استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/08

وصية الفراق

                                      الفصل العشرون : وصية الفراق


عادت أميرة كيما تودع أباظة في البحر الأحمر قبيل انتقاله إلى السويس،  لامست رسالته شيئاً في نفسها حملها على تناسي الجفاء القديم، وقعدا إلى سفرة مستطالة يتراص فوقها عدد من الشموع المعطرة بين صحون من السبيط وسلطة البنجر والزيتون، وقال أباظة في غير ملائمة لما تفرضه الشموع من رومانسية :

- لدي وصية إذا مت..

وجفلت من سماع قولته، وأردف كأنه لا يعي شعورها :

- فلتفرشي تربتي بالحناء والريحان..

وتركت الشوكة والسكين تقول :

- حدثتني عن استعداد جيد يجعلكم أقرب إلى النصر، كيف تتوقع الموت بعدئذٍ؟

- يحتمل أن يموت المحارب في الحالين، الهزيمة أو النصر تعني الدولة، والموت أو الحياة يعني الجنود، يسمع الناس الموتى كأرقام تُتلا ويرتبطون بالقضية التي ضحوا من أجلها، وأما الموتى فيكونون أكثر المخلصين للقضية، كشجرات البنفسج المختبئة بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبها، وإن جهلوا موقعها، يعيش الإنسان في سبيل المعنى النبيل يجده، حتى إذا عثر عليه تساوى لديه الموت والحياة.

وظل الرجل يحدثها عن خطأ الخوف من الموت، والمبالغة في وصفه كملك للأهوال، كان يأكل السبيط في شهية متوسطة فيما مكثت هي تسمعه دون طعام، يقول :

- إذا مت فلن يكون لي وجود، وإذا أنا موجود فهذا الذي يعني أني غير مائت.. فإذا كان موتي غير مقرون حتماً بوجودي فهذا يعني أنني لن أختبره قط، ومن الحمق أن أخشى ما لن أختبره أو أعايشه.

وقالت كأنما خيب ظنها ناهضة عن هاته السفرة ذات السطح الشفاف يكشف القواعد التي تقوم عليها :

- إنها فلسفة جديرة بالنظر، غير أنها لا تصلح موضوعاً للتناقش على مائدة طعام لزوجين متصالحين بعد خصام.

وتعثرت في طريقها إلى المطبخ - تروم أن تغسل يدها وهي التي لم تأكل قط - فنهض يساعدها على القيام، راودتها الكوابيس في مساء اليوم ورأت نفسها تخلع ضرساً لها، فنهضت مفزوعة الفؤاد مصببة بالعرق، يقول : "آسف بحق إذا تسبب حديثي فيما ينتابك من كوابيس.."، فلما تكرر هذا الحال احتضنها الرجل فنامت،.. ودّعته في اليوم التالي، وحين استمعت لأغنية شادية في أمسية التلفاز الغنائية تذكرت ما كان فشرعت تبكي وحيدة، وسط الشموع المنطفئة، فكأنما توافق القول:"خايفة لما تسافر على البلد الغريب.. تنسى أنك فايت في بلدك حبيب.." مع حالتها توافقاً قدرياً، وأجزلت الدموع - أمام الشاشة الصغيرة - كأنها تستزيد من معين الحزن.

 في هذه الأثناء كان مراد قد اصطحب ابنيه وأخوة نرمين الخمسة، اصطحبهم جميعاً إلى حديقة الاسبتاليا (منتزه يطل عليه مشفى جمال عبد الناصر أو كوتسكا، التاجر اليوناني الذي أشاده، وأكبر تجار الكحول آنذاك على عهد التسمية اليونانية الأصلية له في العهد الملكي) كدأبه يتردد على الحدائق العامة حين يريد أن يصفي ذهنه من شواغله، كانت الحديقة أشبه بدائرة كبيرة يحوطها سور حديدي، وعبروا إلى هناك عبر السلالم المحطمة فجعل مراد يتحقق من عبور البقية ويطمئن إلى سلامتهم، ثم قال بعد جلوسه لتهاني يحدثها عن أميرة فيما تتناثر في الأنحاء أشجار شامخة :

- ومن عجب أنها مضت (يريد أميرة)، ولأول مرة منذ عهدي بها، دون أن تلتفت إليَّ !

وجعلت تهاني ترمق الهدهد يحط على هذا العشب الذابل، تقول :

- لعلها لم ترك.

وقال :

- كلا، أبصرتها وقد لمحتني بطرف ناظريها بعد أن اصطدمت بكتفي ومضت.. سألتك في شأنها لأنك امرأة مثلها، والنساء أدرى بأحوالهن.

- لا ترهق نفسك فللنساء في الحب ألف مذهب ومذهب،.. لماذا لم نحضر إلى حديقة غيرها؟ السكون هنا عام، لا عصافير، ثمة بعض الغربان ذات النعيب أيضاً، وحتى العمران فقير، ولا خير إلا في هذا الهدهد، وبعض الأعمدة الأسمنتية ! 

وقال :

- لم أكن أعرف، لابد من تجربة يبرز منها الصالح من الطالح، وينكشف في إثرها الغث من السمين.

ولكن السكون في الحديقة استوعبه مدة، واستروح النسائم تأتيه خجلى، فامتلأ صدره بالهواء الذي زفره.. قبل أن تعلو صرخات وأنات حدس بأن مصدرها مشفى جمال عبد الناصر، ووقف الشاب يصيح في غضب أضحك تهاني وأخوتها، وحتى عابري السبيل الذين يتلصصون وراء الأسوار الحديدية فكان يضحكهم صياحه وتأنسهم وقفته :

- لماذا تصرخون؟ وتندبون؟ إنه القدر أمات ذويكم لأنهم كانوا على حظ من الغباء مثلكم.. إلهي ! أين يجد المرء الهدوء في هذه المدينة ؟!

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وجلس بعد أن نفض عن ثيابه ترابها، عائداً إلى عين المقعد المترب من جديد، وسألته تهاني التي بدت قد شبت عن طوق الطفولة :

- ألا تجد عريساً لي؟!

- إنني أفشل من يجد الحلول في هذا المضمار، تزوجت بحسنية فنرمين، والآن تتركني أميرة.

وعادت ترمق الهدهد :

- سأتزوج بالهدهد إذاً.

- لا يزال خيراً من معظم الآدميين.

وأجلس ابنه رؤوف على حجره فكان قد بلغ العاشرة من عمره، وأما فردوس فلا تزال في السابعة، يحاول مراد الموازنة بين حبه الغامر لنجليه وعطفه على أخوة نرمين، فإذا كان مصدر محبته الأول طبيعة جياشة فطر عليها كأنها البحر الجارف في ساعة مد، فقد كانت حبه الثاني مصدره المسؤولية وحدها كالنهر الرصين في سعي مستقر، ولكنه كان يخشى لتقصير منه، أو إهمال، أو حتى فضل مودة يوليها لرؤوف وفردوس، يخشى أن يغضب منه الأخوة الخمسة، فتنتهي المحبة كما ينتهي مسار النهر الرصين يحمل الجذع أو الغصن فيسلمه إلى الشلال الهابط في غير تدرج ويفضي به إلى البحيرة التحتية مهشماً منكسراً.

 

في باريس..

انغمس حسين في تعلم العربية والاستزادة من ثقافتها وفنونها بحثاً عن الأغنية المفقودة لصديقته "إيفون"، وانتظم في دروس العربية فأبدى تفاعلاً غير مسبوق حين كان يجيئه الأستاذ فتحي المغترب بسمعه الضعيف وقميصه الكاروهات يعلمه قواعد النحو والصرف والبلاغة، وما لبث أن أفلح سعيه حين استمع لأغنية "نسم علينا الهوى" صدفة في إحدى الإذاعات فوافقت عزفاً كان قد سمعه من مقام الكورد، فتعرف إلى المقطوعة الموسيقية وجعل يحفظها كما يرى الضال في الصحراء طائرة محلقة فيبذل طاقته لينبهها إليه في عمر عبورها المحدود به، وجاءته كأنها الغزال السارب فتلقفها تلقف المتحين المنتظر، ستكون بوابته المسحورة للحديث إلى إيفون.. وأحس حسين منذ يومها عطفاً نحو أبيه يوسف تجلى في اهتمامه به، جاءه يقول :

- "لقد وجدتها.. نسم علينا الهوى (ينطق الحروف ملعثمة)، أستطيع أن أن أحاكي عزفها الآن، أتشوق إلى الدرس القادم، ستكون قنبلة الحصة!".

وخفض يوسف عينيه عن إحدى الكتب الطبية التي كانت تناقش حالته، فنظر إلى نجله بعينيه الزرقاوين يقول :

- "إنها كذلك، وقد أصبت، كنت أود أن تعثر عليها متأخراً، بعد أن تكون ملماً بالعربية ومتقناً لها مثل أخيك زهير.".

- "سأواصل تعلمها (أي العربية) على أي حال، إنها صعبة جزلة، غير أنها ممتعة.".

 كان يوسف رغم إصابته بالاضطراب الوهامي قادراً على ممارسة حياته على نحو طبيعي، لاسيما هذا الجانب الاجتماعي منها، كانت إصابته مرجعها العوامل البيئية والنفسانية، الضغوط العصبية، والعزلة بعد الهجرة من دولة إلى أخرى، لقد تسبب كل أولئك في إثارة اضطراب الوهام في نفسه :

- "ماذا تقرأ؟".

سأله زهير، وأجاب يوسف وهو يقرأ شيئاً من الكتاب ثم يواصل الحديث من بناة أفكاره :

- "ينقسم اضطراب الوهام إلى أنواع خمسة : وهم العشق، وهم العظمة، وهم الخيانة، الوهم الجسدي، الوهم المختلط ! مهلاً.. مهلاً.. لكنهم لم يذكروا وهم مطاردة القطط، أصحاب الكتب يثرثون دون أن يتركوا فرصة نقد أو تفنيد لمزاعمهم، كأنه الحوار من جهة واحدة،.. كانت القطة الروسية حقيقة، رأيتها بأم عيني.. ألا تصدقني؟!".

وصمت زهير لا يريد أن يتسبب في إحراجه إذا هو جهر بالجواب بالنفي، بدا متحيراً بين قناعته وبين إشفاقه على أبيه الذي ساعده على نحو ألزمه الصمت، وطبع على رأسه قبلة ثم مضى،.. أنهى زهير درس اللغة العربية في زهوة من ينتظر درس الموسيقى الذي يعقبه، هذا المساء لم تحضر إيفون، كان بيرت تثرثر فكأنما استمع إليها زهير طوال الحصة وراء زجاج عازل، وسألها، يقطع حديثها :

- "معذرة، لماذا لم تحضر إيفون؟".

وقالت المدرسة في عصبية :

- "لقد تركت درس الموسيقى، أمها تقول بأن طريقتي لا تعجبها، إنها رخوة النفس ضعيفة الإرادة، (ثم وهي توجه حديثاً إلى البقية..) فلتسمعوني : يستطيع العادي من الناس تذوق الفن، حتى أن بمقدور أغلظ الناس قلباً وأقلهم موهبة أن يبكي لسماع عزف رقيق، ولكن المرء يحتاج إلى إرادة قاهرة لتعلم فن من الفنون والتفوق فيه، وشغف يعبد له المتعذر وغير المواتي من أصول ما تمرس عليه، أعرف أن طريقتي لا تخلو من غلظة وشدة، ولكنني أقول : ليس من هو أفضل مني في هذا الشأن..".

كان يوسف يستمع إلى حديثها وهو يقرأ عن وهم العظمة، فأنزل هذا المدون على واقع ما يسمعه فهمس يقول وهو يتطلع إلى المرأة :

- المصابون بوهم العظمة، أكثر مما نظن في حياتنا.

ونهض عن مجلسه فمضى حتى بلغ السجادة الناعمة - أشبه إلى ملمس المخمل - فنقر على كتف بيرت يقول :

- "معذرة، أشعر أننا في إصلاحية، ولسنا في درس موسيقى، أعني.. لماذا لا تكون إيفون على حق؟".

وعدّت بيرت قولته تجرأً شائناً، وطالبته (يوسف) المرأة بالانصراف عن الدرس، حتى جلسته على الأريكة الأسفنجية صارت مما يزعجها، انتقل يوسف إلى حجرة زهير الذي استقبله بوجه نحيل :

- أروم مقابلة مليحة أفنان..

هكذا أخبره الشاب عن رغبته في مقابلة الفنانة الفلسطينية بعد أن أعجب بمعرض أقيم لها في مدينة بازل بالعام الفائت، كان قد نظمه الفنان الأمريكي مارك توبي، وأردف يقول :

- إنها عربية مثلنا.



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

  

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق