استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/02

زناد الحب

                           الفصل الثامن: زناد الحب




حاز فؤاد مجموعاً ضعيفاً في الثانوية فمضت في بيته رياحاً بما لا تشتهي سفن، حملت هدى على الشاب حملة شديدة ونسبت إخفاقه الدراسي إلى انشغاله عن التحصيل باللعب في المناطق الشعبية، وكان يقول لها :

- لقد خلصت الحي من جاسر وشره، ساهمت في هذا من حيث حرضت عليه رجاله، قمت بما عجز عنه غيري، كنتم جميعاً خاضعين تحت وطأته.

وكانت تقول له :

- تنسب إلى نفسك فضلاً ليس لك، الفضل في هذا يعود لأبيك، ولولاه ما تجسر من الحمال واحد، كان الأولى أن تخلص نفسك، فتضمن مستقبلاً مرموقاً.

انزوى الشاب في حزن وكدر، من عجب كيف كان يواسيه الأب (عبد الغني) وتشتد عليه الأم، وكان يتساءل : أليس في الأنثى رحمة؟ ما لبث أن انشغل عبد الغني عنه إلى التفكير في مراد، ثم تلهى بتجارته.. ولكن فؤاداً لم يعزف - رغما ما قد جره الأمر عليه من ضرر - عن التردد على المناطق الشعبية يستكشفها فيجد فيها جد التمتع والإيناس، كأنها العوالم الخفية الثرية،.. ويوماً قصد إلى عبد الشحات الذي استقبله في معطف معفر وقد خلا محيطه من الحمّال يقول :

- فلتغرب عن وجهي أيها الصغير التعس ! انفض الخلق عني حين شاعت قصة جاسر ومقتله، وقد تسببت في محنتي هذه، كان خير لي أن يقتلني الملعون (يريد جاسراً) من أن أبقى منبوذاً بلا عمل،.. لقد عرف الناس الحقيقة.

واقترب منه فؤاد في فضول يقول :

- فلتنظر إلى الجانب المشرق : صرت ملكاً متفرداً !

وقال جاسر في خيبة أعقبت انفعاله :

- ملك بلا تاج ولا أعوان لا يكون ملكاً، (ثم وهو يمضي خطوتين بعيداً من فؤاد..) صار الجبل وما حوله أرضاً خاوية موحشة.

وقال فؤاد في لحظة يأس :

- سأكون ساعدك الأيمن وأول أعوانك.

وتفحصه الآخر ملياً، فبدا أقل من المطلوب من كل الوجوه، يقول :

- حقاً؟ وهل تكفي؟

وقال فؤاد :

- سنحشدهم،.. ما دام في بلادنا جوعى فلا ريب أنهم سيأتون. 

وانبرى فؤاد يجيء لعبد الشحات بالحمّال الجدد، كانت سمعة الفتى لم تتلوث، وصدّقه الناس تصديقاً تولد من ثقتهم في نسبه، حسبه أنه ابن عبد الغني التاجر الخلوق، وربيب أسرة طيبة السيرة، جمعت المجد مع التواضع، وعلى هذا النحو تضافرت النقائص مع الإمكانات في نسيج متكامل بين الرجلين، فكان سعي فؤاد يكمل جهد عبد الشحات الذي أمسى بدوره أميل إلى الحنكة والكياسة في تسيير العمل، وتسييس التجارة، وعليه فقد دبت الحركة التجارية في جبل نعسة بعد خفوت،.. ومكث فؤاد يتربح في سعادة منزهة كفته الحزن على ما قد فاته من أمر التعليم، حتى وقع يوم تكشفت له فيه الحقيقة الغائبة، كان الحمّال يشتكون عسر الجهد المبذول في نقل البضائع، تهبط الأشعة الحامية عمودية على الرؤوس، وتخور القوى فتتشوف النفوس إلى راحة، ولكن عبد الشحات - بعد مشورة مع فؤاد لم يعمل بها - ارتأى الاستمرار، وبينما تمضي حركتهم (الحمّال) إذ انهار نفر منهم بسبب من الإنهاك، وتبعثر تكوينه فتكشفت للخلق حقيقة ما يحمله، وهمس فؤاد وهو يقترب من الرجل المنطرح أكثر :

- إنها مكيفات، ننقل ونبيع مكيفات.. (ثم وهو يلتفت إلى عبد الشحات) لقد خدعتني! قلت إنها غير ذلك.

ووضع عبد الشحات يده في جيب الفتى يقول في حياد بعد أن أخرج اليدين محملتين بالنقود :

- كان لا بد من الخداع، وإلا كيف امتلأت جيوبك بالنعمة !

وقال الآخر في عاطفة نبيلة :

- مال قارون لا يغنيني عن تحمل وزر الحرام.

وصاح عبد الشحات فيه فانتفخ صدره حتى كاد يقُطع زرار معطفه :

- تحدث بالمثاليات في عالم مثالي.

- سأتحدث بالمثاليات دائماً.

- لو كنت مثالياً لما خدعت الحمال، وحببت إليهم المجيء إلى الجبل.

وقال فؤاد :

- الحمال برآء، نبذت الحرام كما نبذوه، شتان ما بيننا وبينك ! أهملتني في كل قرار كي تهبط إلى الدنيات دون رادع.

وتولى عنه يقول :

- فواعجباً.. ما أشبهك إلى من يروم التعبد في حانة !

وافترق فؤاد عن عبد الشحات معلناً العصيان، وسار الشاب بعض مسير حتى جاءه من عصب عينيه وقيده، أوعز عبد الشحات إلى أحد رجاله الثقات يإعادة المتمرد إلى حظيرته.

 

في موقع آخر..

بعد مضي ثلاثة أعوام قضاها عز في كلية الشرطة لم ينجح الشاب في تعديل موقف عائلة صديقته نور بالإسكندرية، كان يحدث أن يلتقي بيوسف منصور، اللواء المهيب صاحب المسألة، فلا تطاوعه نفسه على مصارحته بما في جعبته، يتهيب العواقب، تخونه جسارته، حتى إذا خلا إلى نفسه عاتبه ضميره.. ومن يكون حيال الرجل؟ وذات يوم كان منصور يتفقد ضباطه إذ ارتأى أن يعرض عليهم السؤال بلا حرج، ورفع عز يده في رهبة فأذن له، قال :

- أعذرني.. ما مشكل عائلة أبي جريشة بالإسكندرية؟

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وامتقع منصور ازدراءً، قال وهو يأخذ يقترب نحو السائل خطوة :

- إنهم عائلة من المجرمين..

كان عز لا يزال ملتجلجاً، قال :

- أليس ثمة أمل في عودتهم إلى الإسكندرية؟

وابتسم منصور وكانت شفتاه غليظتين، وأما شعره فأشيب ولكنه منتظم، يقول :

- ولماذا تريد أن تعيد المجرمين إلى المدينة؟

وسرعان ما أمسى عز أضحوكة الواقفين من زملائه، وقال منصور بعد أن جال وجوه الضاحكين يبادلهم ابتسامة يشيع فيها الرضا :

- فلتنتظرني بعد أن أنهي الجواب على سائر الأسئلة..

واجتمع اللواء مع الضابط، وسأله منصور :

- هل أنت منهم؟

وبدا أن عزاً قد تحرر من الرهبة حين أمسى الاجتماع محدود الأنفار، قال في بداهة تستحيل عطفاً :

- أحسب أنني لو كنت منهم ما قُبلت هنا، إنهم أهل صديقتي.

- لابد أنها مجرمة، مجرمة بالمعنى الجيد للكلمة !

ولم يسر عز بمزيح منصور فقال كأنما يترك الالتفاف فيعيد سؤاله الأول:

- أعرف عنهم تصوراً أكثر رأفة بهم مما لديكم، أنتم تختزلونهم تحت عنوان الجريمة واللصوصية فيما أنظر إليهم كبشر ضلوا السبيل،.. أليس ثمة أمل في عودتهم إلى الإسكندرية؟

وقال منصور :

- سيكون هناك أمل لو ضمنت لي استقامتهم وتركهم للجريمة،.. هل تضمن لي الأمرين؟

- أجل..

- وكيف؟

وعدمت قريحة الشاب من جواب حاضر فانشغل منصور عنه إلى غيره ممن جاءوه يستشيرونه، وانتهى اللقاء في حيرة معلقة بين اليأس وبين الرجاء، حين عاد عز إلى حارة الجناينية حيث إقامة نور ألفى الفتاة تبكي، لطخت الأدمع كحلاً كان يزين عينيها فصيرته إلى الفوضى أقرب، كأنه رسْمة بلا هدف بفرشاة مائية وبلون أسود، وخلع الشاب بسطاله الأسود (حذاء عالي الساق) ثم جلس يستمع إليها، قالت - في تفسير البكاء - بأن أهلها ضجوا وماجوا حين وصلهم رسولهم من الإسكندرية محملاً بأوصاف تعرضت لحياتها وأضرت بسمعتها، وراسلوها في العودة الفورية مهددين ومنذرين، وقالت أيضاً :

- الملعون (تريد رسول عائلة أبي جريشة) قد صور لهم حياة فحش ما أبعدني منها !

وقال عز في أسف  :

- يرى الإنسان ما يود أن يراه، التقيت برسولهم في يوم مقمر، رسمتُ التصورات منذ يوم ذاك ولم يكف عقلي عن التفكير كأنه أسير زوبعة، وقد أعددت للأمر عدته، يجب أن نترك حارة الجناينية الساعة.

وسألته في لحظة توقف فيها الدمع عن الجريان :

- إلى أين؟

- المعمورة.

 

انتقلا إلى العيش في المنطقة التي تطل على البحر المتوسط، هجرت نور سُكْنَى حارة الجناينية ولكن الهواجس لم تترك مخيالها، هل سيعثر عليها الأهل؟ وماذا لو عثروا بها؟ ألا تكون ثالثة الأثافي؟ أخذ عز يطمئنها فيقول :

- كل شيء يتغير، التغير هو الثابت الوحيد في هذا العالم، المعمورة نفسها لم تكن معمورة قبل أن يشيد فيها الخديوي عباس حلمي الثاني قصر المنتزه.

وقدحت الوحدة زناد الحب فتزوج الاثنان سراً، أخفى عز عن صابرين أمر الزواج لاعتقاده في معارضة الأم لخطوته المتعجلة، سيصارحها حين تنتظم الأحوال وتنقشع السحابة السوداء، هكذا أقنع نفسه،.. إنه شاب في العشرين وقد تزوج بمن هربت من نقمة أهلها، ولن ترتضي الأم زيجة كتلك،.. كانا (عز ونور) يتمشيان على كورنيش المعمورة الخاص ذي التصميم الهندسي أشبه بساحة التنزه، تناولا المرطبات، وقالت له :

- ضميري ينخزني وخز الإبر، تبدو حياتنا غير مواتية.

وقال :

- أنطونيو وكليوباترا، قيس وليلى، عنتر وعبلة، وغير هذا وغيره،.. ما جعل لهاته القصص رمزيتها الخالدة أنها نشبت في ظل ظروف غير مواتية.

وقالت :

- أجل،.. خاض عنترة الحروب في سبيل عبلة،.. ماذا فعلت أنت؟

وقال بعد أن توقف عن السير يرقب نجماً :

- تحدثت مع اللواء يوسف منصور وأحسب أنني كدت أظفر بحل ناجع لمشكلتكِ !

وفغرت فاهها من الدهش وعادت إلى حجرتها تكتب رسالة قصيرة - أشبه إلى برقية موجزة - إلى الأهل، كان عز يسألها التريث لكنها بدت عاقدة العزم فأوصدت الباب، ودونت ما يلي :

"أعزائي الأهل المقيميون في جنوب مصر..

الحياة بعيداً منكم كحياة الظل، وواجبي نحوكم يتلخص في شرح الحقيقة التي التبست عليكم، وساقها إليكم رسولكم مشوهة المعنى محملة بالزيغ والهوى والأَفَن..

 الباليه ليس هو الرقص السافر، إنه رقص التعبير والمشاهد المسرحية والإيماء،.. حياتي في الإسكندرية حياة أصل بلا أهل، وحياتكم في الصعيد حياة أهل بلا أصل،.. أمكن لعز أن يتواصل مع أصحاب الشأن في الوزارة، وآمل أن تعود المياه إلى مجراها قريباً فأخبركم بموقعي.".



 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

  

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا 

 

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق