استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/18

لابد للحياة من مخاطرين

                                                          الفصل الأربعون: 

لابد للحياة من مخاطرين


في باريس..

حدس يوسف بخطورة ما انتهت إليه حالة نجله حسين في خضم عزلته بالضاحية الشمالية في باريس، وكان قد نقل زهير إلى الأب وقائع زيارته الأخيرة، وما حفلت به من أسباب التناقض، وأطوار الاختلاف التي وصلت إلى حد التشابك بالأيدي، ثم حالات الوفاق التي بلغت حدود احتضان الأخ لأخيه، وقال زهير في ذلك :"تصرفت كخير ابني آدم"،.. وأسكنت نزغة الشيطان فيه.."، وقصد يوسف إليه (حسين) رفقة عفاف هذه المرة، واستوقفه حسين لدى الباب فنظر إليه ملياً، وهناك قال الأب كأنما أحس ما يعتريه من مناجاة الذات :

- "هذه المرة زيارة بلا كفافيس !".

- ....

وأدخله الابن على مضض فعبر بوالديه ستارة من الخرز، وكان حال غرفة الاستقبال لم يتغير طوال الفترة المنصرمة إلا ما وضح فيها من تراكم الفوضى، فلما استروح يوسف إلى جلسته قال :

- "لقد جمعنا، أنا وأمك، عزمنا على الأمر، أنا وأنت نعود إلى الإسكندرية، في حين يبقى زهير وعفاف في باريس !".

وتلوى حسين بالامتعاض كأنما استمع إلى قسمة ضيزى، وتساءل في حين يصل إليه نور الصبح مجتازاً ستارة الخرز فتبرز صورته متأثرة بنقاط من الظلال كالنمش الذي يظهر على الوجوه :

- "لشد ما هي قسمة عوجاء جائرة ! تقذفون بي إلى المجتمع النامي  وتبقون على أخي في دولة التقدم والحضر؟ سأبقى في الضاحية الشمالية، لقد انفصلتُ عن الأسرة التي أورثتني الخسران.".

وقال يوسف :

- "ستعالج الإسكندرية ما يعتريك من الألم النفساني، وما ينزل بك من غُصَص الإجحاف، إنها واحدة فذة بين المدن والسواحل ليس لها مثال،.. فكرْ بالأمر، إنني، مثلك، مريض سقيم، لا أقول مرضاً عضالاً عصياً، كلا.. إن أمره لهين، إن كلانا بحاجة إلى أن يغير بيئة المجتمع التي أورثته السقم..".

وقال حسين في فتور أصاب يوسف بشيء من اليأس :

- "لقد زرتها (أي الإسكندرية) مرة أو اثنتين فلم أجد فيها إلا جهالة العالم الثالث، على ساحل البحر المتوسط.. علاوة على أمر غفلته : إنك مريض بالاضطراب الوهامي، وإن هذا لمرض مرصود الأعراض غير معروف الترياق،.. وأما أنا فعلتي هي الخيانة التي تجرعت كأسها من أخي، ثم تقدير من لا يستحق على نحو أورثني الشعور بالإهانة التي حملتني على العزلة..".

وتفحص يوسف فوضى المكان، وتحسس أنفه رائحة الماريجوانا تفوح وترتفع، وحدس لما ارتأى كرسياً وحيداً أمام رخامة المطبخ التي يتوزع عليها الغذاء والشراب من الخمور والعصائر بأن نجله وحيد، فسأله في بلاغة تتوخى الإقناع :

- "أين أصدقاؤك في هذا المكان؟ ولو أنك انتهيت، لا قدر الله، أو اعتليت تطلب النجدة أو الإغاثة، لما اهتم لأمرك إنسان أو علم بحالتك إلا قبل أسبوعين أو أكثر، ستكون أشبه إلى حيوان ينتهي في كهف ولا أريد لك هذا المصير..".

وقال حسين كأنما هو يفخر بما لا يستحق الفخار حقاً :

-"الخمر صديقي هنا، والوحدة رفيقي..".

وتدخلت عفاف - حين فرغت جعبة زوجها - تقول :

- "بربك هل سبق ونصحت لكَ بما ليس فيه صالحك؟ ستجد في الإسكندرية ضالتك..".

 كان لدى حسين استعداد مسبق لتقبل الحديث عينه من أمه فوق أبيه، ونهض يوسف - لما أحس منه هذا الصدوف - عن اجتماع الاثنين إلى حيث الخمور المتوزعة فوق الرخام، وكانت جلسة حسين - يولي ظهره لناصية المطبخ - تجعله غير واعٍ بحركة أبيه الذي انبرى - مستغلاً وجوده في النطاق المعمي - بدوره يجمع زجاجات الخمر في خفة ويودعها معطفه ذا الجيوب الكثر المخبوءة، وكان يحدث أن ينادي هاتفاً لغرض الإشغال، فيفتعل صوت من يشرب بتحريكه المصطنع لفمه، يقول :"نبيذ الأرز (الساكي الياباني).. إلهي ! كم هو رديء ! إنه رديء حقاً، شربته مرة وبثقته، ولم أكن لأجد حرجاً في أن أقول بأنه جيد.."، ثم تسلل إلى المرحاض يرمي بما قد جمعه، فلما اطمأن إلى فروغ آخر الزجاجات من آخر القطرات، تنهد عائداً إلى نجله - ومعه الزجاجات الفارغة - يقول مبتسماً فيما يشبه البلاهة :

-"معذرة، لقد تخلصت من صديقك، تخلصت من صديقك برميه في المرحاض !".

وأثمر الضغط المتواصل من الأبوين في التأثير على قرار الشاب الضجر، عاد يوسف إلى مدينته رفقة نجله في سعادة مضاعفة، وودع حمود الذي كان من التأثر لفراقه بمثل ما كان من الحفاوة بحضوره (أسهب حمود في وداعيته - حين تطرق الأمر إلى موضوعات السياسة - في التنديد بزيارة السادات للقدس وقدح في سياسة السلام على نحو أخل بالتوازن بين المسائل الشخصية وبين الأمور العامة)، وقضيا - يوسف وحسين - أولى الأيام في سكنى قريبة من البحر بجليم، وتحسنت صحة حسين في نطاق نأى به عن عاداته غير الصحية، لولا أن ارتفعت حراراته ذات يوم، وأصابته الحمى التي ترافقت مع ألم البطن والصدر، فلما جيء بالطبيب شخص حالته يقول في فتور يجافي تلهف يوسف إلى المعرفة :

- إنها حمى البحر الأبيض المتوسط، تصيب واحداً من بين مليون من البشر !

وحاول يوسف أن يجد في حديث الطبيب ما يستحق الحمد والشكران فيتحدث به، وألبس نجله المصاب عقد العاج الذي كان له، وهناك ابتسم حسين يقول :

- "إنني محظوظ حقاً، محظوظ من الجهة المناوئة..".

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

منذ أصيب حسين بالحمى بات يرهب البحر، قرأ يوسف عن حالته فشخصها بالـ "ثالاسوفوبيا" (رهاب البحر)، واضطر إلى تغيير مسكنه الملاصق للمساحات المائية الشاسعة بجليم، فأقام مدة في حي كرموز - مقام الصبى والشباب - ريثما يدبر الأمر في سكنى أفضل، وهناك أصقل حسين عربيته في خضم التعامل مع الشعبيين من سكان الحي القديم، وألفى في العامية المصرية سهولة فوق الفصحى ويسر، ووهبه وجوده بين القوم قدرة على تعلم لسان الضاد دون معلم على ما أورثه من وحشة محيرة غريبة، كان الابن يقعد في سكناه الجديد لدى تجويف هاته النافذة العالية يستشرف معاش الكادحين هناك، وطفق حسين يفكر في أن يرمي لهم بعقد العاج الذي حول عنقه فينهي مشكلاتهم في العمل لأسبوع أو أكثر، وقال له يوسف :

- مالي أراك كحمامة تبكي على فرع غصنها المياد؟! (ثم وهو يشاركه عين الموقع المستشرف) كل شيء في حياتي بدأ من هنا (ثم وهو يرمق الكادحين..) إنهم ليسوا بسطاء، كلا.. إنني أمقت السطحية المجردة من التفاصيل، وأجدني شغوفاً بمراقبتهم، ولا يستقيم الأمران إلا لو أن بهم تعقيداً عميقاً محبباً ولا ريب، فإذا اشتدت ظروف البقاء وشحة المورد على جماعة - كالحال مع أولاء - فلابد من ثقافة جلد واحتمال، وإذا مرت بالثقافة مدد وأزمان فإنها تتشعب وتتعقد، يذهب منها الزبد، ويبقى ما ينفع..

والتفت حسين عن هذا الظاهر من مستن الطريق إلى أبيه، واطفأ سيجاره إذ بات يكن بعض الاحترام للأب من اطلاعه على ظروف نشأته، يقول :

- يجب أن أعود إلى باريس،.. فكر بالأمر ملياً : إنها مدينة البحر الذي بت أخشاه !

بَدت عبارته بسيطة - كتفعيلة بحر الرجز أو البسيط - فاحتفظ بها يوسف مدة ثم جعل يقول :

- فلتذهب إلى البحر، ولتقف أمامه متحدياً، قل له : إنني لا أخشاك بعبابك، وبطول أمواجك ولو كانت كالجبال.

وقال حسين :

- سأذهب إلى هناك إذا أردت أن يعود ينتابني الروع والوجل، ذرني فيما أنا فيه.

وقال يوسف :

- فلتطع الرياح الهوجاء، ولتذهب، فإذا خفت مرة عدت آمناً إلى الأبد، لا شيء في البحر يخيف..

وأورث حسين حديث أبيه لوناً من التحدي الجارف، وحين هبط الليل ترك البيت ومضى يذرع سبيله إلى البحر على أكف النشاط، كان يحتمي من البحر بالظلام، ووقف إزاءه يغمغم بالفرنسية قبالة هذا المسطح الهائل الخفي اللهم إلا من انعكاسات الأضواء تظهر بعض انكماشات الموج وصخور ناتئة وزبد (رغاوي) بحر، يقول :"ها أنا ذا.. أيهذا الشاسع العظيم، غير المبالي ! فلتصنع بي ما شئت.."، وهدأ بعض هدوء، فألفى من حوله من رواد الكورنيش يتضاحكون منه ثم يقلدونه في فرنسيته بما لا معنى له ويهذرون، فبهت ثم التفت إلى البحر - الذي ظل كالعهد به - سادراً، ولا يبالي، ومضى.

أعاد يوسف افتتاح مقهى الفنانين الذي جهزه بعُدة مماثلة لما فُقدت في حرص دؤوب، كان حسين من بين الحضور في أوائل الصفوف، وجعل يوسف يقول :

- وقد يقول قائل بأن إحياء الفن في مجتمع اشتد فيه بأس التطرف لهو مخاطرة، ولكنني أقول بأنه لابد للحياة من مخاطرين، يوازنون الجنون في هذا العالم..

ثم عرج في حديثه إلى أخته الفقيدة صابرين وجعل يذكر مناقبها بعد أن ألزم طاقمه حمل الشموع والمضي بين الحضور كأنهم يؤدون ترنيمة وداع، وأشار إلى حسين أن أنهض فحدث الجمهور فلما أبدى ارتباكاً سأله :
- ماذا أحببت في الإسكندرية؟

فلما لم يجد جواباً حاضراً، عاد يسأله :

- ماذا افتقدت من باريس؟

وقال الشاب المرتبك :

- الماريجوانا.. (ثم في ارتباك أكثر حين سماعه لضحكات الحضور كأنما لم يقف على ما يتسبب في الجلبة..) أعني رؤوس نبات القنب الهندي المزهرة حيث يجري قطفها ثم تجفيفها..

وهناك علا مزيد من الضحك كأنه الهدير.. 

 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

  

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق