استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/12

لحن حزين

                                               الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين





في أبي تيج..

عاد بكر من نزهة الترعة مسروراً باستراداد خاتمه الفضي، وخلع حذاءه فمضى على أطراف قدميه العاريتين لا يريد أن يلفت الانتباه إلى عودته، لولا أن تسنيم كانت من اليقظة حتى أنها تنبهت إليه وسألته :

- هل أعجبتك القراميط فاستمرأتها؟

ولما كان الصبي قد استبدل بها خاتمه فقد تصنع الجواب في اقتضاب :

- إنها شهية..

وقالت الأم :

- أختك تقول غير ذلك، لقد تقيأت الطعام..

واضطرب فمضى إلى حجرته كأنما لا يريد أن يستزيد، ووضع الخاتم الفضي في درج خزانته، ثم أخفاه بين الأوراق، ولحقت به الأم فلما سمعها تقول وهي تسعى إلى حجرته في ردهة البيت :"ألن تسأل عليها (بدور) ؟ لقد تلون وجهها بصفرة الإعياء، فما عادت تتحسن حالتها إلا حين أسرفتْ في الراحة.." زاد في اضطرابه، واستقبلها يقول :

- أجل! السؤال، حتماً سأسأل عليها، بالقطع سأفعل ! (ثم كالذي يلتقط طرفاً لأول أمر يخطر على باله..) أبي نوح قال لي يوماً بأن القراميط الكبيرة تتغذى على اللحوم التي تستمدها بدورها من الضفادع والقوارض، وأما الصغيرة فغذاؤها النباتات، وأذكر أن هذه التي جاء لنا بها عم إبراهيم كانت مزاجاً بين الصنفين، أجل، إنها كذلك ! ولعلي كنت محظوظاً فحظيت بذات الحجم الصغير فسلمت، وأما تسنيم فقد أكلت الأكبر منها فاعتلت..

وبدت تسنيم مرتابة حول صورة بكر القلقة لغير ما سبب، ودفوع يأتي بها فلا تطاوعه قريحته على نظم الكلمات، فنطقت كأنها المشدوهة :

- ربما.. (ولكنها عادت تقول..) ولكنني لا أفرق بينكما (أي بين الأخوين) في حجوم الطعام الذي تأكلانه..

فلما زاد حرجه صرفها الصبي المضطرب مدعياً رغبة في النوم والرقاد، ولكنها عادت تسأله وهي تدلف إلى حجرته :

- ولماذا تأخرت؟

واختلق جواباً :

- شاهدت مباراة محمد علي كلاي على مقهى القرية، لقد هزم خصمه فورمان بزائير في الجولة الثالثة بالضربة القاضية، بوووم! وطال بي المطال وأنا أصارع أوراق الأشجار في حدائق الجيران، أتمثل نظير ما قد رأيت من صنيع !

وقالت كأنما المرأة لقمت طعماً :

- إن هذا حسن،.. ولكن لا تؤذِ مخلوقاً بما تعلمت.

 

وجعل يوصد الباب بعد خروجها في تأدة يقول فيما يختفي رأسه عنها عند آخر كلمة :

- إنه فن نبيل، أمي، والنبالة هي لخدمة الحق لا الشيطان.

وانتظر ريثما يطمئن إلى انتهاء وجودها في حجرته فعاد يفتح الخزانة وينتزع من بين زحام أوراقها خاتمه، ولبسه ثم غفت عيناه فنام سهواً، ويقظ فزعاً في صبيحة الغد كأنما رأى في المنام كابوساً، وجعل يهمس :" الخاتم.. أين الخاتم؟"، واطمأن إلى وجوده في إصبعه فتنفس الصعداء، إنه يعلم علم اليقين أن تسنيم - من حيث هي تعارض سفره إلى الإسكندرية - ستحاول بيدين عابثتين أن تجعله يخسر قطعته الفضية، وستدبر للأمر كل تدبير، وأصابه شعور بالهلع وهو يعدد مكونات بيته الريفي يبحث عن مخبأ لما في يده دون أن يعثر على ملاذ آمن، يهمس :"غرفة النوم، الحوش، المضيف، الحظيرة.. إلهي! إنه فقير الخبايا على اتساع تكوينه.."، وكانت يد الأم تصل إلى كل كبيرة وصغيرة في البيت من حيث هي ترتب الأشياء جميعاً فيه وتنظفها، وقد أوتيت - في ذاك - همة دائبة نشطة،.. وانتهى إلى مخزن العلف، كان التوقيت هو الشتاء وقد جُعل المكان لتخزين الأعلاف فلا عاد يفتح طوال فترته، واطمأن إلى الموضع الذي هجرته الأرجل، وأخفاه (الخاتم) بين الأعلاف هناك ثم مضى متخفياً كما جاء، وبحث عن أمه في غرفة النوم وفي الحوش وفي الحظيرة فلما لم يجدها انتهى الى المضيف القريب من الباب الخارجي، المعزول - إلى ذاك - عن سائر الغرف، وسمع صوتاً غريباً فيه يقول :

- إنني جئت لأجل الحلال، أروم زواجاً بكِ على سنة الله ورسوله..

وحدس بكر بأنه صوت عم إبراهيم الموسوم بشيء من الضعف، وقالت الأم:

- من الخطأ أن تقصد إلى بيت امرأة وحيدة، فإذا كنت لا تخشى القيل والقال، فإنني أعاف الشبهات..

وقال :

- أين الرجال حولك فأسألهم في طلبي هذا؟ لا أب ولا أخ ولا خال.. ألا يدلك هذا على احتياجك إلى رجل؟

وأصاخ بكر السمع فتناهى إليه صوت تسنيم تقول في نبرة مضطربة لا تخلو من خوف :

- سأفكر فيما تقول حقاً، وسأرسل إليك في جوابك على الأمر، وأما الآن فلتنصرف عن ههنا رجاءً..

 

ومضى الرجل (إبراهيم) مجللاً بلون من الحزن على ما تبدى في عبارتها  من معنى هو دون انقطاع الرجاء، ولكنه عدّ مقالها ترضية عابرة تنطوي على رفض مبطن، فلما سمع بكر وقع قدميه الآتيتين سارع إلى الانصراف عن جهة الباب، وانتظر حتى فرغ البيت من الأغراب فقال لأمه التي بدا أنها قد لانت لمطلب الرجل حين خلت إلى ذاتها :

- من المحال أن أقبل برجل آخر في بيتنا بعد أبي نوح..

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وقالت :

- لم أعهد عن إبرهيم سوءًا، أنقذك من الغرق يوم هويت في نهر الترعة، ثم هو لا يفوت فرصة من فرص خطب الود إلا وأظهر حسن نواياه فيها..

وترك بكر المضيف يتقلب في ألوان الغضب، وجعلت تسنيم تنسب تصرفه في تركها وحدها إلى سوء الأدب، ولم يبال بتقريعها له وإنما قصد إلى حجرة بدور التي كانت قد برأت من إعيائها الأخير، واقترب منها يقول في صوت خفيض كأنه يهمس في أذنها :

- ستتزوج أمي بمن وهب لنا القراميط السامة، فكانت سبب علتك !

 

في باريس..

كان حسين جالساً في درس العربية مستمعاً إلى الأستاذ فتحي بنصف أذن، حين تناهى إلى أسماعه صوت سارٍ آت من السبيل، وكان النهار - بنوره الصبيح الوضاء - هادئاً حتى أن بمقدور المرء أن يستمع فيه لسقوط إبرة، وحدس حسين بأنه صوت أخيه فارتأى فيه مخرجاً لما أحس به من بؤس الاستماع إلى الرجل الذي أسهب في تفصيل درس: "أفعال الرجاء والمقاربة والشروع" إسهاباً أورثه الملل والسأم، بات الدرس الأسبوعي مفروضاً عليه من يوسف بعد أن فقد أمله في لقاء إيفون، وأمسى تعلم العربية مما يثقله ولا يجد فيه نفعاً، فتارة يدحرج القلم، وطوراً يسأل أستاذه غريب الأسئلة :

- هل نترك مسافة بعد واو العطف؟

- جميع اللغات السامية لا تفعل ذلك..

 ونهض حسين متذرعاً بالقول :

- معذرة، إن بي حاجة إلى الذهاب إلى دورة المياه..

وأعاد عبارته كرة أخرى نظراً لضعف سمع محدثه، فلما أذن له أستاذه قصد إلى شرفة منزله، واستدار عن دورة المياه إلى هناك حيث أنتوى أول ما انتوى أن يلوح لأخيه وأن يستروح فترة إلى وجوده هناك في محيط الهواء الطلق بمنأى عمن بات يجد معه الضجر وعدم الجدوى، وحدث أن لوح لأخيه فلم يجد منه استجابة، وعزا حسين الأمر بادئ ذي بدء إلى ضعف بصر زهير، ولكنه لما عاد يدقق النظر في محيطه ألفى أخاه رفقة فتاة تتبعه ما أشبهها بإيفون، كان شعرها المصبوغ قد بدد صورتها المألوفة في نفسه بعض تبديد، ولكن حسيناً - لما كان مطيل الانتباه إليها في دروس الموسيقى - لم يكن بغافل عنها اليوم، إذ هو صار ملماً بطريقة مشيتها، محيطاً بأصغر هناتها، ولفتاتها،.. كان زهير - آنئذٍ - يقول للفتاة ذات الشعر الكستنائي :

- "أضعت اللوح الخشبي والكرسي في حماقة لن أسامح نفسي عليها،.. أجل، الناس في ساحة place du tertre لطفاء وأصفياء، ولكن نقطة من الحبر تلوث نقاء كوب كامل، أبي كان يحدثني عن ضرورة التصدي لمن يروم تسميم البئر النقية، وتعكير صفو الحياة الرضية، إنهم يبدأون فرادى مستضعفين ثم ينتهون ولهم الغلبة في المجتمع، إن أبي يقول أيضاً بأن التسامح ليس مفهوماً مجرداً أو مطلقاً، فإذا نحن تسامحنا مع من لا يراعون حرمة النفس والحقوق نكون كمن يطلق النار على قدميه، ولعله يستلهم قناعته هذه من تجربة تدهور مدينته التي كان شاهداً عليها، إنه يزعم زعماً وجيهاً مفاده أن الحرية القصوى هي الحرية المطلقة منطرح منها حرية أعداد الحرية !".

 وانتهى مسارهما - زهير وفتاة ساحة place du tertre - لدى ناصية هذا السبيل، فارتأى زهير أن يبادر إلى سؤالها السؤال العسير كأنما يحرر شغفه الأسير :

- "معذرة، لم أعرف اسمك بعد كل هذا..".

وقالت :

- "اسمي إيفون..".

وهناك انقبض زهير انقباضاً كبيراً بمثل ما أسره صنف من الغموض غريب اجتاحه كأنما تذوق من لذة محرمة، كان حسين يرقب مشهد كل هذا من شرفة البيت - دون أن يسمع لتفصيل الحديث - فأورثه تأمله فيما لاح له من انسجام الاثنين شفقة على الذات، سرعان ما استحالت غضباً مكتوماً على أخيه، وعاد حسين إلى أستاذه الذي كان يضمن ما مضى من الوقت في مدة الدرس، فنهض (الأستاذ) يقول في لكنة عربية فصحى سليمة تراعي الحركات :

- لقد انتهت مدة الساعتين..

وودع حسين أستاذه غير أسيف، ثم كأنما وقع الاجتماع بين الأخوين على فوهة البركان، إذ حضر زهير فانفجر أخوه فيه يقول :

- "أتعس بالخيانة حين تأتيك من القريب !".

وقال زهير في قلق :

-"حقاً؟ لم أعرف اسمها إلا اليوم..".

-"ألم تجد غيرها في مدينة كباريس تعج بالآلاف من مثلها؟".

-"هوناً، هوناً، إنها حتى تجهل بك..".

وأصابته عبارة أخيه بألم مضاعف فاعتزل الحوار، هجر الغرفة صافقاً الباب بحنق، وارتد إلى الذاتية فكأنما سئم الشركاء، قعد حسين يومئذٍ على كرسي البيانو يعزف لحناً هو "نسم علينا الهوى.."، يعزفه في إيقاع خافت حزين، وواساه يوسف - الذي ألم بطرف مما جرى له - فقال :

- "إلهي ! أي عزف حزين تضرب به أصابعك؟ لقد انقلب اللحن البيهج كل منقلب..".

والتفت حسين إلى أبيه يقول :

-"اللحون كلها حزينة في عالم من اللامعنى..".

وقال يوسف له، وهو يربت على كتفه :

- "ستصير قوياً مع زوال الصدمة..".



 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

  

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق