استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/10

مشتت بين البلدان

                                          الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان



أبدى فؤاد ضعفاً في إدارة الأمور بحانوت رمزي بعد انتقاله إلى العيش بالعراق، كانت صورته الصغيرة غير مقنعة في نظر الجميع، رغم بلوغه الثالثة والعشرين لم يغادر تكوينه نطاق ما يدرج أن تكون عليه صورة المرء في أول مراهقته، فإذا أضفنا هندامه المبلل بالعرق دائماً (بسبب سخونة الطقس التي لم يعتد عليها هناك مع طبيعته المفرطة في التعرق)، وأسماله البالية، إلى طبيعته المشاكسة خلصنا إلى تصور ما انتهى عليه الأمر، وصارحه رمزي يقول :

-  أنت ضعيف أو غير قادر..

- إنني أحاول..

وقال رمزي :

- يرتجى الخير من المحاولة حين تلوح إرهاصات استبشار يصح أن ينبني عليها، لدي حانوت آخر بالكويت، تدفق الزبائن عليه ضعيف، إنه يناسبك، ستسافر لتعمل هناك فترة كالمتدرب..

وجلس وحيداً يلفه اليأس في موضع خارج الحانوت يحدث نفسه تحت شمس خال أنها أقرب من أي شمس أخرى عهدها في حياته :"قذفت بي أمي على صغري إلى الجحيم.. إلهي ! ياوليتاه من حياة في مدينة قائظة صيفاً وخمة شتاء مثل بغداد، وسأدفع نصف عمري الآن لقاء وقفة أمام كورنيش الإسكندرية.. تهب نسائم البحر على وجهي بالماء والملح فترطب ما يعتريني من شعور بالحرارة كالسعير.."، ولحق به رمزي يسأله :

- بم تهمس؟ العراق - كالكويت - بلاد تتطور سريعاً محلقة على جناح النفط، ستصيب مدنية بعد تأخر وتخلف، يحب أهلوها مصر والمصريين إذ هي رئة الشرق الأوسط، ومركز ثقله.

ومسح جبينه يقول :

- وكأنني تأقلمت على العيش هنا، عسير جداً على مصري أن يتأقلم في غربته في بلد آخر.

وقال :

- صدقني لولا سوريا لما عبر المصريون، ولولا العراق لانكشفت سوريا في الحرب الأخيرة، إنها بلاد واحدة تفتقر لملهم كصلاح الدين الذي غلب أوروبا كلها مرتين،  مرة بسيف القتال، ومرة بنبل الفعال..

وقال فؤاد في سأم :

- أعرف عن صلاح الدين أنه كان كردياً لا عربياً، وأن حقيقة سيرته بعيدة من صورة ما يظنه أكثر العرب عنه من المثالية.

واقترب رمزي منه يقول :

- سمعتك مرة تقول عن نيتك في ترميم مسجد (يريد مسجد العمري) في الإسكندرية، سأهبك هذه العطية كي تحقق مرادك، وستقبل بها مقابل السفر إلى الكويت..

وقال فؤاد :

- ليتني بقيت في الإسكندرية..

- ستتغير قناعتك هذه بعد بضع أعوام.

وخشى الشاب الصغير من عودة إلى الإسكندرية تجر عليه التندر من طرف صبية الحي وأهله، وقبل بعطية الرجل فخصص جزءاً منها لأبيه وأسرته بعد أن راسلته هدى في طلب المال، تقول :"أمسى أبوك خجولاً من وجوده على الكرسي ذي العجلتين بعد أن كانت قوته مضرب الأمثال، يمر بأيام عادية، وأخرى تمازجها الأحزان،.. وبتنا نقاسي وحشة في السوق الجديدة التي تنتقل تدريجياً إلى منافسة شديدة مستعرة،.. وأما رحيل أباظة فجاء كالقشة التي قصمت ظهر البعير، فإذا وقفت أميرة وقفة صامدة إزاء الفاجعة فلأنها آمنت بالقضاء وبالقدر، وعايشت من الرؤى والمنامات ما خفف عنها ألم الفقدان وغصته.."، وأوصى فؤاد بجعل الجزء الآخر من العطية لترميم مسجد العمري، ولكن الأم لم تبادر إلى تنفيذ هذا الجزء الثاني من طلبه، فاكتنزت المال اكتناز المرء لقرش أبيض ينفعه في اليوم العصيب، وجعلت تقول وقد كبر عليها أن تستدين : "ولن نمد أيدينا بالطلب إلى مراد، ولو لم يبقَ لنا من غذاء إلا كسرة الخبز الجاف..".

 

ولم يبكِ فؤاد ليلة مغادرة العراق ولا انتحبت عيناه، إذ أن شيئاً من رؤية عبد الغني قد بدأ في التحقق، أصقلت المسؤولية الشاب الصغير، أحس مع هزالة بنيانه قوة صيرته منتبه الفكر والحواس، وتولد العناد في جوارحه من واقع ما فرضه عليه التحدي الجديد، فإذا هو مشتت بين البلدان فعليه أن يعتصم بنفسه وحدها.

 

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

أمام قسم كرموز..

طفق يوسف منصور يتأهب للعودة إلى منزله، يترك مكتبه فيمضي بين ردهات القسم إلى الباب منكفئاً على ذاته، كان الرجل إذا مضى في ناحية من أنحية القسم نهض حوله الضباط من أصاغر الرتب، يترك الشارد منهم غفلته فيرتد إلى انتباه عظيم، ويزايل الكسول منهم خموله فيستحيل إلى جمرة نشاط، وتترك جماعات المثرثرين قيلها وقالها فتقف على أهبة استعداد،  كان الرجل - رغم كل ما أحيط به من المهابة التي فرضها حزمه وخبرته - واقفاً أمام باب القسم يتلو الشهادتين، إنها العادة صيرته لا يغادر مكان عمل أو محل إقامة أو مبنى نزل به إلا هامساً بما يشفع له إذا حدث وقصفت الأقدار عمره، فوقع ما لم يكن بالحسبان، كانت الظلمة شاملة - كبحر لجي - حتى أن بمقدور المرء أن يمضي على كثب من شخص آخر لا يفصله إلا بضع خطى دون أن يراه، وأما الرياح فشديدة حتى أن بوسعها أن تميل جذوع الأشجار، وطوقه رجلان فكتفه منهم واحد وكاد الثاني أن يجهز عليه، اشتد بمنصور هاتف المقاومة وسمع من يقول :" إنها فرفرة الذبيح.. هلم نقتله !"، ولكن - ولما كانت الظلمة شاملة والرياح عاتية - فقد تملص الرجل من أيدي الأول - كما يتخلص الأسير من أصفاده - حين هبت زوبعة هواء قوية، وضرب طلقاً استهدف الأول فقتله، فيما غاب عنه الثاني عن محيطه.. يومذاك أيقظ عز نوراً يقول :

- وامصيبتاه !

وحكى لها فصول الواقعة فأردف يقول :

- لن يشك إنسان في الأمر مرتين،.. حاولت عائلة أبي جريشة قتله !

وقالت :

- لا أصدق هذا، البينة على من أدعى، إنه مجرد اتهام عائم..

- الواقع أهم من الحقيقة..

- تقصد أنهم سيطردونهم مجدداً وبعد أن أعطوهم فرصة؟

- لم يكونوا جديرين بأي فرصة، الخوف الخوف أن تصل النار إلى مضاربي، كنت وسيطاً في عودتهم.

وصدق حدسه فاستدعاه يوسف منصور يسأله :

- فلتحكم أنت على من أرادوا قتلي..

وارتبك عز يقول فكأنما استوحش موقفه :

- سيظل العطف سبيلاً إلى الحكمة..

- لست حكيماً حد أن ينتهي عمري.. 

- أخفت الظلمة هوية الجانيين.

- لا يرتاب حول هوية الجانيين إلا صاحب مصلحة أو هوى أو ميل.

- قالها المسيح عليه السلام : أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم.

- سأتخلق بخلق كهذا إذا كنت نبياً.

- إني أعتذر نيابة عن سوء مسلكهم.. أعماهم الثأر وأضلهم الانتقام.

وتركه فمضى إلى النافذة يستروح نسمة ثم يعود يقول بعد أن يأذن له بالانصراف :

- شاب نبيل يدافع عن جماعة أسود، ليسوا أسوداً، كلا.. إن أمرهم أتفه من هذا، ما أشبههم إلى الميكروب يكمن ثم يعود ينشط في البيئة المواتية !

وطُردت العائلة التي عادت إلى المدينة بعد الوجيز من الزمن، وكان من حسنات ما وقع أن أحست نور الأمان في وجودها بالإسكندرية، فأخلصت فيما مالت إليه نفسها من رقص الباليه دون خوف من معترض أو خشية من مراقب، لم تعد تجد حرجاً في أن ترتدي القصير من التنانير أو أحذية بوانتpointe) ) الخفيفة، وعليه بدا أداؤها أكثر حساسية ورهافة، وانقلب حزنها على فقدان الأهل تحرراً شاملاً، فتألق فنها في بهاء الحرية ونقائها المذهل كأنما باتت ترقص على نطاق من البلور، كان عز يرقب عرضها حين لمح بين الجلوس رجل كانت له بين القعود جلسة خاصة، ونسبه من عرفه منهم إلى فئة المخرجين، فكأنما كان في عصبيته وإسرافه في التدخين شيئاً شبيهاً بما يكونون عليه في مخيلة الناس، أخذ عز يرقب الرجل - يصطفيه دون البقية من الجلوس - قبيل العرض فكان يتبع السيجار بسيجار حتى خال الشاب أن الرجل في نهمه للدخان إنما يحمل نية في الانتحار مبطنة، يخفيها في لذة عابرة، ويستقوي بها على مرار وغصة، وجعل يتحدث إلى من يجاوره حديثاً من طرف واحد، فيه من الإسهاب ما يغني عن الجواب، كان يقول :"باتت أفلام المقاولات واقعاً لا فكاك عنه، إما أن تخفض رأسك وتحني كبرياءك للحقيقة، وإما ستظل قعيد البيت بلا عمل.. أنت تقول بأن الفن هو الفن، ولكنهم يزعمون أن العدد يسبق الإتقان، وأن المتعة قبل القيمة.. وإذا كان السوق يشاركهم الرأي نفسه فماذا تصنع في مواجهة الملايين؟! يجب أن تجد لقدميك موضعاً بين آلالاف المدعين، لأن الموارد ما عادت تُساق إلى الأصلاء أو الموهبين.."، وفي هذه الأثناء أخذت نور تتمثل الوضعية الأولى : الرِجْلان مضمومان، الكعبان متلامسان، وكل ساق يلف إلى الخارج مع إبقاء القدمين متعامدين إلى الجذع، وبدأت تحرك القدمين حتى لقد شكلتا خطاً مستقيماً يوازي الكتفين، وبدا ذراعاها كأنما تمسك بكرة شاطئ، في مستوى منتصف البطن، وأما أصابعها فمتباعدة مسافة هي عشرة سنتيمترات، وأمالت اليدين قليلاً نحو الوجه فما كادت تنتقل إلى الوضعية الثانية حتى نهض الرجل فهرب سيجاره من يده يقول في انفعال فوار، أمام ذهول عز والحضور :

- إنها تماماً المناسِبة ! 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

  

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق