استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/10

الوفاء لمن رحل

                                           الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل




كان عبد الغني جالساً على كرسيه ذي العجلتين حين تردد على حانوته نفر من المصابين بمتلازمة داون، وأكرمهم الرجل ثم قال كأنما يهتف :"ليسوا بُلْهاً، كلا.. إنهم ملائكة ينعمون في ملكوتهم الخاص.."، وانتظرت أميرة حتى انصرفوا عنه فجعلت تعاتب أباها تقول :

- وزعت الشربات على أهل الحي رغم أن أباظة لم يعد، شعرت بالخبل. 

وتطلب الأمر مدة حتى استدار إليها يقول :

- لقد تحقق منال الرجل وأثمرت مساعيه، أجل، لقد ظفر بما ضحى من أجله ولو أنه فقد حياته،.. ألا يستحق هذا احتفاءً وشكراً؟

وأظهرها الرجل على نية مراد أن يصطحبه إلى حديقة مختار فترة الظهيرة، فانصرفت الفتاة كأنما تفر من لقاء الشاب وقد صبغ ثوبها بسواد الحداد، ولفها ألم مقيم تقرحت - لأجله - عيناها، فكأنما ارتأت مجرد التواجد أمراً شائناً معيباً، يتناقض مع حقيقة شعورها وأساها،.. فأما حين جازت الباب فقد سمعت من يناديها وتوقفت هنيهة - كأنما تتحقق من كونها المقصودة - حتى حدث أن لحق بها المنادي، فكان جمعة دون شعره المستعار، أصلع الصورة، وهمست كأنما اطلعت على ما يستعاب منه :"جمعة.. لا درّ درّه.. ماذا جاء به؟"، وجعل الرجل يناديها نداءً مقروناً بالاسم فلما وعت ما قد يجره عليها تجاهلها من التفات الناس إليها، استدارت نحوه تسأله :

- لماذا جئت؟!

- خرجت اليوم من محبسي، وجئت كي أكفر عن خطيئتي.

- فلتذهب إلى من أخطأت بحقه..

- إنني رسول خير،.. الجميع يعرف أنكِ ومراد يجب أن تتزوجا، سأشعر بالرضا عن الذات إذا تحقق هذا الوعد المنتظر.

- سأعتزل الحياة، إن هذا عنوان الوفاء لمن رحل..

- المبالغة في القتامة لن تعيد الراحلين.

والتفتت إليه وقد غضبت لحديثه، تقول :

- أرأيت إلى كوب الكريستال حين ينكسر،.. فإذا أعدت حطامه وثبتها، فهل تعود قيمته؟

واستيأس جمعة من إقناعها وإن لم تتركه رغبته في التوفيق بين الاثنين، وأقبلت الظهيرة بأشعتها المحمومة المذهبة فجعل مراد يدفع كرسي عبد الغني في حديقة مختار، وطفقا يمضيان في ممرات واسعة يكسوها البلاط العريض، يقول مراد له :

- وهكذا صار من دأبي أن ارتاد إلى حديقة من حدائق المدينة في كل مرة تصعر لي فيها الحياة خدها، وصارت هذه أحب إليَّ من الماء البارد على الظمأ،.. كان على أميرة أن تصحبنا في جولتنا هذه كي تهون من أحزانها.

ولم يشأ عبد الغني أن يصارحه بحقيقة أن الفتاة تتهرب من لقائه، وتتحرى الابتعاد منه، فقال كأنما يروم الالتفاف على الأمر :

- ولماذا لم تأتِ بأخوة نرمين وبطفليك؟

وأجابه بما أعاد التفافه إلى نقطة الصفر :

- آثرت ألا أزعج أميرة إذا هي قررت الحضور..

- وما أخبار العمل؟

- سئمت السفر إلى دمياط، وتجارة الأثاث، يقولون بأن المستقبل للمتاجرة في الأوراق المالية.

ووافقه عبد الغني في الشطر الأول من حديثه، ثم ذهب ببصره يمنة ويسرة، كانت الحديقة مستطيلة التخطيط على نمط الحدائق الفرنسية، أسوارها المعدنية خفيضة، وتتوسطها أحواض العشب والزهور، وتمثال محمود مختار وارتأرى مراد أن شيئاً ما قد نحت على قاعدته فبهط يقرأه :" نحت المثَّال مختار في العام 1926.."، وصعد عنه يقول لعبد الغني :

- تمثال عمره زهاء نصف قرن كامل، لازلنا لم نزر صهريج ابن النبيه الأثري، وربما نعرج إلى مقام العارف بالله سيدي مفرح أيضاً إذا لم تغرب الشمس..

ولم يكد مراد ينطق بهذه الأخيرة حتى لاح من بين الأشجار الضخمة والهائلة التي تحفل بها الحديقة رجل أصلع (جمعة)، وما لبث أن تعرف إليه مراد فمضى يدفع كرسي عبد الغني عجولاً، يغير مساره، حتى أن الرجل القعيد بات ينشده التريث، وفي خضم ذلك أخذ جمعة يهتف به يقول :

- بئس من ينبذ صديقه القديم ! بحق هاته الزهور البيضاء والحمراء ههنا.. وأيام قضينا الأمسيات منها في البورصة التجارية.. إني أروم الخير لكَ..

والتفت إليه مراد يقول :

- فلتخدع بحديثك الطلي امرأ آخر غير من شرب من بئر خذلانك.

- أعرف أنني آثم، شهدت بما برأك أمام عدالة المحكمة، اعترفت بجريمتي وعدت شخصاً آخر، غسلتْ محنة السجن بواطني، صيرتني إلى حقيقتي أقرب، ما عادت تعنيني الزينة، وإذا أنا كنت سبباً في الإيصال بينك وبين أبيك، فلعلي أكون سبباً في معروف آخر أسديه إليك على ذات الدرجة من الأهمية.

ونظر مراد إلى صورته ملياً يدقق في شعره الأصلع، فكأنما وافق زعمه في التطهر، وسأله :

- ماذا تريد؟

 

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

في فيلا لوران..

كان نعيم يرقب التحول المجتمعي الذي تشهده البلاد بعد حرب أكتوبر بعين القلق، فكتب إلى أبيه يستمزجه الرأي في هذا الحادث يقول :" تحية طيبة وبعد.. بعد المحبة والشوق أكتب إليك في شأن يقلقني، ويجتاحني في رعب، ولعلك كنت عليماً بقصة غريغوري راسبوتين في روسيا، إذ أنت أوسع مني علماً في مجمل ما تتحدث عنه، أو حتى في مجمل ما أتحدث عنه من موضوعات القضايا الثقافية، وقد أضفت عليك حكمتك شيئاً محبباً يجعلنني عظيم التوق إليك، جم الاستئناس بك.. ولكنني أجد بنفسي رغبة في إعادة تفصيل ما تعرفه وأعرفه كأنما هو حديث الروح أبثه لك في ساعة مناجاة صادقة، كان راسبوتين أمياً، غير أنه حظي بمنزلة هي والتقديس سواء بين الجهلة من الفلاحين، إنه الجهل المقدس، ينبت في بلادنا وفي بلادهم.. وقد عمل الراهب الروسي بمكر للدخول إلى القصر الملكي، حتى إذا أنقذ ألكسي رومانوف ابن القيصر نيقولا الثاني من النزف ومن الناعور، حتى إذا فعل ما فعل، اقتنع القيصر وزوجه بقداسته واتصاله إلى عالم السماء، فعاش في القصر سنين سبعة، وشكل نفوذه المتزايد سبباً في قيام الثورة الروسية بعد أن صيرته الصدف رجل مجتمع، وما أراه في بلادنا من تصدر بعض أدعياء الفضيلة، ورجال الدين ممن يحتذون النمط نفسه من التسلل الماكر، والمناورة الخبيثة، يجعلني أتساءل تساؤلاً تتجدد مشروعيته يوماً بعد آخر : كم راسبوتين في بلادنا؟! وحتى لقد أمسى الكهنوت صناعة يحترفها الكسالى والبلداء،  وقد ينفث هذا في روع المتنبه من المتأملين، والأيقاظ من الواعين - أقول ينفث هذا في روع هؤلاء جميعاً وبالنظر إلى معطيات اليوم خوفاً حقيقياً إزاء المستقبل.

 

ثمة من يحاول أن يستغل النصر العسكري الذي تحقق في الأيام العشر الأولى من أكتوبر لتمرير خرافة الأمة التي ضلت طريقها - إبان الفترة الاشتراكية أو العلمانية - ثم عادت إلى الأصل التراثي فانتصرت، والواقع أن العلمانية في بلادنا - مثلما تعرف وأعرف - ليست أكثر من تصور فوقي حاول محمد علي فرضه دون أن ينفذ حقاً إلى وعي الشعب، فلم تصل إليه الأفهام من سبيل التجارب التاريخية، أو الخسائر البشرية، وإنما هبط، هكذا، برؤية من الوالي المقدوني الأمي،.. وهي - لطبيعتها القشرية - سريعة الفرض، عجولة الزوال، وتأثيرها لا يزال لا يغادر السطح دون أن ينفذ إلى العمق، ولا عدت أعرف هل نلوم هزلية الهزيمة في يونيو 1967م؟ أم ننحنى باللائمة على انعزالية النخبة عن واقعها؟ أم نعتب على أنفسنا، أي على المجتمع. فإذا مضت بعض أعمارنا وقنعنا بما قدر لنا من نعم، وما كتب علينا من النقم، فلنا أبناء نخشى عليهم عواقب المستقبل، وقد جاء لمريم مخاضها الثاني فولدت طفلة سميناها بآمال، وستدفع هذه الطفلة الجديدة -  مثلما سيكون عارف شريكها في دفع الثمن - ضريبة ما استزرعته وتستزرعه أيدينا اليوم.

 

يحب عارف ركوب الأرجوحة في حديقة الفيلا فيهبط بها ويعلو كأنها البندول، إن في نفسه - وقد ربا عمره على الأعوام الستة - رغبة في الحرية إذ هو حين يعلو يبدو كمن يرغب في معانقة الشمس، ولا أعرف أي نوع من الفرض الاجتماعي الزائف سيضطره للمواءمة مقوضاً روحه المنطلقة في مستقبل أيامه؟ أعني إذا ما تركت بلادنا نهباً للجهل والخديعة.

 

 كان القبول بوجود ذهب - الحارس النوبي - في الفيلا خطأً بت أدفع ثمنه، فالرجل كثير الثمول، مهذار، لا يُعتمد عليه.. وقد فكرت مراراً في التخلص منه لولا أن صداقة طفولية الطابع، بريئة النوايا، نقية الغرض، نبتت بين عارف وبين نجل ذهب الوحيد، واسمه منير، والأخير يبدو نسخة من أبيه في لونه الأسمر، وخفة ظله، وحتى طيش سلوكه..".

 

وترك نعيم رسالته فجعل يتطلع إلى صورة الحديقة عبر زجاج النافذة، كانت الظلال قد أفاءت، يجلس عارف فوق أرجوحته فيما يدفعه طفل آخر هو منير، وتعود تنقلب الأدوار بعد مدة فهذا منير على الأرجوحة يذهب ويجيء وذاك عارف يدفعها، وفرغ الاثنان من لهوهما، وجعل نعيم ينادي على ذهب وكان ينتوي معاتبته لتركه الطفلين وحدهما على خطورة ما يقومان به، ولكن الخادم لم يستجب لندائه ولم تبدُ صورته، وأخذ منير يهمس في أذن عارف يقول قولاً كان قد تلقنه من أبيه :"إنها مدينة ألعاب كاملة بالخارج،.. أخبرني أبي بوجودها،.. وسأدلك على السبيل إليها،.. أبي ينتظرني هناك،.. لدى الباب،.. وينتظرك،.."، وما هي إلا هنيهة حتى أخذ منير يعدو إلى حيث الباب، وطفق من بعده عارف يقتفي أثره، أصاب نعيم لوناً من الخوف الشديد سرى في جسده أشبه إلى ارتعاد، وغمر الارتياب مشهداً فاتراً، وانطلق إلى حيث ركض الطفلان، فما أن بلغ الشاب الملهوف مبلغهما حتى ألفى ذهباً ينتظر مقدم الطفلين، وتقدم نعيم نحوه فقال :

- خائن،.. أردت اختطاف الطفل لغرض في نفس يعقوب، لم يتركك الأمل في حيازة هذه الفيلا !

 

وهناك ارتبك ذهب ارتباكاً شديداً، وقال وقد جحظت عينيه حتى كادت تفارق وجهه :

- ما أسرع النفوس إلى سوء الظن ! فلتهب لي من لدنك فرصة أبرر فيها موقفي !

وقال نعيم :

- أما كفاك كذباً؟ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

أغلق نعيم الباب في وجه ذهب مرة أخيرة وبلا عودة، كان منير يسأل أباه الذي صار إلى حال أقرب إلى الضياع : "ألن نذهب إلى مدينة الألعاب؟!"، وفي المساء كان الخادم يقذف المبنى الأبيض للفيلا بسيل من الحجارة، ولكن نعيماً لم يفتح له. 

 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

  

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق