استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/21

الانتقام ممن لا ذنب له

                                    الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له





أقام بكر في بيت هدى فطفق يسألها عن هذا المجهول من سيرة الرجل الذي نزل بأرضه في أبي تيج فيما خلا من أحقاب لم يشهدها شهود الوعي والفهم، بدا الصبي نهماً شغوفاً في أسئلته، منصتاً مصغياً في متابعته، وكان يحدث أن تصل به الجلسات مدداً تخر في خلالها طاقة مجيبته (هدى) فإذا هي نائمة غافلة، وإذا بفردوس (بنت مراد) منبهة لها، وأزهرت جلساته هناك بالأنس، وعمرت بلين القول وطيبه، واختلفت موضوعاتها بين المهم والهازل، وتطرقت إلى مناقشة المهمات والسفاسف، وهذا بكر لا يزال على حاله الأول مستوعب كل أولئك استيعاب التربة العطشى ماء المطر،.. وجعلت هدى تجيب داعي الفضول في نفسه فتقول :

- جمع أبي بهاء الدين بين الحلم وبين الشدة، ولو أنه رآك اليوم لأعجب بك..

ورضي بكر بثنائها إذ هو أخذه على محمل ما من الجدية، وسألها :

- أهذا يعني أنه قد رآني طفلاً؟

- لا ريب في هذا..

- عجيب كيف لا أذكره..

وقالت هدى :

- أجل، ذاكرة الطفولة انتقائية فيما تذكره، وفيما تنساه، والأطفال لبرآة تصورهم عن الحياة مرفوع عنهم القلم..

وكانت فردوس قد حضرت اجتماعهم ومعها صينية من أكواب المغات المعد بجوز الهند وبذور السمسم والزبيب، وصحن من المشمش والسفرجل، تقول :

- ذاكرة الإنسان في العموم كذلك (أي أنها انتقائية)، وقد يَنسي امرؤ عزيزاً أو مهماً، والظلم من شيم النفوس..

كان عبد الغني يشير إلى هدى من وراء هذا الستار فنهضت المرأة تلبي مطلبه، وقال لها الرجل، في شيء من تذمر، يريد بكراً :

- أهو ضيف مقيم؟

وقالت هدى توشوشه :

- يجب ألا يرحل..

- ولمَ؟

- ستفهم كل شيء في أوانه..

وعادت هدى إلى حيث يجلس بكر وفردوس وكانا يتسامران كأنما هما صديقا السنوات الطوال، فتساءلت تقطع لغوهما :

- ألا يوجد في أبي تيج من يقلق على وجودك هنا؟ أمك مثلاً..

وقال بكر وقد انتابه شيء من الأسف حين تذكر خلافهما في آخر عهده بها :

- كلا، أحسب أنها سعيدة بزواجها الجديد..

وقالت هدى كأنما تريد أن تستدرجه  في حديث تحيط بعده بالمزيد من تفاصيل من شأنها أن تعينها على انتزاع ميراثها المفقود، فتضغط على الجرح كأنها غير القاصدة :

- غريب أن تتزوج الأرملة إذا معها صبي فطن وبنت، ثم هي جاوزت عمر الشباب إلى أواسط العمر..

وقال بكر وهو يشرب المغات فيصنع المشروب ما يشبه الشارب على شفته العلوية :

- أجل، تصورت أن محبتها لي ستحول دون مضيها في هذا السبيل، ولكنها أرادت الحماية والستر، فلم تر فيّ ما هو حقيق بأن يكفل لها هاتين، وكأنما لم تطق أن تنتظر نموي ووصولي إلى عمر الرجولة..

 وكانت فردوس تقول له :

- أي نمو؟ وأي انتظار؟ ما أنت إلا رجل..

وأردف وقد أورثه ابتعاده من أمه لوناً من الشوق إليها حمله على التماس المعاذير لها :

- ولا ألومها كل اللوم، إذ أن وصول ورثة غانم إلى كرسي العمودية دق ناموس الخطر، وقد كانت أكثر شيء حرصاً على أرضنا وحقوقنا..

وأُخذت هدى بالعبارة الأخيرة إذ هي موصولة لما كان يدور في خلدها آنئذِ بوشاج قوي متين.

 في هذه الأيام أرسلت هدى إلى رؤوف بجوابها على خطابه الأخير، فإذا كانت تسنيم على استعداد في سبيل أن تعثر على نجلها أن "تتجرد من كل متاع.."، فما أهون أن تترك من فدادينها الخمسة - التي هبطت إليها دونما استحقاق ميراث أو صلة مصاهرة - واحداً أو اثنين لمن عثر على قرة عينها !  لقد أرسلت المرأة إلى رؤوف في هذا المعنى، وانتظرت جواباً منه على أحر من الجمر.

ولم يفهم بكر السر وراء حفاوة الاستقبال التي وصلت إلى حد منعه من ترك البيت، صحيح أنه كان يفتقد من أهل الحضر مثل هذه الحرارة والإخاء والود، وحتى لقد فسره أول ما فسره على أنه كرم الضيافة الذي انتظره من أهل المدينة دائماً، بيد أنه بات يضيق به اليوم ذرعاً إذ هو يحد تطلعه غير المسقف وغير المحدود في استكشاف الحياة بالإسكندرية، حتى جاءته يوماً فردوس بفطور هو فول وبيض صعيدي وخس وزيتون أحمر، فسألها :

- لماذا تكرهون مني ترككم، وتلزمونني بيتكم؟ بت أشعر بالريبة..

وقالت فردوس، وكانت الفتاة جاهلة بما يجري حولها حقاً :

- هدى فيما عرفت امرأة طيبة، ظاهرة السريرة، وإنها لتحيطك بفضل من المحبة،.. لعلها تريد رعايتك من أخطار الخارج وأهاويل المدينة.

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وقال منفعلاً وقد بدأ بتناول الخس خلافاً للمألوف بتركه آخر الطعام :

- إنها فرية تلقناها دائماً، أعني أنا لجهلي بأحوال المدينة، وأنتِ لجهلك بطبيعة الريف، وأما من تقاطعت حياته بالبيئتين فيخلص إلى أن المكر يعرف سبيله إلى المدينة مثلما هو ينبت في الريف، وأما حدة الحياة وتنافسيتها فتجعل من الماكرين هنا - بحكم الطبائع التي تتوارث من المحيط إلى من فيه - أقل رأفة !

وجعلت فردوس تتأمله بشعره الأصهب وجسده الفارع وبما أضفى عليه حديثه الأخير من نباهة في بيئة النهار - تتأمل كل أولئك في شيء من إعجاب، وكانت حيية الطبع حتى نكست طرفها عنه موردة الخدين وقد تعلقت في فمها ابتسامة، وهناك سمعت جلبة آتية من جهة المطبخ فتركته وانتفضت، ومضت - تلبي هاتف الصوت - في ردهة طويلة مرت فيها بخزانة حَوَت على أكواب وصحون فارغتين للزينة، وصينية من الفضة في رفها العلوي اشتملت على باقة من الموز استوت منه أجزاؤه العارية فاسودت، حتى وصلت إلى حدود المكان الذي تستطيع عنده أن تسمع للحديث الدائر دونما أن يلوح منها جسد أو ظل، فكان عبد الغني يقول لهدى :

- ما أفظعه من إثم تتورطين فيه !

وقالت هدى :

- لماذا ترفع صوتك؟ هل تروم أن يُفتضح أمرنا؟

- بل قلِ : سيفتضح أمرك وحدك، ذلك أني لن أعود أشاركك في مخططك المخبول.

وقالت المرأة منفعلة فلا يعلو صوتها إلا همساً :

- الخبل أن نترك ميراثاً سخياً لمن لا يستحق، أنحن أثرياء على صورة السفه والتبذير؟

- يا ويحك.. هل تحبسين الولد في سبيل هذا؟

وقالت :

- إنه يشعر بالأنس والرضا، أثير ومحبوب، محترم الجانب،.. فلتذهب وتسأله عن أحواله.

وخفض رأسه يقول :  

- لن أسأله لأن قلبي سيرق،.. متى ينتهي ذاك الجنون؟

وقالت بينما تستدير عنه فتمضي فردوس - بالتبعية - عائدة إلى حجرة بكر ومعها باقة الموز :

- حين تصلني رسالة رؤوف مشتملة على مرادي فيها !

وكان رؤوف آنئذٍ في أبي تيج قد أخذ يمضي إلى النطاق الذي أقسم ألا يدخله بغير إِذن : حوش بيت تسنيم الكبير ذو الصخرة الهائلة، وطرق الباب هذه المرة فجاءته المرأة التي كانت تعاني وحدة هائلة فادحة بعد انفضاض نجلها فزوجها عنها، وخالت الطارق نفراً من الأهالي الذين تكرمهم فيدعون لها، ويحيون حضورها متى رأوها تمضي في الرائحة والغادية، فتشجعت أكثر بالاستجابة، وغطت رأسها بعباءة عنابية اللون، وفتحت للطارق، فلما رأته قالت (تسنيم) متأففة عبوس وقد أخذت بمخالفة ما أبصرته لما تصورته :

- فلتذهب أيهذا الفتى،.. ولن ترصد النجوم من فوق الصخرة في بيتي لأنني لن أعطيك الإذن بهذا قط.

ولكن رؤوف باغتها بالقول :

- لم أجئ من أجل النجوم،.. لقد حضرت بما هو أهم.

وساد صمت علا فيه نقيق ضفدع اختلط مع حفيف شجر، فقال :

- أعرف السبيل يصل بكِ إلى نجلك..

وأمسكت بقميصه تقول :

- إذا كنت مازحاً بي متهكماً من حاجتي إليه فسأجعلك من النادمين..

ودفع يدها عنه يقول : "ما أنا بمازح،.. ألا هل فتحت لي المندرة فعاملتني معاملة الضيوف؟"، وصحبته إلى حيث أراد تساورها هواجس النفس ثم أوصته بترك الباب مفتوحاً، وقالت في لهجة جامدة كأنها المقتبسة من دفاتر محقق يستنطق الحقيقة من متهم، ولا تخلو -  رغم ذاك - في أغوارها من ارتقاب استبشار :

- أهو بخير؟

كانت المندرة حاوية على عدة من وسائد أرضية للجلوس (شِلَت)، وطاولة واطئة الارتفاع، وبضع كراسي قعد بكر على أقربهم إلى الباب يقول :

- أجل، لقد أكرمت جدتي هدى استقباله.

- وأين عثرتم عليه؟

وقال في غير طول تفكير، كأنه قد حضّر الجواب - أو عدم الجواب بالأحرى - على سؤال توقعه سلفاً :

- إن هذا موضوع طويل الذيول، كثير الشعوب.

وأدركت تسنيم ما يكمن وراء عبارته من مناورة مقصودة تستجيب لبريق النقود، إن لجواب على هذه الأهمية ثمناً، وأي ثمن.. ولكن المرأة لم يساورها - ولو على سبيل الظن العابر وعطفاً على ما بدى لها من زهد مظهر رؤوف الذي أورثها شعوراً بقصور تطلعه - الاعتقاد في أن يكون هذا الثمن عظيماً أو ذا بال، فقالت وهي ترقب تسلل الضوء إلى هاته البسط المزخرفة المعلقة على الحائط ذات الخطوط المتداخلة المتنوعة بين الأسود والأحمر:

- فلتحدد مقابل المعلومة التي حزتها ولا تبالغ، بوسعي أن أتركك تقف على هاته (تشير إلى النافذة وتقصد صخرة الحوش)، ترى على سطحها ما أردت أن تراه من النجوم.

وارتبك من بخس العرض لعلمه بأنه دون المطلوب، واستشرافه حقيقة أن إقناعها بما لديه سيكلفه أشواطاً لم يتوقعها من التفاوض، قد يصل به وبها أو لا يصل إلى اتفاق، وقال في جدية :

- معذرة سيدتي، كلفتني جدتي بإقناعك بما هو أهم مما تعرضين من وقفة الصخرة، لقد أرادت حقها في ميراث أبيها بهاء الدين !

وزمت تسنيم على شفتيها وطفقت تغمغم :"ها قد وقع المحذور، مس الكبريت شرر النار، وقد رمى بكر بنفسه إلى وكر الذئاب في سذاجة مغامر أحمق لا يحسب لتصرفه عاقبة.."، وقالت وهي تأخذ تتظاهر بالجهل تخفي به اضطرابها الكامن :

- أي ميراث؟ وقد وهبنا الرجل وصية لا غبار عليها، لم يذكر فيها نصيباً لأبنائه العقوق من قريب أو بعيد، وأوصانا بإكرام من يجيء إلينا طالباً في غير نهم أو طمع، كانت هذه سنته وقد عضضنا عليها بالنواجذ.

وقال كأنه سمكة تتفادى طعماً واضح الخيط أريد بها أن تلتقمه :

- إن جدتي هدى ما صدَّقت الوصية لحظة ولا رفعتها إلى موضع الاعتبار،.. إنها تقول بأن صاحب الميراث كتبها تحت تأثير الخرف والشيخوخة.

وهتفت به تقول :

- ما أنتم إلا عصبة مجرمة.

وقال رؤوف وقد آلمه أن يسمع هذا الحديث :

- ألا يستحق رسول جاءك ببشرى الوصول إلى من كنت تفتقدين بعض الاحترام في دارك؟

وأوغلت فيما بدأته من الذم والقدح :

- أي رسول؟ رسول الاستغلال والحطة المغلفة في ثوب الاستحقاق؟ لقد مات جدكم وترك طغمة من الأوباش يحملون اسمه ظلماً، تقايض حوزة الأرض بحرية الولد، وتستحل الحرام دون حياء.. اذهب عن هنا ولا تعد فإن في نفسي بركان غضب عصي أن أسيطر على حدود حممه الفائرة.

ونهض عنها حين أحس الإهانة والخطر في البيت الغريب، فقال :

- فلتخبريني بما استقر عليه خاطرك حين تهدأين من سورة الانفعال غير المبرر، إن بيتي لديك معروف، فإن أنتِ ضللت عنه ميزته بلونه الأبيض وسط غيره من بيوت الطين.

وأمسكت المرأة ببندقية صيد كانت لإبراهيم مسنودة إلى الحائط ذي البسط المزخرفة، فقالت وهي تأخذ تطارده فيما يعدو الشاب هرباً منها في مساحة الحوش وما وراءه :

- سأقصده (بيته) إذا أردت أن أقصف عمرك. 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق