استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/04

رحلة في فلورنسا

                             الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا







عاد عز إلى ركوب الدراجات في منطقة المعمورة حين برأت قدمه المكسورة، تقبع المنطقة على قمة مصايف المدينة، غير أن الشابين طوال إقامتهما هناك -  ولطبيعة ما جره عليهما الزواج السري من احترازات - لم يكن لهما أن يستمتعا بطبيعة المكان حق الاستتماع به، وكأنما صار وجودهما هناك فقاعة يتخفيان بها من مشهد أكبر محفوف بالترقب والقلق، وكشأن معظم الأشياء بعد يوليو 1952م استحالت المنطقة - ومنذ منتصف الخمسينيات - من مقر نخبوي للأمراء والملوك إلى مصيف متاح للمواطنين السكندريين، هبط الموقع تدريجياً وإن انتفعت به الأغلبية، كأنما تجلى فيه صراع الكم والكيف، الصراع بين المساواة الإنسانية التي بشرت بها الحركات الاشتراكية الاجتماعية بالقرن العشرين، وبين الارتقاء الحضاري الذي يراهن عليه أصحاب الفكر المعارض ويتضرر بالتردي حين تمسي الأشياء القيمة شعبوية،.. يعود عز بين آن وآن إلى أمه صابرين التي أمست وحيدة الإقامة في الجناح الفندقي، تسأله :

- أين كنت؟

وقال مختلقاً عذراً في غير عناء :

- بعض الأشغال الأَمنية تطلبت مني المبيت لأيام !

وقالت :

- لا أصدق بهذا، شاب شعري أو كاد ولكنني لم أفقد عقلي، لقد غبت عني أسابيع لا أياماً..

وهبط كالذي يروم أن يقبل يدها يخفي اضطرابه لكنه انتهى إلى حال صار معه خده مودعاً في كفها، وقال وهو يرمق ما لاح في شعرها من بياض :

- الأسابيع كالأيام حزينة دون عطفك.. (ثم وهو يعطيها شيئاً..) هاك الحناء !

وتفقدتها صابرين في غير حفاوة، تقول وهي تتفقد شعره الناعم :

- حنة سوداء ولها رائحة العشب، إنها تناسب امرأة غيري ! لماذا لا تحدثني بالصدق الذي تعرفه؟ أنت تعرف أنني أؤثر الحنة الحمراء، هاته التي ترطب شعراً كشعري الخشن، أشبه إلى عشب متيبس، لقد نسيت الحناء التي تناسبني من كثرة ما حفلت به حياتك من نساء، لقد حدست بهذا مبرراً لطول غيابك، ولا ألومك إذ أنا أمك وهن رفيقاتك !

وقال كأنما يلقي على حديثها وشاحاً من الفتور :

- ليس في حياتي معشوق ما خلا العمل.

وأزادت الأم ضغطها حتى خر الابن معترفاً بما كان من أمر الزواج، وأزاد يقول :

- خشيت من غضبتك.. وقع الزواج دون اتفاق أهل العروس.. سننجب الأطفال حين تحسم بعض المسائل المعلقة...

وقالت :

- كان يجب أن تظهرني على الحقيقة فأسعد بها،.. أشد العواقب فداحة لا يساوي مسماراً في نعل الحياة الصادقة الصريحة،.. وماذا بعد؟!

وقال :

- جسارتي لا تطاوعني أمام يوسف منصور، حدثته مرة ولم يسفر الأمر عن جديد، عام حزين أعيشه رغم الزواج، إنها سنة كبيسة رغم أنها لا تقبل القسمة على الأربعة.

وقالت صابرين وقد بدا أنها احتفظت بطبيعة وقورة لامرأة في عقدها الخامس :

- فلتحصل على ضمانة من عائلة أبي جريشة بالتزام القانون،.. ولتذهب إلى أقصر الطرق.

وقال :

- يقولون بأنهم ملزمون بهذا دائماً وما عاد أحد يصدقهم منذ تورطوا في المحذور، كيف ينتظرون منهم وعداً وهم يكذبونهم؟

وقالت في حين تغيب أصابعها في شعره :

- فلتجرب محاولة جديدة علها تفضي إلى عاقبة كالسحر.

وتثاءب مرهقاً، قال :

- من الثابت يقيناً أنني إذا كررت عين التجربة فسأحظى بنفس النتيجة، لابد من مدخل عملي جديد إلى المعادلة المتحجرة..

ووقف يرقب البحر المتوسط في مده يكاد يضيق ذرعاً بحدوده القديمة، القمر قريب وتأثيره يتعدى جرمه الصغير، وأمه تسأله :

- أنى لكَ بهذا الشعر الناعم؟!

- كان لأبي شعر ناعم، صفة سائدة أنقذتني.

- سأدعو لك في صلاتي رغم أنك تستهين بشيبتي وشعري..

تشجع عز بدعاء أمه له وأدى صلاة الصبح في المسجد الكبير بالمعمورة، ثم قصد إلى شغله وقد انتوى قرار المواجهة، ما لبث أن وقف قبالة اللواء يوسف منصور يسأله السؤال نفسه، وقال اللواء :

- إنني أكرههم ولكنني لن أحيف عليك أو عليهم..

- تقصد أنك عفوت عنهم؟

- القانون وحده من يعفي ويدين.

- أحسبكم مطبقي القانون.

- ممثل القانون أول من يلتزم به ولو على عنقه، لا تحسبني حراً طليق اليد لأجل هذه (يشير إلى موضع السيفين وشعار الجمهورية عند كتفه الأيمن..) فلتصغ لي : إنني أشفق عليك وسأمنحهم - لأجلك - قبلة حياة، سأسعى لأن يفك عنهم هذا الحظر المفروض، شريطة أمر واحد!

- وماذا يكون؟

- أن يتبرأوا من أبي جريشة وسيرته، فيتنصلون منه تنصل المرء مما يشينه ويحط منه.

 

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

-...

في القسم سُمع صوت من النحيب عظيم، ترك اللواء ضابطه كيما يفتح باب الحجرة، علا الهتاف أقرب وأشد :"يا وليتاه.. واحزناه.. لقد مات الرئيس جمال عبد الناصر.." !

 

فلورنسا.. إيطاليا..

عارض نعيم مسألة التستر على الخادم ذهب في فيلته بعد أن قتل الرجل سيده، طرده الشاب حين عاد يلح عليه بالبقاء فيما كان قلب مريم ينبض بعاطفة أكثر رأفة بالرجل، استكمل الزوجان ترددهما على المدن الإيطالية حين هدأت أخبار الهزيمة - وبرزت حالة اللاسلم واللاحرب كعنوان بديل لها - فقصدا إلى فلورنسا، ولم يزايل خيال مريم صورة ذهب،  تقول لزوجها :

- لقد طردته شر طردة..

- لن أتحفظ على قاتل في بيتي..

- ساعدنا الرجل كي نتزوج..

- أيكفي هذا سبباً لنخفي قاتلاً؟

كان مرشد الرحلة العربي يقول (يريد فلورنسا) :

- هنا مهد عصر النهضة، الحركة الثقافية التي امتدت من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر، جزء كبير من هذه النهضة يرجع إلى عائلة ميديشي الفرنسية ذات النفوذ، ويبرز هنا كيف يزدهر الفن في ظل الوفرة والمال، ويتجلى اقتران التحضر بالرخاء والكفاية..

كان عارف يصرخ من البكاء ما جعل المرشد والزوار يتلفتون إليه، فجعلت مريم تطعمه شيئاً من البسكويت الخفيف مجللة بشعور من الخجل، وتحركت به إلى ظل يحجب عنه الشمس فغفل ونام، ومسحت لعابه بمنديل وردي، استطرد المرشد يقول :

- ثمة سبب آخر يُعزى إليه حدوث هذه النهضة الفنية والثقافية، وهو هجرة الباحثين في الدراسات اليونانية ومعهم النصوص اليونانية إلى إيطاليا بعد فتح القسطنطينية على يد الأتراك العثمانيين..

وقدحت العبارة الأخيرة  قريحة نعيم الذي رفع يده يطلب الكلام فأذن له المرشد، وقال متأثراً بقراءاته الأخيرة :

- معذرة.. لماذا نسمي الغزو فتحاً؟ يخيل إليّ أن كل مشكلة وقعت في بلادنا، أو أزمة حاقت بها لها أصل عثماني، شر الاحتلال من يعادي الحضارة ويفرض التخلف.

وعارضه عربي آخر من أولاء الوقوف المستمعين يقول :

- وما رأيك في أداء المصريين في الحرب الأخيرة؟ هل تدخل العثمانيون في هذا الشأن أيضاً فأضاعوا سيناء؟

ربط نعيم جأشه هذه المرة، تذكر واقعة يوم جنوة حين استفزه الإيطالي بحديث مماثل، هذه المرة تأتيه الضربة من العربي، وأحس نفسه مدحجاً بالمعرفة، قال :

- اُحتلت مصر كاملة - ولا أقول سيناء - مرتين إبان الوجود العثماني فيها، تارة لدى غزو نابليون وطوراً عند مجيء الإنجليز.

وأحس المرشد أن الخلاف بين الاثنين سينحرف بالحديث عن مساره فطفق يقول :

- تُعلمنا القراءة المتأنية للتاريخ ألا ننزع إلى إطلاق الأحكام جزافاً، وأن ننظر لها بأكثر من عين، حقيقة عصر النهضة نفسها مشكوك فيها لدى مؤرخي التطور الاجتماعي والاقتصادي، وموثقي الأوضاع السياسية والدينية، وكذا لدى غير المهتمين بالنواحي الجمالية للحضارة جملة،.. ولكما أن ترا كيف تختلف الرؤى حول أكثر الحوادث تأثيراً في التاريخ البشري، فما بالكما بصراعات إقليمية محدودة على مثال ما تتحدثان عنه وتختلفان فيه؟!

في هاته الأثناء كان ذهب يرمي مبنى فيلا لوران بالحجارة، الأمن يطارده ولم يفقد الرجل أمله في الاختباء هناك، بعض الحجارة المقذوفة تستقر على واجهة المبنى الأبيض، بعضها الآخر يصيب العشب أو التمثال الرخامي، الوقت يداهمه، وحدس - لما لم يجد استجابة أو رد - بأن الفيلا خالية من أصحابها، وتسلق السور في لحظة جسارة وضرورة دأبه دأب من عبروا البحر المشقوق - في الرواية الإبراهيمية - بعصا موسى ينشدون الخلاص من الموت، واجتازه بتفوق لطبيعة جسده النحيل، ومضى بعد هبوط يطأ عشب الأرض بمحاذاة هذا السور حتى انتهى إلى المبنى الأبيض الكبير.

 

دلف ذهب إلى حجرة نعيم فتنكر في ملابسه ونام على سريره، إنها أول مرة ينام فيها الخادم على سرير منعم، لونه اللؤلؤ ممزوجاً بالفضة، والوسائد قطيفية مجروشة، كان يحس في داخله انتماءً إلى العالم المنعم ولو أبدى الانصياع الظاهري دائماً، المادة هي المادة والقيمة الحقة في الإنسان نفسه، سمع هذا من أبيه في صغره حين كان يعلمه اقتباس المعاني من النهر الجاري في بلاده النوبية السمراء، لا يعبأ (النهر) ولا يكترث، وأما الحجر على جانبيه فصلب قاسٍ وفي صلابته بقاء،.. ولكنه اليوم عاد يقول بأن المادة والإنسان مهمتان، وإلا كيف يفضل إنسان عن آخر؟ لماذا يعمل لدى سادة ولا يعملون لديه؟ ولماذا لا يشاركهم الملكية في الممتلكات التي دأب على حراستها؟ لماذا يعاملونه معاملة التهميش؟ واستحم في المغطس الخشبي (البانيو) فاحتوى ماؤه الدافئ جسده كاملاً، وبدا حين انتهى أكثر لمعاناً كأنه ملكة النحل التي تبدو أكثر بريقاً من الوصيفات والشغالات (العاملات) اللاتي يعملن لصالحها في خلية، لقد قضى أياماً في هرب ونام ليلة كألف ليلة، وإن رطلاً من الحديد لا يساوي رطلاً من الذهب، عاد يفكر : ماذا لو دق الأمن بابه؟ ماذا لو عاد نعيم؟ الأخير شاب له لسان لطيف، ومنظر جميل، وليس وراءه خير، وسحاب نوء ماؤه حميم، لقد طرده حين احتاج إليه وآثر السلامة، وهل عرف نعيم بطول عمره القصير شيئاً غير السلامة المنزهة من الأذى والكفاية المترفعة عن مواضع المن؟ ولكن نعيماً خير من سيده المهووس، لقد قتله على أي حال، هكذا يظن، وعاد صاعداً إلى الطابق العلوي - بعد جاز سلماً من الرخام - فأخذ يبكيه، يهمس وهو يقبض على الوسادة القطيفية :" كان سيئاً، بل بشعاً، ولكنه لا يستحق القتل.."، وحين يقظ عجب من خلو المكان من ساكنيه، ثم عجب من بقائه حراً على قيد الحياة، أخذ في سقاية العشب الوحف، ثم وقف إزاءه وقفة السيد الآمر يقول في نبرة يفيض منها الصلف : "لن أسقيك، ولتسقه أيها الخادم.."، ولكن أحداً لم يجبه، دق الباب فانتفض وفزع، وفتحه بعد أن بسمل، وألفى الأمن يسأله :

- ما اسمك؟

وقال في ارتباك لا يناسب السؤال :

- اسمي نعيم..

- هل تعرف خادماً اسمه ذهب؟

وقال كأنه المعدة تلفظ طعاماً فاسداً، وكان في الحق يقصد نفسه، مقتبساً شخصية نعيم :

- لقد طردته.. لقد طردته حين جاءني ! 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

   

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق