استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/26

ها قد ذقتُ من كأسك

  الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك



لم يترك مراد إقامته في بيت سموحة ذي الحجرات الفساح إلا وقد قطع آخر العرى بينه وبين تهاني، كان طلاقه بها مباغتاً تماماً كزواجه، أوصى أدهم بحسن الاهتمام بها، وصد الأذى عنها،.. ثم عاد إلى بيته وقد هدأت نفسه كما يطرب النَّشْوَانُ من نشوة الخمر فينسى ما يكدره، وقد حسب نفسه قد تملص من خطأ تقدير في وقت مناسب كربان سفينة يغير مساراً لها فيتحاشى جبل الثلج، لقد كان طلاقه بها - هكذا اعتقد - أسبق من وشاية أخوتها إلى زوجه، استقبلته أميرة حين عاد استقبالاً فاتراً، وقالت له حين جلست إلى مائدة العشاء :

- هل تعرف كازانوفا؟

وحدس بأن في الأمر شيئاً، لكنه ترك صحن الكاليماري وابتسم يقول :
- أجل، سمعت عنه..

وعاد إلى صحن سلطة الشمندر بخل التفاح فسمعها تقول :

- أما ترى بينك وبينه من وجوه للشبه؟!

فارتبك وجعل يقول :

- أنتِ مكثارة مهذارة، هذه الليلة..

- هل تعلم أنه (أي جاكومو كازانوفا) كانت له تجارب مع النساء بلغت زهاء 565 أنثى؟ كان شاعراً في بلاط الحكام أيضاً في باريس وبرلين ووارسو وبودابست، ألا تكتب أنتَ الشعر أيضاً؟ لازلت أتذكر نثيرتك التي تنبأت بزواجنا.

وحمله التوتر على أن يشرب السيجار الذي سرعان ما تعقدت سحابته الرمادية وتصاعدت إلى السقف القريب ثم ارتدت في حركة لولبية، قال حينذاك :

- أحسب أنني مسكين بريء قياساً إلى ما قد خاض فيه صاحبكِ..

وقالت قولاً حمله على مزيد من التوجس حتى لم يعد يحتمل أكثر :

- بل الجوهر هو الجوهر، كلاكما حفلت سيرته بالغراميات الرائعة..

وقال :

- فلتقصدي إلى الأمر رأساً ودون حاجة إلى التفاف يهدر أوقاتنا، لقد تزوجت بتهاني، إنه أمر أبوء به، وقد طلقتها اليوم، كان يجب أن تري وجوه أخوتها المكتنزة - هاته الكريهة التي يشيع فيها استهتار البطر -حين كانوا يجيئونها طالبين بالقوة ما لديها من نعمة، لست كازنوافا قط، بل أنني من النبل الذي حملني على نصرتها حين عدمت دنياها من مُستنجِد.

وضحكت المرأة في استهتار تقول :

- مرحى للمنطق الذي تصدر عنه فيجعلك كالملاك المنزه ! ولو قُدر للإله أن يحكم بميزانه على البشر لصاروا جميعاً إلى جنته، ثم ضجت النار بخلوتها.

وركل الرجل قائمة الطاولة فاهتزت الصحون بما فيها يقول :

-  لا ريب أنهم (أي أخوة نرمين) جاءوك فهمسوا في أذنك بما صيرك ظانة بي الخيانة الصريحة، الأوغاد لا يكفون عن الأذى.

وقالت بعد أن تستعيد الأشياء استقرارها في هدوء :

- لقد همسوا في أذني بالحقيقة التي أخفاها عني حسن ظني بكَ.. لم أعرف زوجاً مخلصاً في حياتي خلا أباظة..

وقال مراد في غضب نأى به عن الحكمة :

- كان جندياً فاشلاً، لقد غرق في بحر القنال عند أول اختبار..

وزادها غضباً على غضب فكأنما انتقلت من السياسة والمكايدة إلى المجابهة الصريحة :

- ويحك ! تحدث عن المخلصين بما يليق بهم، لقد ترملت من بعده والحرب ميأمة.

وقال كمن ينوء بالإجحاف فيجيء صوته من الأعماق محشرجاً :

- ويل لامرأة تحفظ لمائت حقه وتجور على العائشين !

كانت تهاني بعد إذ هي عادت إلى حياتها المنفردة قد أخذتها نشوة العبادة، وانجرفت إلى تيار التدين حين شاهدت برنامجاً اسمه : نور على نور، لشيخ بدا بروزه على شاشتها جديداً (الشعراوي)، كانت توبة أدهم عن آثامه المنصرمة توبة نصوحاً فحال بينها وبين القوم المعتدين، وإن لم يشاركها عين المظاهر نفسها، وكان يسمعها تبكي في الفجر لشعورها بالإثم القديم : تورطها في الزواج بزكريا، وإن كانت تدعو له بالرحمة لكونه من "أهل الكتاب"،.. وحين هدأت سكرة الانفعال حفظت لمراد صنيعه في حمايتها، فنسبته إلى الأخيار وكشأن الرجال جميعاً له ما له وعليه الذي عليه، وقد حمله (مراد) هذا على الاستعانة بها على جبر الخلاف بينه وبين زوجه الغضوب (أميرة)، جاءت بيته وقد ردت برقعها الأسود عن وجهها فطرحته على رأسها، وقالت لمراد :"اذهب، إنه لاجتماع بين امرأتين.." فلبى مطلبها، وفتحت - حين اطمأنت إلى رحيله - ملاءتها عن صدرها، فألقت بطرفيها وراء ظهرها، تقول لأميرة:

- الحق ما نطق به الرجل..

وقالت الأخرى لها :

- بل لا يكفي سببباً يتذرع به، ما كان له أن يتزوج بأخرى عليَّ..

وقالت تهاني دون أن يوغر صدرها أن تكون "الأخرى"، متأثرة بما جد من ثقافتها الدينية :

- مثنى وثلاث ورباع، تزوج الرسول بالأرملة سودة وقد كانت بدينة بلا جمال أو حسن..

فما كان جواب أميرة إلا أن نظرت إليها في ارتياب، ثم قالت كأنما انصرفت عن المغزى إلى الثانوي في الوصف :

- ولكنكِ تبدين جميلة !

 

 

في باريس..

كان زهير قد نقل أدواته الفنية : حامل خشبي للرسم، وأوراق،  أقلام الفحم، وأقلام الباستيل، وأقلام الجرافيت، وأعواد الكونتي الرصاصية البيضاء والسوداء، والبنية المحمرة، والبنية، والبنية الداكنة - أقول قد نقل كل أولئك من حجرات البيت إلى حديقته، وانهمك في الرسم لساعات طوال حين أتته إيفون تزجي الخطى وتقول:

- "أما كفاك ما مضى من الأزمان التي انقضت وأنت على هذا الانكباب؟ هلا تذكرتَ أن لكَ قرينة؟".

وقال يتنسم أنفاس النسيم :

- "الفنانون الحقيقيون هم أشبه إلى رهبان في صوامعهم من جهة الإخلاص، ثم أن لهم مواهباً هي كالعضلات تترهل بالإهمال..".

وعرج في حديثه إلى الفنان الفرنسي بيسارو، هذا الذي لم يسمح لعضلات فنه أن تنكمش وتتصلب، على تقدمه في العمر، فكان دائم التمرن في سبيل مجاراة التطور ومباراة شباب المدارس الحديثة في زمنه، ولكن الفتاة المنزعجة بانصرافه عنها لم تلقِ بالاً على الحق لما سمعته، وحتى لقد بدت شاردة عنه فيبدو أن بمقدور سائل أن يستفسر عما فهمته من حديث الشاب دون أن يظفر منها بأي جواب، وأتبع زهير - غير واعٍ لحالة من أمامه - يقول :

- "سأسميها (أي اللوحة) زهرة الجلنار ( زهرة الرمان) !".

وسألته في غضب محموم :

- "أما أمكنك أن تصطفي عملاً يكون نمطياً فاتراً، كالخباز يصنع أرغفته عادية دون تنميق، انظر إليَّ : إنني أمينة مكتبة راضية، ولتفكر بالأمر : إن أكثر من يشقون هم أبطال القصص من جهة أنهم يتصدون للعبء الأكبر، طوبى للثانوي من الشخصيات، هاته المنسية المستترة، إنها لتنعم براحة البال وصفاء الروح، إنها إذ احتفظت في باطنها برغبة خيرة في احترام الأعراف والحرص على السعاة الإنسانية، فماذا يعيبها؟ ولو سألت نابليون في منفاه فى جزيرة إلبا : هل تروم حياة إنسان عادي؟ أو قصة تقليدية كسائر القصص؟ إسكافي مجهول في باريس؟ أو موظف بريد في بوردو؟ لجثى الرجل عندك يطلب هذا الفردوس الذي افتقده بين الخيبات والخسائر، أجل، إنني زعيمة أنه سيفعل،.. إن المجد مهما بلغ أوجه وبريقه لأدنى من أن يدفع المرء حياته ثمناً له، من ذا الذي يُعنى بأن تحتفظ به الذاكرة الإنسانية في وقت يكون فيه مائتاً منتهياً إلا أحمق نرجسي مخبول؟ قد تقول بأنني سألمس السماء وأجنَى إكليلَ الغار وأن الأمر يستحق كل جهد، وأقول لكَ إن السماء وهم صنعه نرجسيون لهم عين الزعم المختال، إن خير لحظات الابتهاج هي أبسطها، كنسمة شاردة، أو ابتسامة طفل، أو زهرة مورقة.".

ونظر إليها في غير اهتمام حقيقي، كان يظن أنها تردد "فلسفة أن تكون لا شيء" التي يمقتها، ويجاهد نفسه على أن يتنكر منها ويزري بها، ولكنه لما كان راغباً عن أن يزعجها صمتَ وعاد يرسم، وأخذ يضيف إلى لوحة زهرة الجلنار مزيداً من الخطوط البينية الخفيفة التي تضيف - في ظنه كثيراً - وإن كانت لا تضيف -  للرائي العادي - شيئاً ملحوظاً ذا بال، كان جوابه الصامت - في الحق - غير عامد إلى إغضابها، والصمت أدنى مراتب الجدال، ولكنها ارتأت فيه مزيداً مما كانت تكرهه وتشعر به في معية الشاب : أن الفن يسبق العاطفة في حياته.

انقطعت إيفون عن الظهور مدة في حياة زهير، قدرها الشاب بأسبوعين عجاف، وقلق للأمر قلق من يفقد بعد حوزة ما كان يظنه أبدياً غير قابل للضياع أو الخسران، لقد انقطع عن إكمال الخطوط النهائية في لوحته التي رأى فيها الخبو والخفوت على إِزْهَائها الأحمر، لقد فتش في سُّدْفَة هذا الليل عن فتاته، سأل عنها صديقتها ذات البشرة  البرونزية والأصول الموريتانية : ميمون في المكتبة ذات التهاويل الملائكية، فأجابته بعد ابتسامة أبرزت أسنانها البيضاء - التي كانت تبدو أكثر بريقاً لتناقضها مع لون البشرة السمراء - بانقطاع المرأة عن عملها منذ فترة، وأردفت تقول :

- "رحلت (إيفون) دون أن تترك أثراً واحداً، لا ريب أنني سألومها حين التقي بها، شغر المكان فاحتيج إلى من يشغله، تركتني بين رفوف الكتب الغبراء، لقد بت أمينة المكتبة عوض عنها، الأمينة الموريتانية الأولى في باريس !".

وهنأها في تصنع وإن احتوت بواطنه على ريبة لا آخر لها، وحين ترك المرأة فمضى عنها بضع خطى قلائل ترامى إلى أسماعه من يناديه بصوت رصين، يقول :

-"أعذرني، بُني، اسمي جبريل إنني والد ميمون، أودعتني إيفون رسالة حري بي أن أنقلها إليك، زعمت أنها قد لاذت بالحياة العادية التي لم تجدها معك، لقد تمنت لك التوفيق..".

وأمسك زهير بقميص الرجل في عنف يقول : "ماذا تقصد بالحياة العادية؟"، فلما لم يجد جواباً أعاد السؤال على الرجل الذي بدا محايداً كأنه يريد أن يواسيه في نظرة عينيه التي كانت غائرة المغزى، متحجرة المقلتين.

لم يصدق زهير الأمر إلا حين أبصر الفتاة رفقة عشيقها الجديد، كانا يتنزهان في عين المكان الذي جمعت فيه الصدف بين الاثنين أول مرة :  ساحة place du tertre، وزادت نقمته حين علم بأنه زائر المكتبة ذي القميص المشجر والأسورة النحاسية، وجعل يهمس في وعيد :" لم يكن طالب كتاب قصة الحضارة، كان يطلبها هي.."، وجهد النفس أن يمنع نفسه من خلق المشكلات فاعتصم بكل الحكمة يواري بها شعلة النقمة تمور في ذاته، حفلت مناماته منذ يومئذٍ بشر الكوابيس، كان يحس لها جسمه بالخدر، ويعرق لها وجهه وجبهته، رآه يلمسها كما يلمس الوثني الصنم على فراش زينت خشبته الخلفية بصورة الشيطان أعور، ولكن نفسه هدأت - في منامها - حين ألفى أخاه حسيناً في ظل شجرة خارجية قرب مسطح مائي فاصل، فهتف به هتافاً أزعج شيطان الأحلام السيئة دهار - هتف به يقول :

- ها قد ذقتُ من كأسك.. 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق