استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/04

مبادرة روجرز

                            الفصل العاشر: مبادرة روجرز





1970م

نشب في بيت مريم ونعيم نقاش بعد قبول عبد الناصر بمبادرة روجرز، قال نعيم :

- مثلما أقول دائماً : الاشتراكية بناء فكري هش كبيت عنكبوت، قبل الزعيم اليساري بمبادرة الرأسماليين في موسكو، ولا عجب،.. ألم يكن كارل ماركس نبي هذا المذهب، طائشاً عنيفاً في شبابه، فحفلت سيرته بالمخازي؟ تزوج بعشيقة شاب من الطبقة الأرسترقراطية، جيني فون التي تكبره سناً وكانوا يسمونها وللمصادفة "ملكة" الرقص، وعاش عيشة طفيلية، معدومة من المسؤولية،.. إن للماركسية نزعة وثوقية تتحدث بها في أي قضية تتصدى للحديث عنها، إنها تظن - كما ظن هيجل نفسه يوماً - أنها الفلسفة الوحيدة الحقة، وكأن في الفلسفة حق مطلق! إنها تزعم أنها قادرة على الحديث باسم الإنسان والعقل والعلم، وما كان ماركس فيلسوفاً - مثلما نوه بهذا للينين - وإنما كرس حياته لدارسة الاقتصاد السياسي، وما فلسفته إلا تعاليمه التي بشر بها، إنه يقول : لا حق لأحد فيما صنعه أو اكتسبه إن لم يمنح الآخرين فيه نصيباً مساوياً، وإنني لم أجد مبالغة أسخف من حديثه ولا أبعد من الواقع صلة،.. ستنتهي المزايدة لدى عتبة الحقيقة دائماً.

وقالت مريم :

- رويداً رويداً ! ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، لابد أن الرئيس قَبِلَ هذا مكرهاً، أليس في السياسة أخذ ورد، مناورة وتسوية؟

وقال نعيم :

- لقد قدم نفسه زعيماً لا سياسياً، المؤسف أننا انتقلنا من مربع الاشتراكية إلى الميتافزيقيا الغيبية.

وقالت :

- بت تتحدث مثل أبيك، بما يتعذر فهمه تربط المشارق بالمغارب.

- سأعتبر حديثك مجاملة، أتحدى أن يميز إنسان مشرقاً من مغرب في زمننا هذا، فضلاً عن أن يربط بين الوجهتين.

وقالت مريم :

- ألا يكفيه (أي عبد الناصر) أنه أعاد إلى نفوسنا الأمل؟ هل تقيّم مسيرة نابليون الحافلة بآخر معاركه؟ هل نكتفي في حكمنا على نابليون بصورته الأخيرة منفياً في جزيرة القديسة هيلانة، المستعمرة البريطانية، حيث أمضى هناك السنوات الست الأخيرة من حياته، ونتغافل عن عبقريته العسكرية التي سبقت نهايته المنكسرة ووثقها التاريخ؟

وقال نعيم :

- إن هذا قياس فاسد غالط، شتان بين انتصارات فرنسا على عهد نابليون، وبين الهزائم التي حاقت بنا.

ولم يعجبها حديثه فقالت :

- حسبه أنه رفع مشعل القومية العربية.

وأجاب  :

- القومية العربية فكرة هجينة أخذت من حركات التحرر الأوروبي التي استندت إلى وحدة ثقافية حقيقية، ووحدة إقليمية متقاربة، ولكني أتساءل : هل كنا في ظرف مناسب كي نتحدث عن وحدة موازية؟

وقالت :

- سأؤمن بوحدة العرب مهما أمعنت في مثل هذا الحديث، بت مؤمنة بالأمر أكثر منذ مؤتمر اللاءات الثلاثة (قمة الخرطوم) وحتى اليوم.

وقال :

- آفتنا أننا لا نجتمع إلا على الرفض، وأما حين تجيء ساعة العمل نفترق إلى ألف فرقة وفرقة.

كان نعيم يحدث نفسه فيقول :"النساء ميالات إلى الواقع العملي، بعيدات من التنظير والتعقيد، فإذا نظرّن بتن يصدرن عن العاطفة الخالصة.."، وكانت مريم تناجي نفسها بحديث مماثل :"الرجال يعتقدون في أنفسهم صلاحية التفكير وإبداء الرأي دون سواهم.. وكأنهم الحاملون المتفردون لمشعل الحضارة.."، ولكنهما جعلا يبتسمان لبعضهما فيما يشبه الرومانسية الزائفة.

كان تطور عارف في عامه الأول ملفتاً وساحراً، تدون مريم لحظاتها معه كأنما تؤرخ لطفولته :"في سن الشهرين.. رسم أول ابتسامة.. قبل أن يتم نصف عام.. أمكنه أن يسيطر على جسده وبدأ بالتقلب والجلوس وتزامن هذا مع ظهور ضرسه الأول، وقد شرع يتحدث في عامه الثاني وسمعت من يقول بالإنجليزية عن قصد التذكرة السهلة بهذا التطور : One.. walk ..Two.. talk..."،  ثمة هذا الجانب الأنثوي الذي يتوافق مع الطفولة في مساحة مشتركة مغلفة بالبراءة، وتكون، لأجله، النساء أقدر من الرجال على التواصل مع الأطفال، وسمعا من يهتف خارج السور فتفزع طيور الأشجار :

- فلتفتحا الباب.. فلتفتحا الباب !

وصمتا حيناً، وتطوع نعيم يقول :

- سأنهض كيما أجيب على السائل.

ونهض نعيم دون زوجه التي بقت لرعاية الطفل فيما كان الهتاف هادراً مستمراً، كان نعيم يقول :

- الصبر الصبر، أيها الطارق، ستعيش بين سبعين وثمانين سنة مهما كنت عجولاً..

وفتح نعيم الباب، كانت مريم قد وقفت قرب المبنى الأبيض، وألفى الخادم النوبي ذهب يقول :

- حمداً لله على وجودك..

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

ودلف الرجل الأسمر إلى داخل الفيلا البيضاء دون إذن يقول :

- سيدي، فلتخبئني هنا.

وتساءل نعيم :

- وماذا حدث؟

وانتظر دهب حتى أغلق الباب ومضى حتى غاب في البهو، هناك وقف يسترد أنفاسه فيما تقترب منه مريم ونعيم من جهتين متاقبلتين، والرجل في المنتصف، يقول :

- لقد انتقلت إلى الحياة مع سيدي بعد أن بيعت هذه الفيلا، عدت يوماً إليه ثملاً من الشراب في مساء أغبر، كان الشراب منكراً من المناكير في رؤيته المحافظة، وقال بأنه سيعاقبني بعد أن نفذ رصيد الصفح لديه، حمل عليّ حملة شديدة فبات يضربني ضرباً مبرحاً، دافعت عن نفسي إذ كنت في حالة من غياب الوعي تناسيت معها الحدود والضوابط، استهنت بإنسانيته، أصبته في عنقه،.. لقد قتلت سيدي!

 

في البحر الأحمر..

قالت أميرة لأباظة :

- الحياة هنا قلقة، العمليات ضد المدنيين والعسكريين شبه يومية، إني أروم العودة إلى الإسكندرية.

وقال الرجل :

- الزعفرانة، رأس غارب، سفاجة، القصير، كل أولئك نقاط حصينة بطول ساحل البحر الأحمر، أليس من واجب المرأة أن ترافق زوجها ولو على طريق الجمر؟!

وأجابت سؤاله بسؤال آخر :

- أليس من واجب الرجل أن يحمي زوجه ولو عرضه هذا للخسران؟

ودب الخلاف بين الزوجين مثلما تنشق الأرض الواحدة إلى شطرين، وبدا أن ما بين الاثنين من أيام الود لم يكن يتعدى قشرة، العشرة بينهما قصيرة، علاوة على أنه لم يكن ثمة من الأبناء ما يدرأ فتنة الخلاف، أو يصهر المتنابذ من الرأي بحرارة الألفة والذرية، وعقدت أميرة العزم على العودة إلى الإسكندرية فقصدت إلى حانوت أبيها، وطرقت بابه فلم يفتح لها فاتح، ودفعته فأجابها مصرعاه - كأنهما اليدان تفتحان - دون مقاومة، ودلفت منه فلم تجد في الحانوت شخصاً واحداً، حتى القفص يبدو خلواً من ببغائه الذكر، فيه لا تزال أنثى الكوكاتيل بعد أن غاب وليفها، وجلست أميرة وحيدة، موحشة النفس، وهناك وجدت كتيباً فوق هذا المكتب فيه نثيرة مراد، وما لبثت أن عرفت أنها موضوع الجُمُل فيه، وتوقفت لدى هذه العبارة توقف التأمل والتدبر كأنما سكبت في روحها الأحلام من جديد :

- "ويصدق الوعد حين تصافح العرافة عجوزاً..".

وما لبثت أن استمعت إلى وقع حذاء يطرق الأرض فساورها اضطراب تركت معه الكتيب، واهتدت إلى كونه الأب، تحفظ الفتاة وقع الحذاء المميز، ستظهره على خلافها مع أباظة، وفعلت ما انتوته فقال لها :

- الحق مع زوجك.. فلتعودي إليه.. إنه إليك في حاجة..

- حقاً؟ بهذه البساطة؟!

- لقد تركته في ظرف عصيب، من يفكر في نفسه ينتهي وحيداً.

وقالت :

- بت أرى العزلة جنة كاملة، البشر مزعجون، يفترض بالزوجين أن ينصهرا في كيان واحد ولكن الأمور لا تمضي على هذا المنوال،.. وأين كنت؟!

- كنت أبحث عن جمعة، صديق السوء الذي أوقع بمراد في شر أحابيله.

- وأين بحثت عنه؟

- حوانيت الشعر المستعار، عثرت بمن يشتري منه المخادع بضاعته بعد استقصاء وبحث، وسيمسك به البائع حين يجيئه.

- ولماذا يمسك به؟

- لقد رشوته لقاء هذا، منحته نصف المكافأة وأنتظر أن أمنحه النصف الثاني حين يجيئني بالرجل !

كان الحديث يتسرب من فم عبد الغني في بساطة لا تتناسب مع محتواه، وظلت أميرة ترمق أباها في لحظات بلغ منها الارتياب مداه كأنها تكتشف فيه وجهاً ماكراً لأول مرة، وقال وقد فطن إلى ما يدور في رأسها :

- اسمعيني، بنيتي، لقد اختلط في بلادنا الحابل بالنابل، والخاثرُ بالزُّباد، لن أكون ذئباً ظالماً، ولا أريد أن أكون غزالاً بريئاً، يجب أن أفكر في حل خارج صندوق الاعتياد، وخارج مظلة القانون، كان مراد ساعدي الأيمن، أعرف أنكِ تحبينه، لا أقول محبة العاطفة إذ أنت امرأة متزوجة الآن، ولكنها محبة الصداقة والعشرة والإقرار بالمعروف، سيرضيك أن يخرج من محبسه الظالم، ومن أي سبيل كان، (وأشار إلى الكتيب فوق هذا المكتب يقول..) أهداني كتيبه، إنه تاجر بحس فنان مرهف.

وسارعت تقول في أريحية نشوة :

- إن هذا صحيح.. صدقت في كل ما ذكرت..

جن الليل وانتشرت الأنجم كالالئ على بساط أسمر، لزمت الفتاة أباها فترة تحدثه فيها عن عادات أباظة التي خبرتها عن قرب، تأمله الذي يأخذه عنها فتقول :"يبدو شارداً، كأنه غريب عن عالمنا، يقف في أي مكان يطل على خلاء، وحتى لقد حسبت الشرفة ضرتي من طول مكوثه فيها.."، ويضحك الأب الذى بدا أن أسنانه قد انتكس بعضها وتهاوي - يضحك فكهاً، وإنهما على هذا الحال من السمر والنجوى إذ فتح  باب الحانوت في شدة فكشف عن رجل مكتف بالحبال، وآخر يسوقه إلى الداخل فيقول :

- أريد النصف الثاني من مكافأتي..

كان عبد الغني يأكل العنب النباتي فلما وقع ما وقع نهض عن مجلسه، ومكث يمضع الأخيرة التي بقت في فمه، وسرعان ما فتح خزانة هذا الدرج فأعطى الطالب ما جعله ينصرف، واقترب من الرجل المكتف - الذي أخذ يتصايح - يهمس بعد أن تحقق من هويته :" جمعة ! لقد كلفتني وكلفت مراداً كثيراً.."، وأزال ما يمنعه عن الحديث، قال جمعة :

- الإثم حزاز القلوب،.. شعرت بجريمتي دائماً ولم أنم ليلة هنيئة منذئذٍ.

وأجابه عبد الغني وهو يعود إلى صحن العنب فيبعد هاته المستوية عن البقية :

- ستشهد بالحقيقة التي تعرفها..

- فلتفك وصادي إذ أني لا أقبل بالمهانة، سأشهد بالحقيقة بغير إذلال.

وهبط عبد الغني إلى مستواه فحرره من قيده يقول في شيء من سماحة:

- فلتشهد بها طوعاً أو كرهاً، المهم أن تنقذ بها صاحبك.

وهناك نهض جمعة يستند إلى أقرب متكئ. 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

  

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا 

 

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم





 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق