل تقول لي بأنك سافرت إلى هنا بعد أن عصيت أمر والدتك، وأنك في السبيل إلى الإسكندرية سرقت طعام امرأة؟

وحدق إليه بكر - كالخجول من اقتراف ذنب أو ذنوب - يقول :

- إن هذا حقيقة ما قد وقع..

وقال عز في لهجة آمرة تصدر من جسده القوي كأنها الفرقان بين أمرين:

- ستعود، اليوم !

وطلبت نور من زوجها الانفراد به، ولما كانت كسيرة الساق فقد عنى هذا انصراف بكر عن الحجرة، وحين تم لها ما أرادت، قالت :

- لماذا لا تنظر إلى الاعتبارات نظرة حكيمة فاحصة؟ لقد جاءك مستغيثاً بك في المدينة الغريبة عنه، فقد أباه ثم ثقته في أمه بعد أن تزوجت بغريب رغماً عن مشيئته، الطبيب قال بأنك لا تنجب، هل نفرط في الفتى الأصهب؟

ولكن عزاً لم يبالِ بكل الاعتبارات التي ساقتها المرأة في سورة من الانفعال الصادق، والإحساس الطبيعي لديها بالحاجة إلى الأمومة، وتركها في حيرة الإيحاءات المبهمة وعاد يبث في بكر رغبة في الانصراف غير صريحة، ولما جاء الغد كان بكر قد انصرف عن بيت الاثنين وقد ترك على طاولة لها مفرش قطيفي مزركش خاتمه، ونحت نور على عز باللائمة لسوء معاملته للفتى المنصرف، فتبرأ مما ألقته على عاتقه من المسؤولية، وأزادت تعاتبه - تتأبى أن تخرجه من نطاق المؤاخذة - وهي ترنو إلى المفرش المزركش وما عليه :

- لقد سقته إلى ذاك تلميحاً لا تصريحاً، إنه فتى أمين حتى أنه ترك الخاتم.

وقال عز لها :

- بل أعاد ما كان لي، وفعل خيراً بانصرافه عنَّا..

وقالت وهي تهب حمرة الغسق نظرة من موقعها المكتف المقيد على هذا السرير :

- رحل دون أن يبدل لباسه الرث، فوأسفاً على حاله..

وقال :

- خليق بي ألا أحمل عهدة عصيانه فوق رأسي..

وقالت :

- حببت إليه السفر فما أن جاءك تاركاً أهله وحاله حتى جفيته فتملصت منه..

وقال فيما يشتد حديثه - لأول مرة - وقد كان العهد به أن يلين بحديثه معها في مرضها :

- فلتكفي عن نخز ضميري بأشواك حديثك !

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

ما أن ترك بكر بيت عز حتى هام على وجهه في أحياء المدينة الغريبة مدفوعاً بالخوف والشغف، كان لا يعرف قَبِيلاً فيها مِنْ دَبِيرٍ، ومكث يستعيد حديث أمه تسنيم عن أولئك الحضر النصابين الأفاكين من أهل المدينة، ووثق انطباعه عنهم ما لاقاه أول نزوله بها من جفاء عز، فكانت سلامته منهم - آنذاك - همه ووكده، فلما جاز حال الرهبة الأولى باختلاطه إلى من هابهم، وألف إلى حقيقة وجوده بمعاشرته من أوجس منهم، في اليوم التالي أو بعد التالي، سقطت مخاوفه عن الاعتبار، وتسربت إليه طمأنينة أخذته معها نشوة مسكرة تعز عنها الأحلام، فكأنما غرق في الشهد ومتاع عظيم، وكان - على الحقيقة - أشبه إلى خيل انفرط عقاله في ساحة فتحرر من سلطة صاحبه يرتع ويلعب في أرض وسيعة جديدة، لا يكف عن النهول حتى يستزيد، ولا يرضي إلا الإشباع في أفق ممدود، كأنما ساقته رغباته وغرائزه فعبرت به أسواراً خالها طويلاً لا تُعبر، في لذة تنداح فترضيه، ونشوة تغمره فتأنسه، فلا هو قد أصيب بصدمة حضارية ارتد معها إلى كهوف الماضي، وإنما حاله أشبه إلى من عايش مستقبلاً انتظره فبهر به وعجب، لقد بصر بصوامع الغلال الحديثة وفي ذهنه أذيال صورة الشُّوْنَة الريفية، وكان مما حبب إليه وجوده الجديد رؤيته الترام الأصفر بحركته الوئيدة بين سوق الساعة، يمضي على مهل وتأدة فينتظر انصراف الباعة عن مساره المستقيم، فإذا هو عبر النطاق المشحون بالباعة والهندام المعلق انتهى إلى عَمُود السواري - أطول النصب التذكارية في العالم - وما بعده، فإذا هو قارنه في نجواه بالقطار السريع في أبي تيج، بصفارته المخيفة المفزعة، ارتأى في الوسيلة الأولى أمناً شاملاً، وسلاماً مقيماً، وانتهى به المسير يتلقى الإيحاءت من الصور ومن الأشياء إلى كازينو الشاطبي، في صورته الخرسانية المسلحة بعد أن أعادت البلدية بناءه في العام 1952م، وحاول الولوج لولا أن استوقفه من ازدرى صورته الرثة، ونقم عليه فروغ جيوبه من المال، وإنه لفي أسف وحيرة وخجل، حتى أتاه رجل له ميسم موقور، وصورة مترفعة متأنقة، وفي صحبته من الرجال الأشداء - كأنهم حرس - اثنان، وإنهم أتبع له من الظل، فلما أمر المعترض بكشف هذا الحجاب عن الفتى طاوعه، ونزل لدى طلبه في انصياع أشبه إلى رضوخ القوي للأقوى،.. ودلف بكر إلى عالم اطلعت فيه عيناه - في سابقة لم يعهد مثلها طوال حياته - على امرأة غير مستورة، لا يخفي ستارها القصير شيئاً من مفاتنها، ويتجلى على نحرها عقد من حبات كالدرر الحمراء، وأصابه مما رأى خجل عظيم، وتذكر حديث أبيه نوح يلقنه إياه :"ليس العلم بكثرة المسائل وإنما العلم الخشية.." فغض البصر عنها واستعفف، وقصر الطرف عن مماهة نفسه، فيما يأتيه الرجل الذي أذن له بالولوج إلى العالم الذي أخجله يقول:

- كنت مثلك خجولاً حين أتيت إلى هنا، لابساً ذات الهندام الرث، حتى إذا ألفت ثقافة القوم فما عدت أرى فيها استثارة ولا عيباً.

ولاحظ أن الفتى لا يزال يباعد ناظريه من تبرج المشهد، ومجون فصوله، وقال فيما يرتفع رأسه :

- أوصاني أبي بالتقوى والزهد،.. لقنني ما  لا يُكتب بماء الذهب، ولكن يُكتب بماء العيون.. حاشا الَّلهَ من أكون بطالاً ضلولاً..

وسأله فيما تصمت الموسيقى والأغنية هنيهة فيصير من الممكن تمييز هَسْهَسَةُ حُلِيِّ الراقصة التي لم تتوقف عن الحركة بتوقف الاثنين :

- ماذا يبقى من المرأة إذا ضربت عليها خماراً يخفي منها كل شيء؟ رأيت هذا في بلادنا، مثلما رأيته أنت.

 وعاد بكر يرفع رأسه إلى ما قد كرهه في خجل أخذ يتوارى تدريجياً من تكرار رؤيته للمشهد المألوف، يجيب السائل إلى اعتراضه :

- من جاز الحد كمن قصر عنه لأنهما خالفا الحد جميعاً، وطبيعة الرجل كامنة فيه لا يثبطها إلا إذا تخلى عن رجولته.

وربت على كتفه الآخر، ثم قال :

- أتيت إلى الكازينو حين كان في ثوبه الخشبي القديم، كان خليقاً بك أن تراه على حاله النقي، وطوره الأول، ليتك كنت هناك، لقد بُني في حدود العام السابع من هذا القرن، كان أشبه إلى كوخ رائع في قلب البحر، ورمزاً للمدينة بأسرها على «كروت البوستال»، وقد ظلت صورته البهية المشرقة تلازمه مدة، لقد جئت إلى الإسكندرية بعد أن مات أبي بسرطان المعدة، أرسلتني أمي إلى هنا ثم أردفتني بأخي،.. حقاً.. ما أشبهك إليّ ! لقد أذنت لهم بإدخالك لأنك كنت شديد الشبه بي أوائل عهدي بالحياة في الإسكندرية،.. ولأخبرك باسمي : ثروت الخرباوي عسى أن تعود إلى هنا يوماً فتطلبني به.. ماذا جاء بك إلى هنا، أيهذا الغريب؟

وقال بكر، متلجلجاً في مصارحة من لم يطمئن تماماً إليه بمرامه :

- أبحث عن قوم روى لي أبي عنهم طرفاً، ولم يكمل، كان عمره آنذاك متقدماً، وحديثه ملتبس غير مفهوم، ولم أستبن منه الحقيقة التي أردتها، على ما تبدّى لي من أهميتها..

وبادره الرجل إلى قول أخافه وبث في روعه :

- حاذر أن تبحث عما يؤذيك !

كان المغني قد انتهى من إنشاد أغنية شعبية لعدوية تزامنت مع انتهاء الحديث بين الرجلين، وفزع بكر بغتة بعد أن ألقى على الراقصة نظرة أخيرة، فجعل يعدو تاركاً الكازينو فيما عاد الرجل الآخر يستأنف الجلوس في رزانة.. 

 

 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

  

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق