استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/07

زواج سري

                                     الفصل التاسع عشر: زواج سري





حاول عز طوال مدة إقامته في أطفيح أن يبذل المودة نحو عائلة عروسه الجديد، عائلة أبي جريشة، دون أن يجد في المقابل الأثر الذي يوازي محاولته أو يعادلها فكأن على قلوب أقفالها، فلما حل الصباح انتوى السفر خلسة رفقة نور إلى الإسكندرية وقد فطن إلى محاولات الأسرة إبقائه هناك حين اقترب من مجلسهم صدفة يطلب لنفسه الخبز يريد أن يأكل به الجبن القريش في صبيحة يوم عرسه، فتكشفت له نواياهم، كانوا قد جعلوا يقولون فيما بينهم :"لن نسمح للفتاة أن تعود إلى مدينة يرقصون فيها بأزياء العراة، يسمونها بألف اسم، وحقيقتها المأثومة  لا تخفى على أحد، الباليه أو المدنية أو التحرر، وأحرى بهم أن ينسبوه إلى الخلاعة وانعدام الحياء،.. لا.. لن نسمح لها بهذا فتصير البنت كالندبة الشائهة على جبين الأسرة،.. شتان ما بين الانزلاق وبين الحرية!"، وكان مما أثار خوف عز آنذاك أن لمحه منهم واحد فاقتفى أثره يسأله عن سبب مجيئه فأجابه على قلق :

- أبحث عن كسرة خبز يصح أن أغمس بها هذا الجبن القريش.

وجعل الآخر يقهقه :

- إن اسمه الجبن الأخضر، ستتعلم أسماء الأشياء هنا رويداً رويداً..

وعاد الرجل يقص على عائلته ما جاء على لسان عز من تسمية الجبن فهش القوم لذلك وبشوا، وعلى ما تقدم، تسلل عز رفقة عروسه من الدار هرباً، راكبين الحنطور في يوم ممطر، فكان يقول لها :

- أعدتهم (يريد عائلة أبي جريشة) إلى الإسكندرية، فإذا بهم ينتون حبسي في أطفيح، سمعتهم يقدرون لهذا الخبل تقديره، إلهي ! كنت لأنتحر كرباً قبل أن أبقى هنا إلى نهاية العمر، استحفظتهم ثقتي فغدروا بي !

وكانت نور تقول بينما يمضي الحنطور الهارب في طريق مندّى بالماء فتتشيع في الأجواء رطوبة :

- أما كان لنا أن نتواصل معهم فنخلص إلى حل وسط؟ انظر إلى هذا (تشير إلى طرف ثوب عرسها الأبيض وقد توسخ بطينة الأرض..)

وقال كأنما ينبذ ما يضره ويضرها :

- لا بارك الله في الحلول الوسط، إنها خسارة من وجهين، ثم هي ضعف وأذى، وإنما يجدر بالرجل أن يكون حاداً، إما مالح وإما حلو.

وجعلت تزيل أثر الطين من فستانها مستعينة بماء المطر الهابط في مشهد عجيب، ثم التفت إليه تقول مشدوهة كأنما وعت ناقصاً في تكوينه :

- أين الخاتم الفضي؟!

وقال وقد لمع شعره الناعم المشبع طبيعياً بعنصر الزنك بسقوط المطر عليه : 

- وهبته لمن دلني على موقع العرس بعد تيه..

وقالت منفعلة كأنها تندب :

- ما أتعس حظي ! منكوبة أنا بسحر لا ينفك طلسمه، أهرب من بين أهلي في صبيحة عرسي، وأتزوج بمن يهب فتى غريب خاتمه الثمين وينسى عروسه.. (ونظرت إلى ما ورائها فكانت دار العائلة قد انتهت لابتعاد المسافة تقول ..) لفظني الوطن وأهله مجدداً..

وجعل سائق الحنطور يطلب منهما الصمت بسبب ما جره طول حديثهما من إزعاج ألم به، فطفقت نور تقول هامسة وهي تهب السماء نظرة كأنما تصعّد إلى هناك :

- حقاً.. لا كرامة لنبي في وطنه..

وعاد العروسان إلى الإسكندرية ولم يبدُ أن عظيماً قد حدث أو تغير، وما خلا تحول زواجهما من زواج سري في المعمورة لا تحتل فيه قضية الإنجاب أولوية إلى زواج مشهر يهدف إلى الذرية، فالأشياء بقت على حالها دون زيادة، واستأنفت نور مواظبتها على دروس الباليه فأجادت أداءه الحركي خير إجادة، كان عز حريصاً على تشجيعها، يحضر الحفلات تؤديها غير مرة ولو كان العرض نفسه يتكرر بحذافيره، ثم يقف مصفقاً لدى كل نهاية كأنه يرى الحدث الجديد، وحتى لقد دعا أمه صابرين يوماً إلى العرض فجاءته متأخرة، وأجلسهما رجل يحمل كشافاً في موضع من الجلوس بعيد من خشبة العرض وقال :"أعرف أن تذكرتكما تجعل لكما موقعاً هناك (يشير إلى الصفوف الأولى) ولكني أخشى على العارضين من التشوش.."، وقال عز لأمه :

- هل ترين ما يدور على الخشبة؟

وقالت وهي تبصر ثيابهم البيضاء كأنها تشع بريقاً :

- أجل،.. ولكنني أخشى من أن تأثم زوجك بسبب حرمانية الرقص نفسه.

- لقد بحثت في الأمر ملياً، نرى في نقوش الأسرة الخامسة (حوالي العام 2500ق.م) نساءً يرقصن جماعات، تماماً كهذا العرض..

وجعلت صابرين تبتسم وكانت قد أهملت شعرها فلاح بياضه تحت طرحتها التي كانت تظهر مقدمة رأسها :

- كان الفراعنة يرقصون الباليه إذاً،.. لا شأن لهذا بالحلال أو الحرام.

وقال :

- الفلاح أيضاً في هذا الزمان كان إذا نضج غرسه قدم الباكورة من ثماره قرباناً للإلهة، ثم رقص تعبيراً عن الشكر لها، وعدم الكفر بإحسانها، كان الرقص في وادي النيل رمزاً للمسرة، وأما ثقافة البادية فلا ترى فيه إلا مفاتن تستثير الغرائز. 

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وقالت بينما تتابع نور التي كان رأسها يعود بشدة إلى الوراء، فيما ينفرج ساقاها حتى يصيران على خط واحد أو حتى أكثر :

- رويدك.. رويدك.. الأمر أبسط من هذا، سأضع الأمر في خانة الرشاقة والرياضة.

وانقضى العرض فحضرت نور وهنأتها الأم تهنئة أعقبتها باحتضان، وكانت صابرين لا تصدق أنها تقف قبالة زوج ابنها، كيف مضت بها عجلة الدهر على هذا النحو العجول؟ وكيف تقلبت دنياها تقلب الجنون والأعوام تقفو بعضها؟ ومضى ثلاثتهم إلى حيث الباب مشيعين بألفة عائلية يشترك فيها أكثر من جيل، يتشاجن فيها الود ويتناسج فيها الدفء، لولا أن ظهر من استوقفهم هناك فكأنما انبثق من بطن الأرض.

 

في فيلا لوران..

فتح نعيم باب الفيلا للرجل النوبي الغاضب يقول :

- أما كفاك حماقة؟ لقد أمطرت الحديقة بالحجارة، وكدت تؤذي عارفاً، لم أكن لأسامحك إذا مسه سوء.

وقال ذهب في نقمة :

- ورثتُ (يريد نفسه) الشقاء مثلما ورثت أنت الثراء !

وأدخله إلى الداخل فاحتواهما السور :

- فلتطلب شيئاً تنصرف عني بعد أن أحققه لك.

وفكر ذهب ملياً وهو يتطلع إلى نبت الجهنمية، من رتبة القرنفليات، النابت على السور قال :

- إني أروم أن أستحم في المغطس الخشبي.

كان الحمام العطري للفيلا مشتملاً على مكعب كبير من مسك، وزيت عطري، وماء ورد، وبودرة جسم معطرة، علاوة على زجاجة زيت أطفال ذات رائحة جيدة (استخدمها ذهب دون علم بماهيتها لنفسه)، وبدا الرجل (ذهب) حائراً بين أصناف الروائح والبخار التي غمرت المكان ذا الحاجز الزجاجي كطفل مفتتن بما يرى في حانوت لبيع الدمى أو الحلواء، عاد نعيم إلى أبيه طه بعد أن لبى للرجل مطلبه، استأنف طه حديثه المتعلق بالمسائل الثقافية والتاريخية عن هيباتيا السكندرية أو هيباشيا، قال :

- وأما هيباتيا ثيون الكسندروس فكانت عروس الرياضيات، وسيدة شهداء العلم التي اغتالها التطرف الديني، وكانت - على الخلاف من جل النساء اللاتي لا يجدن أنفسهن في الرياضيات النظرية - عالمة في هذا المجال، ونهايتها مسحولة في شوارع الإسكندرية على يد طائفة من المسيحيين المتطرفين مما يدمي القلب، لقد أحرقوها أمام بحر الإسكندرية الذي شهد إلى الأبد على جريمتهم، إلهي ! كأني أرى عبابه ثائراً غضوباً من هول ما اقترفوه يومئذٍ،.. والشاهد هنا : أن التاريخ يحفل بما لا حصر له من ضيقي الأفق الذين يقدر لهم أن يغلقوا الأبواب أمام منافذ الحضارة، وما بدأ في الكنيسة البيزنطية "القيصريون" لم ينتهِ إلى اليوم.

كان نعيم قد بدا مأخذواً لسماع القصة من أبيه، كأنما كان يستمع لها أول مرة، وقال :

- ولماذا قتلوها؟

- رُميت المرأة بالسحر والزندقة، والتسبب في اضطرابات دينية !
- بأي فكر كانت تدين إذاً؟

- تأثرت هيباتيا بفكر أفلوطين الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، كان يفضّل الدراسة المنطقية والرياضياتية بدلاً من المعرفة التجريبية، ويرى أن للقانون أفضلية على الطبيعة.

وكان نعيم يقول في تأثر حقيقي :

- إنه لكأس مر يشرب منه الجميع، أعتى الشياطين تتورع عن القيام بما قام به بعض المثاليين، أو مدعو المثالية، من عجب كيف يتورطون في أمور يهاب الإتيان بها العادي من الناس..

وقال طه يوافقه :

- إنها آفة من يحاول قصر الواقع لإرادة لا تنسجم مع المشيئة الطبيعية، وقهره على ما ليس فيه تبصرة، آفة ستالين، وهتلر، ومسيحيي كنيسة القيصريون (معبد سيزاريوم)، ومتطرفي كل عصر من الأعصار، إنهم يظهرون من داخل عباءة الدين أو رافلين في بذلة الأيديولوجيا السياسية أو حتى مستترين وراء قناع بعض الحركات الاجتماعية !

كان بخار الحمام يتسلل عبر فتحة في الحاجز الزجاجي الموارب، أسرف ذهب في استخدام الماء الساخن، وطفق يغني مقطعاً من أغنية أم كلثوم (التي أدتها للشاعر السوداني الهادي آدم) : "أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدِ.. يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد،.."، وسرعان ما امتلأت الحجرات المجاورة له بما يشبه شابورة الطرق الصحراوية، ونهض نعيم إلى الحمام يستحث الرجل على إنهاء استحمامه فألفاه عارياً، واستدار عنه فما لبث أن غطى ذهب وسطه بمنشفة يقول :

- لماذا لا أعمل هنا؟

- لا أثق بك أقل ثقة،.. أنسيت يوماً كاد الواحد منا يقتل فيه الآخر؟ إنني أتقي أذاك.. لماذا لا تقصد إلى عبد القدوس فتعود إلى ما كان بينكما من وفاق؟!

وانفعل ذهب حتى كادت تهوي المنشفة من وسطه يقول :

- أن أشتغل بأحقر المهن خير لي من العمل في معيته وتحت إمرته.

وحدق نعيم إلى الدخان يتسرب من هذه النافذة :

- ستقبل بالعمل خادماً هنا؟

- أجل.. ولتكن بعض أجرتي استحمامات في المغطس الخشبي !

منذ ذلك اليوم صار ذهب حارساً لفيلا لوران، أحبه نعيم فأحسن معاملته، وتولت عن الرجل الأسمر النقمة، وحتى لقد عمل جاهداً على ترميم التمثال الملائكي فكان يقف أمام صورته الجديدة - بعد الترميم -فيثبّته على هذه القاعدة، تساعده أيدي مريم ونعيم، بينما يقول :"كدت تقتلني.. واليوم أرممك وأعيدك !". 


 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

  

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق