استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/04

ذكرى الثأر

                               الفصل الثالث عشر: ذكرى الثأر






1971م..

فاضت جيوب فؤاد بالنعمة منذ تولى إدارة الأمور في جبل نعسة، ازدهرت حصيلة الشاب ابن العشرين من النقود حتى أمكنه أن يستأجر دراجات عم حسني دون أن يختلق أو يكذب حول موعد إرجاعها إليه، وأحبه الحُمّال من واقع ما كان يسوس به العمل من كياسة لا تعرف الغلظة أو الفظاظة، فرضوا به على ما كان يبديه من ضعف في أحيان فض النزاعات بينهم، ويوماً عاد إلى عم حسني يقول:

- ها هي ذي بضاعتك ردت إليك ! (يريد الدراجة)

وأجابه الرجل كأنما يخفي شيئاً ما يتخالج في صدره :

- تحسنت أخلاقك على منوال محمود منذ جرت في يديك الأموال.

- أجل، تتحسن أخلاق الناس حين تتحسن أحوالهم، الأخلاق ترتبط بالمنح الذي ينشط بدوره في ظروف الوفرة حيث تزاداد فرص حالات الكسب المشترك.

وزفر حسني دخاناً من سيجار مخدر الحشيش فبث في الأجواء رائحة أشبه إلى الليمون أو الصنوبر بسبب احتراق الورق، يقول :

- أوقات المحنة والحاجة هي أحيان الاختبار الأخلاقي الحقيقية. 

وقال فؤاد :

- بهذا المقياس يفشل الجميع..

ودعاه فؤاد إلى إطفاء سيجاره فأجابه الرجل :

- تبيعون مثلها (أي السيجار) في جبل نعسة وتحرمها عليَّ هنا؟

- لم نعد نبيعها..

الأجواء في محل الدراجات كئيبة بعض كآبة، الجدران شاحبة، يزيد السيجار الأجواء سخونة، يعلق الرجل صورة الرئيس عبد الناصر بشارتها السوداء، وسأل فؤاد حسنياً :

- ما بك؟! أراك تبث الحزن في المكان الذي تحبه وسط الدراجات..

وبث السؤال في العينين الحائرتين شرارة انتباه يقول :

- وكيف تفطنت إلى حالتي؟

- تتهرب من واقعك بالمخدر، إذا آثر المرء الوهم على الحقيقة فهذا لأنها غير مواتية أو غير مُشبِعة لمثالية كان ينتظرها في هذا الوجود.

وجلس حسني على كرسي وكان يسند مرفقه إلى بدال إحدى الدراجات الموضوعة فيما يشبه خزانة عرض يقول :

- انظر إليّ، عجوز وسط الدراجات، بعزم خائر وبطن منداحة، إنني ما قبلت امتلاك الدراجات إلا لعجزي عن امتلاك السيارات، وددت يوماً أن امتلك واحدة (سيارة) فارهة، كانت أمنية الشباب التي لم تتحقق، لقد ضاع الشباب في فترة الملكية، كان امتلاك السيارة وقتئذ ضرباً من من أضراب المستحيل إذ كان العالم حديث عهد بها، يحتاج السوق إلى مهلة تطول أو تقصر كيما ينقل المخترَع الفذ إلى أيدي الناس العاديين، عاودني الأمل مجدداً في عهد الاشتراكية، قالوا بأننا سنظفر بمجتمع ينعم فيه الجميع بأمنياته، كانت أمنيتي بسيطة كل بساطة، ولكن لم يُقدَّر لها أن تتحقق فذهبت، هكذا ! (يضرب وسطاه بإبهامه فيحدث صوتاً أشبه إلى فرقعة..) أدراج الرياح ! (ونظر إلى عيني فؤاد فقال في صدق..) ليس وجودي هنا، وعلى هذا الحال، إلا مزحة قدرية سخيفة !

وبدا على فؤاد التأثر من حديث الرجل الذي بدا قادراً على انتزاع الدمع من المآقي، وأحس نحوه عطفاً نقياً كفضة مُذابة، ساد صمت تجلت فيه المعاني من موقع جاثم ثقيل الرنين، انزلقت يد حسني المتكئة على البدال فتدهورت جلسة الرجل بالتبعية وهوى على الأرض، عاونه فؤاد على الوقوف مجدداً، وقد تضاعف إشفاقه على الرجل حين ألفاه بلا حول، وود لو أمكنه أن يتخاطر مع جني الأمنيات فيجيء إلى الرجل بمناله على جناح المعجزة، ولكنه انصرف عنه، وفي جبل نعسة التقى فؤاد بالحمّال يقول :

- لقد جردنا عملنا هنا مما كان يزري به من الذنوب والأرجاس، فنزهناه عن الدنيات، وقربناه إلى العمل الشريف على استمرار اختبائنا في الجبل، وقد بورك لنا فيه !

كان الحمال يهتفون قائلين :

- الفضل لكَ، أيها الصغير..

وقال راضياً بما سمع :

- واليوم أطلب منكم مطلباً..

ونظروا إليه نظرات هي دون حماستهم الأولى، فقال في نبرة لا تكاد تعرف التغير :

- سنقتطع جزءاً من أرباحنا للعمل الخيري، نحقق أحلام الخلائق في جبل نعسة وكرموز والكارة وباب سدرة.

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


في المعمورة..

أيقظت نور عزاً من منامه تقول :

- لقد وجدتها، لقد وجدتها..

يغسل الشاب وجهه بالماء البارد كيما يسترد وعيه بالأشياء، وقالت :

- إنها رسالة من العائلة يتعهدون فيه بنبذ الثأر، وتحتها إمضاؤهم جيمعاً..

وتهلل عز واستبشر، وجعل يقرأ ما اشتملته رسالتهم من محتوى :" إننا لما كنا ننشد الخير قبل كل شيء، ولما كنا نكره العنف في غير مواضع الدفاع عن النفس، أو رد الإساءة والعدوان، وبعد أن وقفنا على حقيقة النوايا الجديدة التي تبشر بعودتنا إلى مدينتا الأم (الإسكندرية)، فقد ارتأينا أن نتعهد بالتزام القانون الجاري، وترك الثأر، والأخذ بأسباب السلم، ثم العمل كمواطنين عاديين، في هذه الوثيقة الموقعة منا..".

كان فم عز يأخذ يتسع مقترناً بكل عبارة يقرأها فينطق بها همساً، حلق فؤاده فوق أكف المجهول المسحور كنشوة الظفر بعد الانتظار، فلما انتهى منها جعل يدور رفقة الفتاة دورة جعلت الأشياء من حولهما مشتتة الصورة، قال حين استقرا :

- لقد تخلوا عن ثأر أبي جريشة أخيراً، والحمد لمن جعلهم يثوبون إلى رشدهم.

وأخذت نور توافقه تقول :

- لقد أكل الدهر على قصة أبي جريشة وشرب، أخبرتهم في رسائلي بأن من ينظر إلى الماضي بعين الانتقام يضيع لحظات الرضا عن حاضره.. سيكونون في ضيافتنا ويجب أن نحسن استقبالهم، يقولون بأن أهل المدينة لا يعرفون الأصول حق المعرفة كأهل الصعيد..

روى عز للفتاة شيئاً عن قصة قديمة رواها ابن بطوطة الذي مر بمصر في طريقه إلى المشرق، ثم حين في طريق عودته زار الإسكندرية، فيسجل بأنه كان -  آنذاك - سلطان أفريقية (تونس)، أبو يحيي زكريا بن أحمد الحفصي المعروف بالحياني، مقيماً بها ضيفاً على السلطان الملك الناصر بدار السلطنة، بصحبته اثنان من حجابه وواحد من وزرائه، يروي لها فيقول :" اعترف الحياني بكرم الضيافة حتى أنه سمى واحداً من أبنائه بـ«المصري»، والآخر بـ«الإسكندري»، وأتبع عز يقول وهو يربط ببيونة عنقه الحمراء على صديري بذلته الأسمر، يتأهب للقاء اللواء يوسف منصور :

- وقد مات الحياني بالإسكندرية، وكذلك توفي ولده الإسكندري فيها، وحتى المصري فقد عاش فيها دهراً ! وموضع الشاهد هنا أن المدينة مضيافة منذ القدم.

ذلك اليوم التقى عز بيوسف منصور فتوصلا إلى اتفاق بعودة الأسرة المنبوذة، بكى عز بكاءً تجلى فيه الشعور بروح القانون وسماحة العدالة، وكان اللواء يقول له وهما يتعشيان وأمامها أطباق من الأسماك مختلفة، منها الجمبري (القَمرون) والسبيط وسلطة متبلة بالعسل والخردل، يمسك بالوثيقة الموقعة بعد أن مسح عن يديه بواقي الطعام، كأنما يلقنه درساً في حنو تشيع فيه الأبوية :

- بُني، العدالة امرأة معصوبة العينين، ولكنها ليست حمقاء بلا بصيرة.

وانبرى الفتى يقول :

- كان على قلبي طخاء وقد زال اليوم، سعادة بغير وصف تنتابني.

وعاد يوسف منصور يأكل، ويمزح :

- لابد أنها سعادتك بالطعام الجيد.

بدأت عائلة أبي جريشة في العودة إلى المدينة تدريجياً بعد الخروج الكبير، كان عز أول المستقبلين لهم، ولكن تفاؤله ما لبث أن تراجع تدريجياً لأسباب عدة، فخُسف به، وتفصيل ذلك يوم زارته الأسرة العائدة في المعمورة، فهرع الشاب فيما يشبه السذاجة القروية لاحتضان كبير أفراد العائلة فكان عناقه بالرجل فاتراً، لم يكلف الرجل الصعيدي نفسه عناء أن يحرك يديه، وبقى عز كأنما يتعلق بالكيان الجامد بغير شعور حتى أخذه الحرج فتركه، ومضوا يتمشون قرب البحر، قال عز مكسور الخاطر :

- الصفح وحده ما جعلكم تعودون إلى بلادكم، وإلى هذا البحر.

وبادره الرجل إلى القول الذي أذهله، فيما تعلو موجة عنيفة فيتناثر رذاذها على الجلاليب  الصعيدية :

- الصفح عن طلب الحقوق هو الضعف عينه.

وقال عز غير مكترث لابتلال بذلته :

- أن يعيش المرء مظلوماً خير له من أن يحيا حياة جائرة، يقيمها على آلاف الجيف والجثث.

وقال الرجل الصعيدي :

- هذا منطق الضعاف، تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن،.. تعلمنا هذا من الدين ومن الحياة، هذه العدالة المجردة..

- العين بالعين تحيل الدنيا جحيماً،.. وماذا عن الوثيقة؟!

- سنلتزم بها، أعني أننا سنتظاهر بالالتزام بها حقاً دون قناعة.

- لا تعنيني قناعتكم، تعنيني أفعالكم..

وتدخلت نور تقول :

- فلتتحدث إلى زوجي ببعض اللطف، لقد توسط لكم، وأعادكم من نقطة لاعودة.

والتفت الرجل إليها، يقول كالساخط الغاضب :

- ما هو بزوجك ! ما هو كذلك قبل أن يقام عرسكما في الصعيد،  ويشهده الناس هناك، ستلعب فيه عصيان الخيزران لعبة التحطيب، وسيشغل بسيرته من كانت أراضيه من أطفيح إلى أسوان، سيكون عرساً مشهوداً غير مسبوق ولا ملحوق، تذكرا هذه الحقيقة : ينقصكما الإشهار وإلا فهو الحرام تعيشان في كنفه !

وطفق الاثنان (عز ونور) يهتفان في وقت واحد :

- حاشا لله، حاشا لله.. 



 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

  

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق