استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/11

قلبي يحدثني بأمر

                                            الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر





اصطحب يوسف حين عودته إلى فرنسا نجله الأكبر زهير إلى معرض الفنانة الفلسطينية مليحة أفنان، المقام هناك، كان يوسف يسأل أخيه في حين يمرر ناظريه في لوحات المعرض - التي تستخدم فيها الكتابة وكأنها رسم - دون أن تستولي عليه واحدة :

- لماذا لم يحضر أخوك حسين؟

وقال زهير :

- "يمر بحالة نفسانية سيئة منذ فقد صديقته في درس الموسيقى (يريد إيفون).".

- "سيجدها مثلما وجدت القط الروسي..".

ونظر زهير إلى أبيه نظرة فاترة يشيع فيه السأم، حتى لاحت المرأة فانتاب زهير توتر ملحوظ، وكان لشغفه بالرسم كثير التقدير للعاملين في الحقل الذي اختاره لنفسه، فأخذ يحدث نفسه :"أقف مع واحدة أهم فناني الشرق الأوسط في القرن العشرين.. تجمعنا دائرة قطرها لا يزيد عن مترين.."، اقتربت المرأة من موضع الرجلين فرمقت الاثنين بنظرة من عينيها الزرقاوين ثم مضت، وأخذ يوسف يسخر من نجله يقول :

- لقد أهدتنا نظرة، ثم ذهبت، ألا يعد هذا انتصاراً ؟! 

منذاك دبت بعض الحيوية في نفس زهير، رغم لقائه القصير والصامت بالفنانة المولودة في حيفا، لكن شغفه برسم الوجوه - وبالفن على العموم - تجدد كالشيخ يعود أقرب إلى الشباب بعد جلسة علاج بالأكسجين، كان يقف في ساحة place du tertre في باريس يرسم وجوه العابرين قانعاً بالثمن البخس، أو راضياً باللاثمن، وتواترت عليه الوجوه فخالها تتكرر، لولا أن صادف وجهاً حسناً، له شعر كستنائي، وعينان واسعتان نجلاوتان، تعلق حلقاً هو على صورة النجوم، ولها جبهة متوسطة تتخفى وراء شعرها المنسدل تحت قبعة زرقاء تضغطه مكتوب عليها : J'adore Paris  (جرى استبدال الفعل  adore  /يعشق بقلب أحمر شديد الحمرة ) لفتاة في عمر العشرين، أخرجه من محيط السأم، وقالت حين امتلكت اللوحة :

- "إنها جد جميلة !".

وقال في مجاملة متوارية :

- "ليست اللوحة إلا انعكاساً لصورة الحقيقة..".

وحاولت إهداءه مبلغاً لقاء ما تجلى لها من رسم سُرت به، غير أن زهيراً قد تأبى، وانتابتها دهشة تقول :

- "وكيف تجد المال؟".

-"أبي يقول بأن من يجعل الفن مصدر رزقه الوحيد يموت من التحلل، إنني أمضي في سبيلي، لا أسأل عليه أجراً، سأبيع اللوحات يوماً حين أصل لمستوى ما، ولكن اليوم أعتبر نفسي في حالة التمرن، ولأجل ذلك لا أترك إمضاء على ما أرسم..".

وقالت وهي تأخذ تمضي :

- "سأجيء يوماً إلى place du tertre كي أحظى بلوحة من إمضائك..".

عاد زهير إلى البيت وفي صفحة عقله الفتاة ذات الشعر الكستنائي فكأنما أفاءت عليه الدنيا بنعمة - فألفى حسيناً على حال من الكدر عظيم، نقيضاً لحالته يقول (يريد أيفون) :

- "إلهي! كأن الأرض بما عليها انشقت فأخفتها عن الناظرين، سألت عنها زملائي في درس الموسيقى فأخبروني بجهلهم بموقعها، الذنب ذنب بيرت وحدها، والإثم معلق في عنقها القصير، القصير جداً حد أنه لا يكاد يرى بوضوح، أجل كانت بيرت من الفظاظة حد أن الجميع بات يمقتها، وانفضوا حولها انفضاض الناس عن المنفرات، لقد كانت خليق بها أن تكون مربية وقد ضلت طريقها إلى عالم الموسيقى..".

وسأله زهير فكأنما أشفق عليه :

- "وكيف شكلها؟ (أي الفتاة موضوعة البحث)".

وأجاب :

- "لها عينان واسعتان نجلاوتان، وحلق أشبه إلى النجوم في تكوينه السداسي.. وأما شعرها فأشقر.".

تنفس زهير الصعداء فالشعر الأشقر يخرج إيفون عن دائرة الاشتباه في الفتاة التي قابلها، ولكنه لم يهنأ تماماً، فالمتشابهات المشتركات كُثر، وقلبه يحدثه بأمر، والقلب أسبق من العقل في مواضع، وحضر يوسف فطفق يسأل نجله :

- "أريد علامة أوثق استدل بها على صورتها؟ أعني أنني رأيتها غير مرة في درس الموسيقى وطبع في مخيالي أنها كانت ترتدي قبعة ما.. أليس كذلك؟"

- "أجل، أذكر أن عبارة   J'adore Paris كانت مكتوبة على القبعة.".

وهنا تدخل زهير يسأل أخيه مجدداً وفي عصبية، غير مبررة، وإن لم ينتبه إليها أحد :

 


  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


- "هل  أنت متأكد أن شعرها كان أشقر؟".

- "أجل، أجل كانت كذلك إن لم أصب بعمى الألوان، أنا وأبي.".

كان ثمة ساعة بندول معلقة على حائط الجهة المقابلة من الزجاج والخشب ظل زهير ينظر إليى حركة رقاصها الذي يتأرجح بين الضدين طويلاً، يتساءل : ماذا لو كانت الفتاة التي يبحث عنها أخوه هي نفسها التي وجدها في ساحة place du tertre؟ وغلب عليه الإنكار أولاً، فاختلاف لون الشعر علامة بينة على ضلال هذا الزعم، ولكنه عاد يقول بأن أخاه كان أشبه إلى جحا في قصة السحابة التي سمعها من أبيه يوسف يوماً، فالشعر قد يصبغ ويتلون مثل السحاب يمضي ويعبر، ثم انتقل إلى حال صار معه يقول، وفي شيء من الكبر، ولو أنها هي هي.. فماذا يعيبه أن يلتقي بها مجدداً؟ أن يمنحها لوحته الموقعة بإمضائه؟ إن ما بين إيفون وبين حسين لا يعدو كونه زمالة عابرة في درس موسيقى، وإذا أضفى عليه أخوه مزيداً فلأنه واهم الظن، مسارع إلى الاستيهام، لا.. ليست هي الخيانة أبداً.. ووضع حسين يده على كتف أخيه المتفكر فانتفض الأخير فزعاً يقول :

- "ماذا تريد؟ إنني لم أأثم قط في حقك..".

وأجابه الأخ غير واعٍ بما يدور في خلده :

- "إنني أشكرك بحق لاهتمامك بأمر إيفون، وأمري..".

وتركه مع محنة التفكر رفقة بندول الساعة الزجاجي الخشبي ومضى، وأشفق زهير على نفسه شفقة عجيبة حين انفراده بساعة البندول، إذ هو بات يغبطها على مسارها المتكرر وطبيعتها المسيرة وحتى تكوينها الجامد الصارم، المزدان بالجماليات، وتواترت الأيام على زهير في ساحة place du tertre حتى أنساه اختلاف الوجوه أمر أخيه والفتاة فنعم ضميره الملتاع بسلام جزئي، كان قد اشترى قبعة قش فألزم من يرسمه أن يترك فيها فرانك، وطفق يرسم امرأة عجوز، اشتعل رأسها شيباً، وامتلأ بغضون العجز، فمضت - بعد أن تسلمت منه اللوحة - دون أن تترك المقابل، وجعل ينادي عليها ولكن العجوز غابت في الزحام، فلما عاد خائب الرجاء إلى لوحة الرسم الخشبية سمع من يقول :

- "لقد تغيرت كثيراً، بت تحرص على نوال المقابل..".

ورفع ناظريه فأبصر شعراً كستنائياً لم يرتب حول هوية صاحبته، وكاد يقول شيئاً لولا أنها أردفت تقول :

- "جئت كي أحظى بلوحة من إمضائك..".

وكان قد سُر بحضور الفتاة فكأنما نبذ خيبته في جمع المال، ولكنه عاد يقول :

- "لم أصل بعد للمستوى المطلوب..".

- "وما مقومات المستوى المطلوب في نظرك؟".

-"لا أعرف، هذا عين المشكلة، زرت معرضاً تشكيلياً ولكنني لم أخرج بالانطباع الذي أردته، كنت متحمساً بادئ ذي بدء، ولكن حماستي هذه سرعان ما انقلبت يأساً شاملاً مقيماً، لقد فقدت الإيمان بالرسم التشكيلي نفسه، يقولون عن بعض اللوحات بأن ما يميزها هو : تناسق الهشاشة وما شاكل،.. ولكنني أراها تثير في نفسي الاشمئزاز بحق،.. ولأجل ذلك عدت إلى الرسم الحر، ووجدت شغفي يعود في تصوير الوجوه..".

وجعل الشاب يسعل ويبثق، فكان جسده الهزيل يرتج ويتماوج، ثم وقف يسألها - حين استرد عافيته - يقول :

- "معذرة، أشعر بالإرهاق، هل كان لشعرك لون آخر؟".

وكان يستأخر السؤال المباشر وهو : "وما اسمك؟" كأنما أراد أن يطيل أمد الاحتمال إلى منتهاه، والرجاء إلى غايته، احتمال ألا يكون وأخوه واقعين في أسر محبة الفتاة عينها، ورجاء أن يكون الأمر قد التبس عليه، وقالت :

- "إنه أشقر بالأساس..".

وأردف في يأس :

- "اسمي، زهير، وأنت؟".

- "سأخبرك باسمي، حين ترسم اللوحة وتتمها بإمضاء..".

واستطاب اقتراحها إذ هو يمنحه فرصة إضافية للاستمساك بأمل أخير، هذه المرة رسمها دون القبعة فبدا ثلاث أرباع وجهها، في بيئة النهار الصبوحة، وأتم لوحته فانبرى يكتب إمضاءه بحروف عربية، أسفل اليمين : حسين 1974، وسرعان ما استرعت الأحرف انتباه الفتاة، تسأله :

- "أي لغة هذه؟".

-"العربية، أبي يقول بأننا يجب أن نكتب ونتحدث بها دائماً..".

كانت قبعة القش قد امتلأت بالفرانكات، ومضيا يتمشيان في محيط الساحة الثرية، بعد أن جمع زهير ما  في القبعة، واعتزم ألا يفقد اتصاله إلى لوح الخشب والكرسي، وألا يغادرا محيط رؤيته، ولكن حرارة الحديث جرفته فأنسته ما كان من أمر قد اعتزمه، وكان يعرض عليها أن تلبس قبعة القش بعد أن تخلع قبعتها الزرقاء، يقول :

- "كان لدي حدس بأن بها (أي قبعة القش) طابعاً أنثوياً.. (ثم وهي تلبسها فتستوي على رأسها أحسن استواء..) ألم أقل لك؟

 وحكى لها عن يوم التقى بمليحة أفنان يقول :

وقال زهير :

- "كدت أسألها عن السر وراء استقرارها في باريس، رغم أني على علم بالجواب، إنها الحرب الأهلية اللبنانية مثلما قرأت في بعض المجلات، ولكنها لم تترك لي فرصة تصنّع السؤال، أبي يحكي لي عن آلية نشوب الصراعات في الشرق الأوسط، لقد أظهرني على الأمر حين اصطحبني إلى بيت شاعر قديم (يريد كفافيس) في مدينة مصرية ساحلية، إنها منطقة من العالم منكوبة تعسة، وكأنما قدر عليها أن تعيش صراعات الماضي، ثم أن تستورد من ثقافات الآخرين ما يزيد من عمق محنتها، يقول أبي : إن جوهرها (أي الصراعات هناك) المصلحة ولكنها سرعان ما تُغلّف في رداء الدين أو الطائفة، إن معرضاً أقيم هنا لمليحة كان ينبغي له أن يُقام في لبنان، وهكذا خسرت لبنان  إنتاج المرأة وجهدها، مثلما درجت هذه البلدان على أن تخسر جل عقولها النابهة ومواهبها الألمعية..".

وكانت إيفون توافقه الرأي إذا هي لا تدري عن أحوال ما يتحدث عنه  إلا أحلام ألف ليلة وليلة التي قرأت عنها يوماً فاحتفظت بها، كما تساور الغربي الذي قرأ عن الشرق مرة فاختمرت في ذاته قناعات قشرية بسيطة عنه،.. ومضى في مسار العودة رفقة الفتاة، حتى انتهى إلى النقطة التي بدأ منها في غضون ثلث ساعة فكأنها الدقيقة العابرة مرت به أو مر بها، وكاد يسأل الفتاة عن اسمها، هذا السؤال الذي ما ينفك يطير من عقله، يستأخره لغرض في نفسه يحضه على الإطالة، ويستعيده لغرض آخر يلح عليه بالتعجيل، لولا أنه تنبه إلى اختفاء اللوح الخشبي والكرسي، فجعل يقول في غضب : "تباً، تباً ! لقد سُرِقتُ..". 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

  

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق