استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/24

مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

                                         الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة





سرت جلبة في شارع حينّا كزوبعة شديدة في فنجان، وكان لها هذا الطابع الغوغائي من الفوران الذي لا مبرر له، ثم الخفوت المباغت المتحين، ثم العودة إلى الاشتعال كأنما يتمخض الحي نفسه فيلد مسخاً قبيحاً، وخرج فؤاد كيما يتفقد هذا الحادث فكان اللغط يدور شديداً بين الواقفين الذين امتازوا بدورهم إلى فريقين، وكأنهما في معركة كلامية حادة، وقد احتشد - لأجل ذاك - جمهرة من ذوي السيوف هنا وهناك، هؤلاء الذين كانوا ولسبب ما بغير ما يستر الجزء العلوي من أجسادهم ما خلا الداخلي من الملابس، وتقدمت امرأة بدينة بدت أنها بؤرة تجمع الفريق الأول تقول :

- إني ما قصدت الفتنة ولا أردتها، ولكن ابنتي غادة قد غابت عن البيت منذ الصبيحة، وليس بوسعي أن أنزه غيبتها عن سوء الظنون..

ولم تكد تكمل قولتها حتى انبثق من حال الصمت المرهون باستكمال حديثها رجل يحمل سيفاً فيقول :

- لقد اختطفتموها لأنها كانت لتكون راهبة قبطية، أردتم غوايتها وإثنائها عن طريق الرب وسواء السبيل ! الويل لكم !

وعم الهرج كزفرات وحش أو تنين غاضب بين الفرقة الأولى، فيما تقدم من الفريق الثاني رجل قصير أحمر الوجه، يبدو للوهلة الأولى خير الواقفين من هذا الفريق، يقول :

- بربكم.. ماذا تضيف فتاة واحدة إلى الديانتين ومتبعيهما يقدرون بمئات الملايين؟ والعاقبة لصاحب المنطق السليم لا للأكثر عدداً.

وأجابه الذي في الفرقة الأخرى :

- الحقد الذي في قلوبكم لا يعرف المنطق أيهذا المأفون..

وقال ذو الوجه الأحمر كأنما ينفصل عن حزبه إلى نقطة أكثر رحابة :

- كنا مسيحين قبل الإسلام، وكان جميعنا فراعنة قبل الديانتين،.. لدينا عين الأصل، فيم الحقد وإساة الظن إذا نحن فرعين لجذع واحد؟ ولتشاركا العيش كأسرة واحدة.

وقال الآخر من الجانب الآخر للنهر، يلتقط ما يريده ويترك المغزى الرئيس للحديث :

- للمسيحية جذور أرسخ إذاً في مصر..

وانفعل الفريق الآخر وماج كأنه فحيح الأفاعي، وكأنما بدا أن الغوغاء من الفريقين يعوزهم الحس السليم جنباً إلى جنب مع افتقادهم للفطنة والإدراك الصحيح للأمور،.. وفي عين الأثناء كان فؤاد قد بدأ في تهيئة الفتاة التي التجأت إليه على وجه العجلة والقلق كيما تخرج فتأد الفتنة قبل فوارنها، وقالت له بعد أن ألقت على أصحاب السيوف بوجههم المحمومة الغاضبة نظرة :

- إنني خائفة..

وقال وهو يتجهز فيلبس عباءته في خشية تهتز لها يداه، يطمئنها وهو الخائف :

- سأكون معكِ، سأفصل بينك وبينهم..

وهبط الاثنان - فؤاد وغادة - إلى النطاق الفائر المشحون، كانا يبدوان كعنصرين ثانويين في تسللهما الخجول رغم أنهما موضوع الاجتماع كله، وكان مما لفت انتباه فؤاد رؤيتهم لمن يمسك بناصية الشارع من نهايتيه كيما يمنع العابر من عبوره مستخدماً القوة إن لزم الأمر، شأنهم شأن الدببة التي تنتظر الأسماك لدى مهبط شلال كي تأكلها، فزاد رهبة على رهبة وأخذه روع تناسى معه النطق والحديث، وتقدما إلى النطاق الصغير الفاصل بين الفريقين يلتمسان السلامة كأنما قد ألقيا بنفسيهما مكتوفين في يم يريدان ألا يبتلا، وما يزال القوم في هَيْط ومَيْط حتى قالت غادة كأنها تطرح رهبتها في رمية جسورة :

- ما أتعسكم إذ تتقاتلان وتتصارعان وحياتكما بؤس وفقر ! (ثم وهي توجه حديثها إلى فريقها..) أنسيتم قول المسيح يعظكم به : "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟".

وقال واحد من فريقها مجللاً بخجل كمن يزرع زهرة في أرض بوار :

- لقد ظهرت صاحبة المشكلة، ما وجودنا ههنا إلا عبث.. 

والتفتت الفتاة إلى الفرقة الثانية فلما نصحتهم بحديث مماثل استقته من التعاليم التي تبرز فيها الحكمة وقطوفها، استكبروا قائلين :

- لا تلزمي محدثكِ بغير ما قد ألزم نفسه به !

وعلا من جهة الفريق الآخر من يقول كأنما يريد أن يشعل النار بعد إذ اطفأها المطر أو كاد، فكان سيفه يعكس أشعة الشمس لامعاً، وكثيراً ما يحسر ذراعيه كأنما يريد أن يجتر بسيفه رأس أحدهم دون أن يقدم على شيء في الأخير :

- أخفاها صاحب العباءة لحاجة في نفس يعقوب، لقد خرجت من بيته كما تخرج الرهينة من وكر مجرم.





وقالت غادة فيما لا تزال تمسك الرهبة - التي أزادها القول الأخير - بلسان فؤاد ويده التي أرعدت فيبدو صامتاً مقطباً :

- لذت إليه لأنني أردت حياة بلا تكلفة، وكرهت التبتل ! (ثم وهي تهب أصحاب السيوف نظرة من الفرقتين) وهل يرضى رب رحيم تعبدوه عن سيوفكم المشهرة؟ وليهدأ روعكم إذا أنتم حقاً حملة خير.

وتدخلت الأم التي كان خوفها حقيقياً ولهفتها منطقية، فليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة، وقالت في عاطفة قوية :

- إن هذا يكفى اليوم،.. ولينصرف الواحد منكم إلى أشغاله فقد قُضيت حاجتي بظهور ابنتي..

وانفضوا - على إثر حديثها - متفرقين كما تفرغ المدخنة عن أدخنتها رويداً رويداً.

 

في باريس..

كان زهير قد أمضى عامه الأخير دون أن يرى أباه يوسف في باريس، وصحيح أن أمه عفاف آنسته فيما بدا له حالاً لم يتوقعه قط من الحنين إلى الرجل الذي لم يظن في نفسه الحنين إليه أبداً، بيد أن شيئاً ما افتقده الشاب ذو العينين المرهفتين من شغب الأب الذي تبين على نحو ما أنه كان خالقاً للحياة، ووفق - ابن السادسة والعشرين في خلال ما مضى من ذاك الوقت - فيما تخصص فيه من الرسم التشكيلي، فأقام من المعارض الفنية ما جعل له موطأ قدم في الساحة الفنية الفرنسية، فكأنما ثبتّ مسماراً أو اثنين في صرح طموحه، وإن لم يزل اسمه مكتوباً بخط الرصاص،.. وجعل يحدث إيفون فيتطرق - متشجعاً بما صار له من هوية فنية مستقلة - إلى بيكاسو فيحلله :

- "بيكاسو مثلاً ليس إلا بهلوان هارب ! ذلك أنه  لا يرسم ما يراه بعينيه ولكن ما تريده نفسه، إنه يحطم الشكل الخارجي الذي لا يعبر عن ذاتية الفنان، ويعود يبنيه من جديد خطوطاً ومواشير ورؤى وجرات ألوان متساوقة ومتنافرة في آن، إنه يخلق عالماً آخر حراً يخلص إليه من هذا العالم، عالماً محور التفكير فيه الفكر المجرد !".

وكانت إيفون تقول قولاً هو دون حرارة محدثها بأشواط :

- "إني لا أرى في لوحاته إلا الهزل والعبث..".

وقال لها في خيبة كمن جف في فمه الربيع، متأثراً بجوابها هذا وغيره من جوابات :

- "أراكِ تعارضينني على الدوام..".

وقالت :

- "ذكرت لكَ حقيقة شعوري إزاء ما رأيت، وإلا فهو النفاق أنطق به،.. فإذا وافق رأيي رأيك على الدوام لم تعد بكَ حاجة إليه..".

وقال :

- "إذا هذا رأيكِ في بيكاسو،.. فما عسى يكون رأيك فيَّ وفيما أرسمه؟".

وقالت :

- "إنها أفضل حالاً لأنك من ترسمها !".

منذ وقع الزواج بين الاثنين وثبت إلى الحياة نذر المشكلات، كان زهير - ولو عاش حياته كلها في باريس - عربي الأصل، وأما إيفون ففرنسية الأصل والحياة، علاوة على استخفاف الفتاة بالفن التشكيلي استخفافاً كان يحمله في مرات على السقوط من "قنة الجبل الأشم" التي يرى نفسه عندها ولي عهد أباطرة الفنون الكبار، ولقد سمع مما سمع من أبيه يوسف أن للأوروبيات حاسة شم قوية تجاه أمرين : النقود والعطور، في يوم كان يعدد له فيه الأب مناقب الزواج من امرأة عربية كأمه عفاف (دون أن يذكر له قصة الضابط تشارلي معها، والتي بدورها تناقض هذا الزعم)، ثم  ما كان ينغز ضميره (زهير) دائماً من تمتعه بمطمع أخيه الأصغر (حسين)، وقد أورثه اختمار كل أولئك العناصر نوبات من الخلاف غير الطفيف مع زوجه الجديدة، حدث أن كانت تفور وتمور في بعض أحيان، أو أن تُحتوى وتُستوعب في أحوال أُخَر،.. وقد أضيف إلى المزيج القلق عمل إيفون كأمينة إحدى المكتبات الكبيرة في باريس فكانت بوصف الشاب المحافظ لها حين أبدى اعتراضه على عملها: "ملقفاً لكل من هب ودب، ومطمعاً لمن في قلبه مرض.."، ووقع أن قالت له في أمسية ليلية :

-"هل يعيب الزهرة الجميلة أن يراها الجميع؟ إن رواد المكتبات صفوة منكبة على ما قد حضرت من أجله..".

وقال :

-"لن يعدم قوامهم الرائع من زائغ نظر أو اثنين..".

وقالت وكانت لا تفهم فرط حساسيته لتأثرها بطبيعة البيئة الأوروبية التي تولي للمرأة قياد نفسها دون وصاية :

- "وكأنني قاصر؟ لا أرى في حديثك إلا قلة ثقة بي..".

وقال في غضب وحمية :

- "أقسم بهذا الليل الجهوم أنني ما قصدت ما تحدثتِ به..".

ولم تتحمس الفتاة في خضم ما سبق من المهاترات الكلامية، والمشادات المتكررة، أن تنجب ولداً، فكانت تعمد إلى تمييع الحديث حين يعرج زهير بحديث إلى الأمر المهم، فتقول في إنشائية  :

-"يأتي الولد من عمق أعماق الحياة المستكنة الراضية مثل البذور الغامضات حين تطرح ثماراً ناضجة..".

 وكان لزهير رأي أكثر واقعية فيقول :

-"بل حين يقرر الأبوان هذا الأمر..".

وهناك تعود تقول له وكأنما تغلق عليه الدائرة :

- "إنهما يقرران هذا من عمق أعماق الحياة التي سبق أن وصفتها !".

 وأورثته هواجس الغيرة التي ملأته بالارتياب رغبة قلقة في المعرفة، تسلل ذات يوم إلى المكتبة كيما يبصر طبيعة عملها عن كثب، كانت المكتبة حافلة بالأرفف على نحو يشيع التيه في النفس يتزين سقفها بصور الملائكة، ودلف كمستعير وقارئ عادٍ ولكنه ما لبث أن استتر وترقب، وألفى المشتري الأول فكانت امرأة لها بشرة برونزية تبادلت معها (إيفون) حديثاً عابراً علت منه ضحكة متسامرة كأنها نغم ناشز في خضم ذاك المستقر من البيئة الهادئة الصامتة التي تخيم على المكان، وزلف إليها آخر فكان على "هيئة لاعبي كرة الطائرة" من الطول والفراعة، له بنطال من الجينز الرمادي، وقميص مشجر، ذو شعر معقوص كمثل ذيل الحصان، يلبس في معصمه أسورة نحاسية، يقول :

- "معذرة، كتاب قصة الحضارة The Story of Civilization، وقد حرت دون إيجاده في مكتبتكم !".

وبدا أن الكتاب من الشهرة حد أن إيفون كانت تعرف صاحبيه : ويل ديورانت وزوجه أريل ديورانت، وعجلت إلى موقعه في المكتبة الشاسعة دون بحث، وتحركت (إيفون) رفقة المستعير عن مكتبها فمضى زهير يتبعهما من وراء صروح الكتب المدرجة في الأرفف كأنها أسوار المعابد حتى استقرت الفتاة لدى الموقع الذي تعرفه فصعدت سلماً، وحتى لقد بدا أنها (إيفون) تقترب به أكثر من صورة الملائكة المطبوعين لدى هذا السقف على صورة الصفح والحب، ولكن العجيب أن هذا السلم ما لبث أن مسته يد تقول :

- "فلتهبطي، وإلا سحبته (أي السلم) !".

وهبطت الفتاة في ذهول لا حصر له ثم انتظرت حتى صعد زهير - صاحب الصوت واليد - حتى جاء للمستعير بطلبه هابطاً يقول له في ابتسامة لزجة :

- "قراءة ممتعة..".

فلما خلت لهما الساحة عاتبته الفتاة في نقمة تقول :

- "الويل لكَ، كدت أسقط من عل نتاج تصرفك الأرعن..".

 وقال :

- "أراد الأثيم أن يطلع على ما هو حقيق به الستر عن الأغراب من صورة ساقيك اللتين تلوحان من ثوبك الحاسر، كنت خير حارس لكِ وديدبان..".

وقالت في نقمة :

- "عيناك الواهنتان يخلقان لك صورة لا أصل لها هي ابنة ما في خيالك المعتل..".

- "أكان ينبغي لي الانتظار حتى يقع ما هو أنكى وأمر؟".

وتولت عنه كأنما شق عليها ما سمعته تقول :

- "وكأنك لا تفهم فارقاً بين استثارة وبين فقدان سيطرة.. هل تهرع خاطفاً ما يعرضه لك الفكهاني حين تشتهي في نفسك باقة من الموز المعلق؟".

وقال في صرامة كأنما ثارت في رأسه فورة الدم :

-"إن هذا إلا قياس فاسد، إننا لا نكشف أعراضنا لأنها ليست سلعة تُطلب وتُشترى.".

وقالت :

-"فلتكف عن استحضار مفردات الصحراء في بيئة القرن العشرين، ولتخرج من كهفك.".

ثم مضى عنها في أسف وغير وفاق. 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق