استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/27

لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

   الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء






حين حصل فؤاد على إجازة جديدة من عمله بالكويت كان يتحرق شوقاً إلى معرفة مصير جارته غادة، هذه المرة فوق لهفته إلى العودة إلى مدينته الأم نفسها، ووزع الهدايا - التي كانت أقل من المعتاد  هذه المرة - فوهب لأمه هدى عسل نحل جبلي، وأما أصدقاؤه القدامى فقد بدا أن أكثرهم - ولما فارق بعضهم غضارة الطفولة والصبا ثم لانقطاع فؤاد الطويل نفسه عنهم - زاهداً فيما يجيء به من النعم أو غير منتظر لها، وقد أورثه هذا لوناً من الحزن الطفيف إذ هو كان مما يسعده أن يكون المانح دائماً،.. فلما فرغ حصل أن وقف في شرفته لساعات طوال دون أن يرى الفتاة في شرفتها المقابلة، فجعل يتسلى عن الانتظار بمتابعة الحمائم التي جاءته ترف في غلالة بيضاء، فتأخذ تهبط بأرجلها المفلطحة ثم تمضي، وتزامن دق ناقوس كنيسة السيدة العذراء والقديس بولس الرسول مع ظهور والدة الفتاة التي كان ينتظرها وانفتاح الشيش الخشبي، كانت المرأة - كالعهد بها - بدينة، يشيع من أماراتها ضيق الأفق، وداع النشاط الذي لا ينتهي، كأن نفساً غريبة ما تسوقها، وسألها :

- معذرة، سيدتي، هل ابنتكم بخير؟ إنني ما صرت أراها منذ عُدت !

ولم تهبه المرأة أكثر من نظرة ازدراء، ثم مضت تنخرط فيما جاءت من أجله من جمع الثوم، واسترعاه في خضم حركتها أن عنقها يخلو من الصليب الفضي المعتاد، وقد ضاعف هذا من ارتباكه وتحيره، فهتف بها يقول :

- سيدتي، أخشى أنني بقولي هذا سأفسد خصوصيتك : أين ذهب هذا الصليب؟

ومنحته نظرة "من يطلع على شائن في الحياة" ثم تركت الشرفة ذات السور الحديدي المزخرف، وأغلقت الشيش الخشبي الذي كان قد تقشر طلاؤه في مواضع، ووقف يرقب حزم البصل الأبيض والثوم وقد انتقل إليه شعور المنبوذين الذين قُدرت لهم شر السياقات في الحياة، ولكن داعياً للنشاط قد دب في باطنه فلفظ على إثره شعوره بالتهميش، وجعل يقول في عزم :

- سأزورها، وخير السبل أقصرها.

وسارع إلى تلبية ما قد عاهد نفسه عليه يجاهد رغبة قوية في المقاومة، ورن الجرس الذي كان مقبضاً ملتوياً يشبه تدوير المفتاح يحدث صوتهاً عالياً حين يديره الزائر، يشابه مقارع الأبواب القديمة في العصر الفيكتوري، وكان قد عزم أمره على أن يحتال عليها فيزعم أن زيارتها إليها إنما هي رغبة في فهم العقيدة المسيحية التي يجهل بها، وقد حلق الشاب - لأجل ذاك - ذقنه الثرية بالشعر، وتخلى عن عباءته، كأنما لم يبقَ له إلا بشرته البرونزية من الآثار الصورية لمغامرته في الكويت، وقال لها أول ظهورها، وكانت تلبس صليباً آخر من خشب الزيتون بديلاً عن الفضي الذي وهبته لابنتها :

- هل ترفضين باحثاً عن الرب لدى بابك؟

وأدخلته بين التأثر والريبة، كان بيتها حافلاً بقوارير فخارية مختلفة الصنوف، وشَمْعَدَانَات، وثريات للشموع البيضاء والصفراء، وسرج وقناديل تضاء أمام صور وأيقونات ومسابح وصلبان، وكذا زجاج ملون ولوحات جدارية فاضت بهما الأجواء بروح قوطية، وبعض المقتبسات من إنجيل متى، كان على المجمل أشبه إلى كنيسة مصغرة، وتطلع إلى زجاجة زيت ميرون في تساؤل حول ماهيتها، فقالت الأم بعد أن مسحت يديها المبتلتين، تجيبه على السؤال الذي في نفسه :

- احتفظُ بها للكنائس الفقيرة..

كان فؤاد يجلس جلسة مسترخية فيمد رجليه.. وقالت وهي تأخذ تقترب من جلسته :

- فتلعتدل في جلوسك، ولد السيد المسيح بمذود البقر ليعلمنا التواضع..

واستقامت قناته في اضطراب إذ هو لم يقصد الاستعلاء، وأغرته حدتها بأن يقصد إلى مرامه دون تسويف كأنما حدس بأن زيارة كهذه غير مأمونة العواقب أو المدة :

- أين ذهبت ابنتكم؟

- إلى حيث يجب أن تكون، ستصير راهبة.

- ألا ترين إنك تجورين عليها؟

- تحتاج الحياة إلى تضحيات، إذا تنصل الجميع من مسؤوليته فلن تجد متقدماً واحداً.

وقال :

- أحسب أن أمراً كالتبتل (الرهبنة) هو فرض كفاية لا فرض عين.

- حدثني بمفردات العقيدة التي أدين بها.

- أعني أن قلة تكفي للنهوض بالأمر.

- يبدو أنك لم تفهم قولي الأول.

- هل تشعرين بالاضطهاد؟

- أجل، نشعر بالتهميش في بلادنا، إننا نشكو الرب، ونلوذ بفضيلة الصفح.

- لماذا ازدريتني اليوم؟

- لقد رويت بذرة الشك في نفس غادة، وساعدتها على التمرد حين آويتها في بيتك، لم تكن لتطاوعني (غادة) إلا حين خلعت صليبي الفضي فألبستها إياه، كان وجهها فائض الدموع في ثوبها النيلي، ولكن الرب وحده وهبها السلام، وأوزعها الطمأنينة.

وابتسم، فقال في تفكه لا يناسب المقام :

- كان عُقداً ضخماً هائلاً، لابد أن عنقها سيشقى به.

وحدست المرأة أمراً، فسألته :

- هل أنتَ جاد حقاً فيما أتيت من أجله؟ تبدو محباً لابنتي وأخبارها لا راغباً في التنسك والتفهم.

ورمقها بنظرة ماكرة، ثم أتبع يقول كأنما فطن إلى حل أحجية :

- ألا أكون متعذباً فوق صليب الحب؟

وقرصت شحمة أذنه تقول :

- فلتخشَ العقاب الأخروي على ما تتفوه به من هرطقات..

 

في المعمورة..

اعتنت نور ببكر في بدايات فترة تأقلمه على الاستقرار في الإسكندرية، غمرته من إحسانها الجزيل، وامتنانها الحفي الحفيل ما جعله يشعر بـ "وجوده هناك دائماً"، حتى عز وحين ألفى ما تفيض به زوجه على الشاب من آي النعمة من نبع نمير - جعل يشاركها في نصحه وتوجيهه، وحتى لقد جهز للوافد شقة بالمعمورة هي إلى الجوار من سكناه، كان عز قد جعل يرتقي على سلم الرتب على حداثته، وكان لاستقامته وأخلاقه ثم ما أفاءت عليه الطبيعة به من بنية قوية مثالية محط إكبار رؤسائه، كان يبرز بقناع الامتثال المحبب لدى أفراد المؤسسات الهرمية، وإن بقت له شخصية تقيم الأشياء بميزان الفضيلة تبرز بين حين وحين، وقد بدا - بعد التخلص من هاجس إرجاع عائلة زوجه إلى الإسكندرية - ضابطاً بلا عيوب أو نقائص، فجرت في يده نعمة المورد، وصار على حال من الاستغناء عن طلب المال من أمه صابرين في وقت تزامن مع وفاتها واقترن به، كأنما كان من لطف الأقدار أن تدخر له الوفرة في وقت الحاجة إليها.

 

 ولكن آفة العقم ظلت تنغص حياته بعض تنغيص، فتقتحم لوحة العائلة المثالية المزهرة التي كان يستحقها وأرادها لنفسه بخطوط سوداء عابثة، وتفقرها عن الغنى المأمول، لم يعترف الرجل ببكر ابناً له أو حتى هو لم يضعه بمثابة قريبة من البنوة، خلافاً لنور، وإنما عامله معاملة المحسن المجود، وعد في هذا كفاية لا شطط فيها ولا تزيد، ويوماً كان عائداً من دوام العمل فألفى زوجه تحدث من جاءها بخطاب، وارتبكت حين رؤيته فسترت الجواب على نحو لم يكن خافياً على الرجل، ولكنه مضى يسايرها على ما اعتقدته فيه من الجهل، ونطق بتحيته الفاترة المعتادة من أعماق شعوره بإرهاق العمل :

- أهلاً..

 ودلف الرجل - كالعهد به - إلى حيث أخذ يخلع بسطاله، فسائر ملابسه، ولكنه بدلاً من أن يستحم - مكملاً السلسال الذي درج على الالتزام به - جعل يسترق البصر عبر ثقب الباب إلى المرأة التي ما لبثت أن انفردت بالخطاب في حجرة النوم، كان ثمة نبت البطاطا الموضوع في أكواب يملأ الماء منها شطرها على طاولة قصيرة من الخزف هي بين الباب الوصيد وبين نور، وكان هذا النبت - بأفرعه الخضراء اليانعة - مما يحجب عنه النظر قليلاً، ويحول بينه وبين رؤية المرأة على التفصيل، غير أن زاوية رؤيته كانت كافية ليرى انفعالها ما أن فرغت من القراءة، ثم ما انخرطت فيه من تقطيع الخطاب إرباً، وهناك فتح الرجل الباب فأسقط في يد المرأة وهبط حتى جمع المنثور من أثر الخطاب، وسألته في خوف :

- لماذا تجمعه؟ كان خطاباً من عائلتي بالصعيد.

ونهض بعد أن امتلأت يداه بالمقصوصات، يسألها :

- لماذا تقطعينه إذ هو كذلك؟ لابد أن في الأمر شيئاً.

عقد عز عزمه - لما كانت زوجه دائمة الإنكار - على تجميع المقصوصات يستبين منها المطمور من الحقيقة، واستخدم في ذاك صمغاً عربياً، كالمرء يجمَّع قطع البازل، ووفق في مسعاه بعد ساعات زادته إرهاقاً ذهنياً على إرهاق بدنه في حجرته التي انقطع فيها، كانت نور تشرع تتردد عليه - خلال ذاك الوقت - فتقول :"لا تجهد نفسك.. لا حاجة بك إلى قراءة ما يرسله إليَّ الأهل من سفه أو تهديد أو وعيد حقيق بالنسيان.."، ولكنه لم يلقِ لها بالاً إذ هو مدرك أنها تكذب وتتحرى الكذب، فلما أتم مراده أغلق الباب بالمفتاح وجعل يقرأ المحتوى المجمع :

- "عزيزي بكر..

لست أدري لما لم تجبني على رسائلي الفائتة، ولعل خيراً قد منعك من هذا، ولا أخفيك سراً أن تواتر المخاوف أصاب جهازي العصبي بالفتور حيال ما يحدث وما هو حادث، وإن أوقاتاً كهذه لتجعل أكثر الجاحدين للاعتقاد في العناية الإلهية متراجعاً عن جحوده، وإني لمعيدة عليك بعضاً مما حوته الرسائل الفائتة عسى أن ينقطع عنك حبل الصمت :

أقول بأن رضوان قد عاد وسط حشد مصطنع، سبقته جمهرة من عازفي الصرنايات بريشها الخوصي المزودج، كأنها الأبواق تمهد لعودة المهم من الشخصيات، وقلت في نفسي : لا عز ذو باطل ولو طلع من جبينه القمر، وقد وعد الناس - مسرفاً في وعده دون أساس - بأن ينهي الكارثة التي باتوا يرزحون تحتها في خطبة حماسية عاطفية قال فيها :

- سنعيد الحياة ولو عدمت الأسباب : كما تورق الحياة في الصخور كالكروم، وسنمد نهر الخير الذي سيعود يسبح فيه الجميع ! 

وقد انحاز إليه رهط قليل، ثم استحالت شيعته إلى الجم الكثير، وهذا مما لا يلامون عليه، فكيف أن ننتظر ممن عانوا البوار تأييداً لنا في سياسة أو موقف؟ وقد رأيت - مما رأيت من مظاهر الجدب - نسوة بعصائب من قماش أزرق يستقون من بحيرة ماء صغيرة لها طبيعة آسنة كريهة بأقداح خشبية فأدركت عظم الأمر، وقلت في نفسي : ما أسهل أن تحركهن بخطبة تفور لها العاطفة ! وقد حاولت أن أفسد عليه (رضوان) السرور الذي يتنعم به في خضم مسيرته التي شقت القرية، فقلت هازئة أتقدم الصفوف :

- هل أوكلك الله بأن تسخر الماء فتجيء به بعد جدبه؟

وابتسم يقول :

- إني رسول حياة إليكم.

وتابعتُ في استهزاء ينال منه :

- أراك صاحب معجزة؟

وقال يخص نفسه بالانتماء إلى الفرقة الثانية في تورية مفهومة :

- المعجزات للأنبياء، والكرامات للصالحين الأبرار.

 ثم انتقل من حال الدفاع إلى الهجوم، فقال :

- لقد عرض ابنكم مأساتنا على الملأ دون أن يجيء بحل ناجع لها، أجل، لقد شهر بمحنة أبي تيج ثم توارى في البلاد التي لا ينقطع عنها ماء البحر، إنهم هناك لا يجوعون ولا يعطشون، وإن جاعوا فلهم صيد طيب، وإن ظمأوا فماؤهم قريب المؤنة، إن ألف من يسأل عنهم ويسد حوجهم، وأما نحن ففقراء، ثم مهلاً،.. ألا تدرين أن زوجك قد انضم إلينا؟ فواعجباً للأسرة التي تأتي بالشيء ونقيضه !

فلما كان من البراعة أن ضرب على الوتر الصحيح فقد أصاب من جماعته صيحة تهليل، وخرج إبراهيم فبرز وسط حشد منهم خجلان، وكانت هذه الطامة الكبرى، فمضى الملعون رضوان وسط عزف الصرنايات التي استأنفت موسيقاها حتى يطوف ما تبقى من بيوت الطين بين الجلاميد والبوص والحصير، فيما بقى إبراهيم يريد أن يسوغ إليَّ ما لا يسوغ، يقنعني بوجاهة تأييد الرجل الذي خبرت فسوقه وأباه. إني أنشدك العودة تنصر بها أهليك، وما تبقى من محبي أبيك نوح، وإلا فهو التهديد الجسيم يلوح على ما درجت عليه الأمور من تداول المنصب، ثم  التهديد بضياع الفدادين الخمسة، وأرواحنا جميعاً..".

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                 الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق