استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/24

كدت أفقد الأمل في لقياك

                                          الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك


كان بكر قد وقف أمام دار رؤوف البيضاء حين لحق بأمه الغاضبة يريد الحيلولة بينها وبين ما اعتزمته من الفتك بالفتى الذي ساومها وأزرى بها، يقول وقد غاض معين طاقته :

- فلتفكري مرتين قبل أن تقدمي على ما لا اعتذار منه..

وخفضت المرأة بندقية الصيد فأمسكت بها من قنطرة الدبشك الخشبي في غير حرص كشأن من تظاهر بهتاناً بنبذ العنف مرجئاً لحظة انقضاض، ثم مضت فدفعته (بكر) في مناورة وصبر أيوبي كتوم، وخلا طريقها إلى الباب فدقت عليه متربصة الخاطر، فلما فتح رؤوف أصابه الهلع حين رؤيته الناشنكار الأمامي موجهاً بين عينيه المذهولتين، هناك عاد بكر بين السلاح وبين هدفه ورفت عيناه وتحركت هدب جفونه تحركاً قلقاً، كان شعور المرأة بالغضب الذي يسوقها آنئذٍ طلسماً ليس له من مفتاح ولو كان أعز من في حياتها هو نفسه من أراد فكه.. وقالت :

- أراد أهل المدينة سرقتنا كالعهد بهم : انتهازيون، مستغلون، وأنذال، إنها شنشنة نعرفها من أخزم، إلام ترضيهم وتدافع عنهم؟ هل سحروا لك أم أغراك بحرهم العظيم؟

وأجابها بكر كئيب الجبين وقد شحذ تقريعها له قريحته :

- عرفت مما عرفت هناك أن الفدادين في الأًصل كانت ملكاً لرجل سكندري، بهاء الدين اسمه، كانت هذه حقيقتنا التي أخفيتِها طويلاً،.. فلترفعي بندقيتك في وجه أشياع غانم، إنه أولى بها من الفتى المسكين (رؤوف)..

وفتح باب البيت الطيني المجاور فَلَاح منه رجل يقول :

- أجل، فلتوجه زوج العمدة الراحل سلاحها في وجه المجرم الحقيقي : رضوان نجل غانم !

وبدا أن المتنصتين السامعين كثر فسرعان ما سرت حركة الأبواب التي تأخذ تنفتح - كالعدوى - فينكشف عنها فلاحون بملابس رثة يقفون أمام بيوتهم الطينية ولا يزيدون، كانوا بوقفتهم مؤزرين للاتجاه الذي يقول بأن آفة الريف تكمن في الريف نفسه، وابتهج رؤوف ففاضت نفسه بسرور أشبه بمن ينجو من حكم الإعدام وهو واقف أمام المقصلة لأمر فوقي يجيء به من يعلنه في لحظة فارقة هي دون التنفيذ بهنيهة، وقال (رؤوف) :

- سأقف معكم، ولتضربوا صفحاً عما كان من زللي !

ولكن المرأة أشارت إليه أن اصمت، وسمع صوت هرج من جهة بيوت الطين تمخض عنه من يقول :

- لقد انتهى نوح كشهاب لامع طواه النسيان، وإذا توزعت بطولته على كثرتنا وازيناها مثابة أو زدنا عليها. 

وزحفت جمهرة الفلاحين إلى مكتب العمدة يتوسطها بكر الذي سار بدوره مزهواً راضياً كأن الأرض كلها ملكه، لم يكن لبكر شخصية نوح الآسرة المتحدية لعجز النطق بروعة الإلهام ولا أنه أراد الصدارة من وجه، كان ريفياً عادياً محباً للمدينة، عجيبة البحر المتوسط التي زارها وفرَّ منها دون أن يحمل لأهلها بغضاً،.. وأطلق الخفراء وابل الرصاص على من جاءوهم بالفؤوس والمناجل فسقط من سقط، ولكن بكراً احتد هاتفاً :

- ما النصر إلا صبر ساعة، ولنجنِ في ريفنا أزهار الزنابق والسوسنا، ولنمرح بالغدير دون تحكم أو تسلط من أحد، كونوا أقوياء مغاوير، فليس من خفاش بوسعه أن يقاوم النور.

لم يصمد رضوان ومن معه طويلاً، وقع النصر للكثرة المستعضفة على القلة القوية، فر رضوان - كدأب الجبابرة يخرون سريعاً - من الباب الخلفي، وتخبط في رجاله في يوم نكسته كالقدر المحتوم يسوق الضليل، وكعادة الغنائم تُوزع بعد انتهاء الحرب الضروس، جعل الريفيون يتناقشون حول خليفة رضوان، يتفق الغاضبون على من يبثوه كراهيتهم ولكنهم يتفرقون ساعة البناء، كان بكر الوريث الطبيعي لأبيه، إن العمودية قياساً إلى عمره وتكوينه كثوب زفاف فضفاض تتزين به مراهقة،  ولما كان الأمر أكبر بكثير من طاقته فلم يتحمس قط له، كان شغفه بالمغامرة فوق تطلعه إلى السلطة، وعُدت الأصوات فتساوت الأيدي المرفوعة تؤيده مع هاته التي ترفضه، وقالوا بعد مشاورة :

- وليكن وافد المدينة (رؤوف) حكماً بين الفريقين المتعادلين..

كانت تسنيم قد تخلت عن خوفها الزائد على نجلها، أغراها الموقف الظافر المسحور بأن يخلف نجلها موقعاً مرموقاً قد شغر، علاوة على حقيقة أنه خير من يضمن لها مستقبل الفدادين، وحياة بلا قلاقل، وليتعمد بما قد سال من الدماء المخضبة، وقالت معترضة :

- لا يمكن لحضري خائن كرؤوف أن يحدد مستقبل الريف..

ولكن بكراً مضى ينسل بين الفلاحين إلى حيث بلغ مبلغ الشاب الخائف فهمس في أذنه بحديث لم يستبنه أحد، ودخل رؤوف إلى قلب المعمعمة بخطى المتخوف يردد ما قد سمعه لتوه :

- سيتناوب ثلاثة من أهل الريف الثقات الموقع،.. سينتهي جبروت السلطة حين تحملها أيدٍ جمة..

واعترضت تسنيم تقول :

- بل هو باب للتنازع والفوضى لا ينتهي..

 

             اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

ولكن صوتها وسط الحفاوة بالقرار الجديد لم يكد يُسمع أو يُلتفت إليه، ودمعت مآقي الفلاحين فرحاً وسط تيه المرأة المتطلعة.

 

بعد أسابيع..

أحرقت تسنيم عقود نقل ملكية الفدادين - التي أخذتها من رؤوف قبل أن تأذن له بالخروج الآمن - في طست وألقت برماده في النهر، تناوب الريفيون شغل منصب العمودية، وكان يحدث أن تشغل تسنيم نفسها المنصب كأولى سيدات التي تجترئ على الاضطلاع بالأمر، ولكن المقادير لم تمضِ على الحال المأمول إذ ارتفع منسوب النيل في موسم فيضانه، ذهبت بيوت الطين نهباً للظاهرة الطبيعية فلا عاد يبقى منها إلا القصب والحصير وجلاميد الطين المنهار، ثم حدث بعد فورة المياه أن وقع الجدب وغاض المعين، وجعل الريفيون يقرنون ظلماً بين إقصاء رضوان وبين ما نزل بهم من بلاء،.. صارت تسنيم في أرق اضطرت معه أن تستخدم زيت عشبة الخُزَامَى (اللافندر) تقتنيها من أهل البدو كيما تخفف ما ينتابها من هواجس الفقد التي كانت تساورها دائماً، هذه المرة من جهة رضوان الذي استغل بدوره خسارة الفلاحين لتحريضهم، وفي خضم ذلك كله كان بكر يسلي ملاله بالاختلاط بالريفين يحثهم على الصبر على هذا البلاء الطبيعي الذي نزل بهم تارة :

- إنها أيام عجاف شداد يعقبها الخير كله ! وستجدون النور الواني غبّ الفجر الحالك.

ثم تارة يأخذ يستخفه اللهو في محيط النخلة العجفاء الباقية في خضم محنة الجفاف، يرسل سعفها حفيفاً متقطعاً وانياً يثير النعاس والأحلام، ثمة طائر السنونو الذي يحب فيه (بكر) أنه يؤثر الجوع على التهام الفرائص التي لا تروق له، إذ هو انتقائي فيما يتغذى عليه، ولكنه (السنونو) لم يبدُ يومئذٍ على حال من الرضا وقد جفت أكثر الأعشاب الرطبة التي تعد موئلاً غذائياً له، تمرح العنزات في محيطه فتجتر بالتذاذ هادئ ما التقطته من أعشاب قليلة في الصباح، فيجعل يشخص إلى حركتها المتهادية وإلى الشعاع الفضي الغارب حتى تغفو عيناه، ويقظ في ليل أسخم على صوت أخته بدور تناديه :

- إنهم أهل المدينة قد حضروا مجدداً يسألون عنك !

أتته في أيامه الفائتة طيوف جمة فيها فردوس مصحوبة بالامتنان، لقد كانت خير من عرف  من أهل الإسكندرية،.. ونهض - متأثراً بذاك - في لهفة حقة بعد أن أعاد بدوره استواء القبعة الريفية على رأسه، فألفى نور وعز قبالته، وعاجلته الفتاة تقول :

- إلهي! كدت أفقد الأمل في لقياك، ومستقبلي اليوم معلق في عنقك !

وفهم منها أنها تريده مشاركاً لها فيما أوكله إليها مظهر من أمر الفيلم، وروت له القصة كما كتبتها، وعرضت عليه السيناريو، فألقى نظرة على السباخ من الأرض التي أمامه يقول :

- لا مانع لدي،.. ولكن القصة يجب أن تتغير !

وسألته متعجبة : "ماذا تقصد؟" وكانت تظن أن الممانعة ستجيء من تسنيم لا منه، فأجاب :

- الرقص لا يناسب الجنائز ولو أنه في غيرها من المناسبات محمود، هذا الفيلم ليس إلا رقصة بهيجة في جنازة، فلتنظرا إلى الأرض البوار، يجب أن ننقل محنة الريف الحقيقية إلى المُشاهِد الذي يجهل بها.

وأبدت اعتراضاً وهي تتذكر نصائح مظهر لها : "ولتنبذي الحزين القاتم منها كذلك، إن خيراً للفيلم أن ينتهي بقبلة - كتقبيل الفراشة للورد -  من أن ينتهي بفاجعة، من زاوية الإيراد.."، تقول بعد أن تنفجر سحابة الذكرى :

- أوصاني المخرج بأمور لا زيغ عنها..

 فقال بكر وهو يبعد خلة الأسنان الخشبية عن فيه كي يتسنى له  الحديث :

- الحق، الحق أقول لكم إن هذا هو الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أقنع به أمي تسنيم كيما تقبل بما جئتم من أجله، ولكي أصدقكم القول أكثر فإنها (أي أمه) لتبدو تنيناً هائلاً موحشاً يفغر شدقيه مستعداً للالتهام حين تجيء سيرة الإسكندرية أو أهليها.

وهبطت نور على ركبتيها تقول :

- ضاع مستقبلي سُدى..

وقال عز :

- فلتحفظ لنا معروفاً أسديناه إليك حين جئتنا في بلادنا فاستقبلناك.

وقال بكر لا ينسى ما قد تعرض له من ضيم أول نزوله بالإسكندرية حمله على العمل في كازينو الشاطبي :

- استقبلتني الفتاة (نور) وأردت أنت أن تطردني..

وقال عز متأهباً بعد تراخي :

- لولالي ما عرفت قط بالإسكندرية..

- كأنك تحدثني عن الجنة المنزهة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، كانت زيارتي حلماً رائعاً كاد ينتهي بكابوس مرعب، سقتني لمن أسروني في ديارهم وساوموا أمي بي..

- أردت أن تعرف الحقيقة، كانت هذه ضريبة الحقيقة، الصداقة ولدت بيننا في عرس أطفيح..

- بل انتهى ما تبقى من الفضل بيننا منذ أعدت إليك خاتمك الفضي..

ومع ما بدا من الجفاء الأول تقاربت وجهات النظر شيئاً فشيئاً، كان بكر لا يزال يحب الإسكندرية، يرى لغة بواطنه في تموجات بحرها وزبده، إنه - إلى ذاك - لا يزال يتذكر كيف ودعته فردوس بعد أن فكت خيوط المؤامرة التي حيكت له بيد نقية نزيهة، وإنه لفي ضعف إزاء الأمرين، وقالت نور تقطع جدلهما :

- سأقبل بما طلبت به من تعديلات في نص الفيلم شريطة أن تقنع تسنيم بالأمر !

وكان الأخير أمراً عسيراً دونه خرط القتاد، قصد ثلاثتهم إلى البيت الريفي الكبير فنصح لهم بكر بالاختباء خلف الصخرة العظيمة في حوشه كيما يمهد لحضورهم لدى أمه تسنيم بحديث رطب لين، وإن هي إلا هينهة حتى سمع المختبئان من يصيح في ثورة انفجار :

- فلتطردهم، فلتطرد أهل المدينة عن هنا..

وكان بكر يقول في صوت وانٍ كأنه المتهم المستجدي أمام قاضي ينطق بحكم جائر لا راد له :"ولكن يا أماه.. العدالة.."، فاتبعت المرأة في جبروت وألم ناجم عن تجربة تقول :

- وغاية العدل إزاءهم في معجمي ألا أجور عليهم..

- إنهما ها هناك خلف الصخرة..

- إذاً فسأدمر الصخرة ومن وراءها..

وخلع القبعة الريفية يقول :

- أين الكياسة في قلبك المترع بالعطف؟

- إنهم طامعون، ومثلهم يجب أن تضرب على أيديهم وإلا حببت إليهم التمادي فيما هم فيه ! (ثم في بعض هدوء كأنما تذهب رأساً إلى ما يحملها حقاً على الرفض..) إني لأخشى عليك أن يخطفوك مني بلا عودة هذه الكرة !

وقال بعينين دعجاوين رائعتين :

- لن أرى في هذه الحياة إلا المقدور، وإذا أنا عشت في المدينة سأعيش بقلب ريفي بسيط..

وقالت :

- هذا لن يعوضني فقدانك،.. إنهم يطمعون فيك، قلت لي يوماً بأنهما لا ينجبان، سيتخذانك ولداً.

وهناك أحست نور لوناً من الإهانة جراء وقفتها المستخزية وما سمعته فخرجت من مخبئها إلى حيث نطاق المتجادلين تقول :

- ما بالكِ تتحدثين في كبر وعتو؟ سننقل في الفيلم معاناتكم ها هنا، سنحذوها حذو القذة بالقذة ولن نجمل إنشاً مما لا يحتمل التجميل، سيرى الخلائق حقيقة الحياة المجحفة ترزحون تحتها، فصول ما جرى وما يجري بَعْدَ اللَّتَيَّا والَّتي: الفيضان المدمر فالجفاف المميت، ناموس الطبيعة التي لا تعرف الاعتدال،.. ربما يجيء من المسؤولين إثر ذاك من يلتفت إليكم فيهبكم قبلة حياة، إذا أنتِ منعت هذا عن الوجود تكونين قد حجبت عن أهليك فرصة لا تكرار لها، سيخسر الجميع هنا إذا أنتِ قد ركبك العناد.

رأت تسنيم في عينيها نظرة صادقة لا تطلع فيها، وأُخذت بما سمعت من مثل هذا فكأنما غلظ حاجبيها أكثر من فرط ما انتابها آنذاك من انتباه، ولاذت بصمت أعادها إلى تفكير جديد فيما كانت قد قطعت عليه العزم والرأي. 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق