استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/07

روح التمرد

                                    الفصل الثامن عشر: روح التمرد





في البحر الأحمر..

راسل أباظة امرأته أميرة في طلب عودتها إليه، فبعث إليها بخطاب نصه الآتي : " كنت حين جلست تحت نجوم هذا اليوم في البحر الأحمر  أفكر في قول أبي العلاء :

كأن نجوم الليل زرق أسنة.. بها كل من فوق التراب طعين

نجوم الليل سهام مصوبة إلى صدور البشرية منذ قدم، هكذا يصور أبو العلاء الأمر، خالعاً على الظاهرة الطبيعية (النجوم) رؤيته للحياة بالعموم، وقد أجدني وقد طالت وحدتي ودامت عزلتي بالبحر الأحمر، ثم ألبستني الجندية لباس القلق والجزع أوافقه في مذهبه ورؤيته، تحدثني نفسي بأني لم أخلق لهذا العالم، وما رجاء الغريب في دنياه سوى السلامة؟

 

ولكنني لست على حال المتوخي للسلامة، المكتفي بما في نفسه من اغترابات، بل أنني في قلب الأتون الملتهب، أرى نذر المجهول، وأعايش امتحان الموت، أهلكت الاستعدادات الحربية أعصابنا، فأمست بعد شد وجذب كقطعة القماش المهترئ، يطفئ الجنود حولي شعورهم بالخوف - يطفئونه بالعمل وبالحديث، ومن عجب أنهم (أي الجنود) يرومون في عزم غريب طرد الخبراء الروس كي يكون النصر - إن تحقق - مصرياً خالصاً، إنها روح يعجب المرء لانتشارها وسط مهزومين، بعض الجنود الذين رأوا الضفة الشرقية للقناة وعادوا إلينا، يصفونها بأنها تبدو في وعيهم بين الأبيض والأسود كأنما انتزعت منها الحياة.

 

وقد كنت انتظرت طويلاً أن تنتهي مسؤوليتي في اليمن فأهنأ بليلة سعيدة في فندق سيسيل، فأردت لي ولكِ ليلة هناك، والحق أن هذا الحلم لم يعد يراودني اليوم إلا قليلاً، حتى إذا جاءني طيفه نبذته، إنها واحدة من المناقب القليلة للحياة المتقشفة : أنها تعلمك أن تكون قنوعاً بما لديك، ترى الأشياء على كف التقلب فتزهد فيها، وتبصر النهايات وانتهاء السير فتصير أقرب إلى تمني الخلود والاكتفاء بالذات، ولما كان الخلود محالاً فكل ما عداه هو الوهم غير المقيم والسراب العابر،.. ولكي أكون منصفاً محكم الحديث فقد عرفت المبيت في سيسيل يوماً، أجل،.. رأيت تحفه القديمة، وأبصرت سقفه ذا التصاميم المذهبة، وشرفاته الشرقية، ولكنني ارتجيت يوماً المبيت في الحجرة رقم 307، إنها حجرة باتت فيها من قبل مغنيتي المفضلة يوماً، ولا ريب أنك تعرفينها معرفة لا تحتاج إلى تذكرة (يريد أم كلثوم)، غير أن يوم المبيت هذا لم يلحق بآخر من مثله، وظل هذا المنال معلقاً ولا يبدو أنه سيتحقق في القريب، كأنني الظمآن وقد لامست شفتيه الماء دون أن ترويه !  إنني أرى أن السعادة الحقة لا تكون إلا حين يحس المرء لطف القدر، فإذا لم يكن القدر كريماً بما يكفي فلتكن نفوسنا كريمة في التعامل معه، وهنا نحس سعادة مشبعة بالخلق والفضيلة..

 

مهما أمعنت في التفكير في خلافنا الأخير فإنني لا أؤطره إلا تحت عنوان السفه والصبيانية.. كان شعرك الأشقر سبباً في جدال أفضى إلى ما كان، ولو اتفق لي اليوم أن أقول بأنه (أي شعرها) كان رائقاً جميلاً.. فهل تعودين إلى البحر الأحمر وتتركين الإسكندرية؟ وقبل ذلك تتركين  روح التمرد، عزيزتي.. فلنقذف بالهراء غير آسفين، ولنهجر هذا الباطل الذي مضينا فيه ولم نوغل.

 

إنني أطلب إليك الحضور لتوديعي في البحر الأحمر، وقد أعلمت مؤخراً بأمر نقلي إلى السويس، ولعلي أكون من طلائع الجنود الذين سيحوزون شرف العبور - إن وقع - في يوم مشهود.".

 

والتاعت عاطفة أميرة حين قرأت الخطاب العاطفي، كانت ترنو إلى أنثى الكوكاتيل الوحيدة في القفص كأنما شاركتها حالتها، واستقر عزمها على السفر إلى البحر الأحمر على جناح العجلة والسرعة، أخذت تنطلق عجلى من هذا الباب فاصطدم كتفها برجل أدركت أنه مراد، ولكنها مضت دون أن تعتذر أو تعود إليه.

 

في باريس..

كان حسين قد جعل يلتزم بالعزف المقرون بقراءة النوتة الموسيقية منذ وبخته المدرسة الفرنسية وكادت تعاقبه، فلا عاد يجنح للارتكان إلى ذاكرته، شأنه في هذا شأن الجندي الملتزم بتعليمات يؤمر بها، وقد أصاب - لأجل ذاك - تفوقاً بين أقرانه، يجلس أبوه يوسف ليستمع للدرس مرتخي الأعصاب على أريكة أسفنجية فتلوح بطنه الصغيرة رغم نحالته في العموم، كانت المعلمة - واسمها بيرت - تقول لطلابها : لونا، إيفون، حسين، شيري :

- "وكما أخبرتكم غير مرة، بقدر ما كان الالتزام بالنوتة الموسيقية دقيقاً صارماً، بقدر ما تكون براعة العازف..".

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وكان يوسف يتدخل من موقعه فيقول :

- "عذراً، ألا يمحي الالتزام الشديد بالقواعد هوية العازف؟! كان أبي يقول الرأي نفسه فيما يتعلق بقارئي القرآن،.. فمنهم من يلتزمون بقواعد التجويد التزاماً حرفياً يجعل منهم كما الجميع،.. الحليات الموسيقية هي ما يعطي للحن حياته وحيويته..".

وأجابته في شيء من الامتقاع :

- "الحليات الموسيقية في عصر الباروك كانت لا تُكتب وتُترك للعازف، وفي العصر الكلاسيكي كانت أشبه بالزغردة، أريد من تلامذتي أن يركزوا على اللحن الأساسي..".

وكانت بيرت كثيراً ما تتجاهله (يوسف) فتستمر في شرحها فكأن شيئاً لم يكن، فإذا أجزلت الاهتمام له أعطته ابتسامة صفراء مصطنعة، ترى فيه شخصاً كسولاً، يهمس يوسف بعدها :"لشد ما هي عديمة اللباقة.. لأجل ذلك كان اسمها يعني الصخر والحجر.."، يضحك الطلاب من الرجل فيما ينتاب حسين لون من الإحراج، ولكن الأخير (حسين) - ولما كان يرى أباه شخصاً متطفلاً دائماً - ما يلبث أن يجتاز الأمر كما يتدارك إنسان حقيقة قدرية لا مناص عنها، ونهض يوسف كيما يغسل وجهه الناعس وكان يغالب شعوره الدائم بالتوتر بالتماس النوم، فلما طالت فترات منامه أمسى حريصاً على يقظته، يفرضها على نفسه فرضاً بعد أن وعى ما في غفلته من هروب ذاتي من ضغوطات الحياة اليومية، وعاد  إلى القوم  الذين يعزفون مبلل الوجه فألفاهم وحدهم وقد انصرفت بيرت عنهم، كانت إيفون - فتاة فرنسية شقراء على حظ من الحسن - تسأل حسيناً :

 

- "استمعت للحن عربي رائع في إذاعة فرنسية، يوماً ومنذ بضع سنوات، ولا أستطيع أن أستعيده، كان فيما أذكر لمغنية اسمها فيروز (تنطق الاسم ملعثماً)، يراودني لحن الأغنية كدودة أذن..".

ولكن حسيناً عجز عن الإتيان باسم الأغنية، كانت إيفون تعزف جزءاً صغيراً جداً من اللحن الذي تعرف أنه من مقام الكرد، في حدود بضع ثواني، ثم تنتكس محاولاتها في استدعاء البقية، تعيد الكرة منتظرة لحظة الإلهام التي لا تجيء، كأنها سيزيف في محاولاته غير المكتملة.. وانفرط شمل الجلوس فيما كان حسين يعزف وحده فور اليزا (Für Elise)، اقترب يوسف من الجالس فضغط بإصبعه على زر كانت له طبقة صوتية عالية وناشزة بددت ما للمقطوعة الرومانتيكية من طابع الريشة الخفيفة، توقف حسين عن العزف والتفت إلى يمينه، قال متبرماً : 

- "تسببت في إحراجي في درس الموسيقى، والآن تفسد عزفي..".

وقال يوسف :

- "أعرف اسم الأغنية التي طلبتها منك الفتاة الشقراء..".

وهناك اتسعت حدقتا حسين، شيق النفس لأول مرة، يقول :

- "وماذا تكون؟".

- "لو كنت عارفاً بالعربية لاستمعت إليها مرة، إنها شهيرة حتى أن أصم لابد أنه استمع إليها مرة في بلاد العرب..".

وبدا على حسين شيء من التحفز، مال أعلى جسده إلى أبيه، في حين قال يوسف في غير مبالاة :

- "أنت تحب إيفون، إنها شقراء، الشقراوات يأسرن القلوب..".

وقال حسين :

- "ماذا تريد في مقابل الأغنية؟".

وعاد إلى الأريكة الأسفنجية يضع قدماً فوق أخرى :

- "من العدل أن تتعلم العربية، وحينها ستصل بنفسك إلى الأغنية الشهيرة..".

- "إنه ابتزاز..".

وقال يوسف بعد أن يأخذ يُصفّر :

- ابتزاز باسم الحب لا يكون ابتزازاً، هل تعرف معنى الاسم إيفون؟ إنه يعني قوس القزح، ستضحي لأجل قوس القزح !". 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

  

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق