قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول
الفصل الحادي والعشرون: قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول
طال الوقت بمراد وأميرة دون عزم جاد على الإنجاب، ووجدت الفتاة التي كانت تبرر عكوفها عن الأمر بحوزة مراد لولدين هما فردوس ورؤوف - وجدت نفسها أمام نقمة أمها هدى التي كانت تبحث عن سبب لإسعاد زوجها الحزين بحفيد له يحمل اسمه، كان يحدث أن تسمع هدى صوت عبد الغني يهتف في ألم بعد صلاة الفجر :
- اللهم كبرت سني فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، ولتعجل بخاتمتي فإني قد سئمت الحياة..
فتقترب منه المرأة إليه تعاتبه تقول :
- إني ما رأيت امرأ على البسيطة يتمنى المصيبة تنزل به مثلك، ولا يبلغ بلاء من ذي رأي مجهوده فيهلكه..
ويقول ممسكاً بشراشيب ستارة من الكتان :
- الموت في حالتي راحة وسلام..
وحاولت أن تسري عنه تقول فيما تهبه شراباً من اللبن والتمر :
- لعلي أراك على حال أفضل، اليوم..
- سأكون أسعد حين أمسك بحفيد لي ألاعبه، الشقاء في تربية الولد، والمتعة في ملاغاة الحفيد.. أما زالت أميرة زاهدة في الأمر الذي تتشوق إليه جميع النساء؟
وأخذت تراقبه وهو يأخذ يفصل النوى عن جسم التمر، ثم أخذت تفوه بالجواب الذي تحمله :
- لقد حرت في تفسير حالتها دون جواب..
- الله وحده يعلم خائنة الأنفس وما تخفي الصدور.
وألزم عبد الغني نفسه عزلة بعيدة من أصدقائه التجار الذين كان لا يزيد رؤيتهم له إلا مرارة في نفوسهم، وإذا كان عبد الغني يرى نفسه دائماً الشيء عينه في لحظاته الجيدة والسيئة وأحواله القادرة والقاصرة فقد أزعجه أن يبصر تلك المرارة في أعينهم، وإذا سقم بدنه فقد كانت ذاته هي هي ابنة الأمس وستصير - ما دام لم يداهمها موت - إلى غد، إنهم ناظرون إلى ذاته وأسقامه وحدة واحدة، وأما هو فملازم ذاته المراقبة منذ وعى، مستهتر بالمرض العارض الغريب،.. وحمله هذا كله على اعتزالهم والانصراف عنهم إلى التنسك وقراءة القرآن، فلما أنكروا عليه تصرفه الانعزالي تذكر قول ابن علوي الحداد الذي قرأه يوماً يقول :
قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول
لو كنت تدري ما جرى.. ما كنت تنهي يا جهول
أما ترى جسمي السقيم.. قد شفه داء النحول
قل لي بمن هذا العتا.. وذا التصابي والذهول
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
ولكنه قبل بزائر وحيد : مراد يأتيه دون تكلف، فيقبل رأسه راداً إليه شيئاً من الفضل القديم، ويقول :
- علمتني أن اصطناع المعروف يقي مصارع السوء، (ثم بعد أن يروي له ما جد من أمر تجارته من استحداث بعض أدوات صناعة الأثاث..) وأن الصناعة في الكف أمان من الفقر ! لقد أحلت الحانوتين إلى ورشتين للتصنيع..
وابتسم له عبد الغني ودعا له، ثم نصح له ببعض النصائح يزيل بها هذا التحفظ بينه وبين ابنته، من بينها لعب الورق - كالشايب ونحوه - الذي يزيل دواعي الحرج. فلا تزال الأم تنقل إلى ابنتها احتياج الأب إلى مسرة وسط آلامه في تكرار وملحة حتى صارت البنت من حديثها في كلال وسأم، كالطبل الأجوف الرنان، كانت أميرة على ما بغلته من منازل الحسن ربة بيت متوسطة أو هي دون ذاك، فإذا أعدت الطعام أفسدت بعضه، وإذا عبرت عن شعورها اختزلته في أقصر العبارات التي يضيع معها المغزى والمرام، لا جزالة منها إذاً وإنما قصور، والخجل يقصف إحساسها الجزيل الوافر فيرده إلى صمت، وقد سارع مراد في محيط عائلي غير مهيأ تماماً إلى السفر إلى دمياط وتحقيق الذات، يحاكي ما يراه في شارع عبد الرحمن من صنوف الأثاث وتصاويره في ورشتي حانوتيه، حتى إذا عاد إلى بيته وجد من أميرة وجهاً فاتراً غير حقيق بعناء يلاقيه كأنه يقبض على رأس الهرم في تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات دون قاعدته، أو هو مرتكز إلى قاعدة منه مخلخلة، ومضت الأيام فاترة ضاغطة حتى جاء قبس من المسرة الخالصة، إذ وقعت خطبة بكر بفردوس - التي كان عبد الغني يعدها ورؤوف بمثابة الحفيدين - فحرصت هدى على المساهمة في إحياء ليلتها، لإسعاد زوجها الذي أناخ عليه البؤسُ بكَلْكَلِه من جانب، وتكفيراً عن خطيئتها القديمة نحو الشاب وأسرته من جانب ثانٍ.
وفي الليلة الموعودة أمسك عبد الغني بالعصا على كرسيه يقلبها بين يديه اللتين لم ينل منهما شيء من وهن الشيخوخة، وقد أحدث تصرفه بهجة الناظرين وجر عليه تندرهم، إنه ما يفتأ يشفي على أن يكون مضحكاً من المضاحيك حتى يعود بحركة بارعة ينتزع الإعجاب الحفي، وتصاعد أداؤه حتى ظن الناظرون أن براعة الرجل في تصريف العصا قد أزادها جلوسه الإجباري على كرسيه، وأُنهك الرجل فترك جمهرة المحتفلين، وولى الشارع ذا الزينة ومجسم الكعبة الكرتونية المعلقة ظهره فعاد إلى بيته وسط حفاوة خلصائه ورضاهم به، يبادلهم النظرة الراضية بأخرى واثقة ممتنة، ثم انتهى إلى شرفة البيت يشاهد مراسم الليلة من علٍ، مستنداً إلى عصاه، وقد أخذته من النوم سنة.
كان بكر آنئذٍ محمولاً على ساعدي رؤوف وسواعد أهل الحي حتى شارف على مستوى البناء الكرتوني المعلق، وأشفى شعره الأصهب على ملامسة الزينات، وأخذ يرقص حتى ظن الفتى أنه في مجال رؤية الرجل القعيد، فوهبه تحية السلام فيما يترنح جسده على المرتكز المهتز الذي هو بساط من الأيدي المضطربة، ورغم تخلف تسنيم عن الحضور فقد أحس بكر ساعتئذٍ بحرارة الأهل والعشيرة في الإسكندرية، وأقام مراد عرضاً بالببغاوات - اللاتي صار قديراً على تطبيبهم وتدريبهم بطول تجربته معهن - للأطفال، فتجاوبوا معه بالتصفيق والحفاوة البريئة الجديرة بمن لا يزال تستجد في وعيه العجائب لشحة تجاربه، ومضى معظم الحفل - حتى شق على من هم في حيزه الصوتي النوم - فاقتربت هدى من زوجها تنبهه وقد عجبت من استغراقه على جلجلة الأًصوات وصخب الطبول، فلما زلفت إليه تدهور تكوين العصا وتكوينه، وهناك عاجلتها فاجعة الفقد، فيما كانت المزامير تعبث بوقار الموت.
في موقع آخر..
أقام يوسف لنجله ليلتين احتفاليتين بمناسبة خطبته بابتهال، الأولى بكازينو لاكورتا - بتكوينه العمراني العجائبي وزواره المتواترين من شاربي الليمون - في كليوباترا، والثانية بكازينو أفلاطون في ميامي، كان يوسف على بلوغه أواخر عقد الخمسين دافق الحياة مترعاً بالحيوية - على نحو يشي بطول عمر - حتى أنه كان يحدث أن يلعب الراكيت قبيل الغروب، يعقبه بسباحة في البحر، وأقبل بنهم على ما صحبه من غذاء كالبطيخ والمسقعة، وأصابت جسده سمرة لطول جلسات استرخائه على هذا الكرسي الخشبي الذي ينفتح فيصير ككرسي الطبيب النفساني، وقد أصاب توفيقاً في لعب الكوتشينة التي تفوق فيها على زهران وحسين، وكثيراً ما كان يقف على الشاطئ الرملي الزعفراني لا يلبس إلا سروالاً قصيراً فيظهر جسده المهزول يشرح لنجله قواعد لعبة الراكيت فيقول :
- صحيح أن مثلها (أي الراكت) يُلعب على شواطئ البرازيل واليونان، ولكن المضرب غير المضرب، والكرة غير الكرة، ومن ثمة فهي وبصورتها هذه لعبة سكندرية بحتة، وتعتمد بالأساس على تهيئة الكرة للخصم لا إبعادها كالتنس أو تنس الطاولة !
وقد وقاه (يوسف) تكوينه النحيل من سيِّئ الأسقام التي تصيب من هم في مثل عمره، وشاركهم زهران اللعب بسروال قصير مماثل أظهر جسده المترهل، وكان الرجل في عزم على تشتيت الكرة، فجعل يوسف يناديه :
- الهدف هو الإبقاء عليها في الجو لأطول مدة لا طرحها أرضاً !
وجعل يحدث حسيناً :
- يملك عقلاً هو كالقفل !
ووجد يوسف كرة الراكت تضرب رأسه في شدة فيما جعل الآخر يناديه :"لقد سمعتك.."، بدا زهران ومنذ أول يوم متكلفاً في مطالبه، لم يقبل لابنته - على تحفظها - مقاماً إلا في زيزينيا، وقد ارتأى أنه قد وقع على كنز عظيم من الزهد ألا يسبي جواهره، لقد كان أحرص الجميع على إتمام الزيجة لما كان هادفاً إلى الانتفاع الشخصي منها، وقد فطن يوسف إلى الأمر فجعل يحدث نجله :
- يريد أن نرد لابنته ذهبها التي باعتها في سبيل شراء العقار الجديد، ولم ينسِ أهونه : القرط الذهبي، سيكون غني زيجة كأغنياء الحرب والثروة! لقد بحثت في الأمر وقد أمكنني أن أضع زهران على القمة من الجميع : العرب كانوا يرون المهر ثمناً للمرأة ويسمونه النافجة،.. إنه عدد من الإبل يسوقها الخاطب نحو خيمة مخطوبته ويُسمى «سياق»، وأما في العصور الوسطى بإنجلترا فالمهر كان قطيعاً من الماشية ويسمونه «صفقة».. وفي ألمانيا كانوا يسمونه «ثمن شراء زوجة»، والكلمة في الأصل عبرية من «موهار»، وفي العهد البدائي كانت الزوج ملكاً لزوجها..
وقال حسين :
- أعلم أنك تكرهه (زهران) لما كان أسبق منك في لعبة البليارد.
وقال الأب :
- صدقني، إنه لاعب راكت بائس ولا دخل لهزائمي على طاولة البليارد في الأمر.
- أعلم أن به نزعة إلى الاحتيال والاستغلال، ولكن ما شأني به؟ ألا تراني متزوجاً بابنته؟
- أحسب أن الأسرة عنقود واحد.
وابتسم حسين يقول :
- تتكلم كأنك مسؤول لأول مرة.
- ستتحدث بنبرة مسؤولة حين تصير في موقع مسؤولية، إن من ابتلاءات الحياة أن تشعر بالجنون إذا تخليت عن واجبك، كأنك غصن ذاوٍ على شجرة تكافح في سبيل الحياة، وستظن أن البشر جميعاً ينظرون إليك بعين الخذلان، ويرمقونك بالشرز، ليس البشر أنفسهم المهمون ولكن انعكاس رؤيتهم في أغوار ضميرك المهم، وقبل هذا رؤيتك لذاتك في مرآة ضميرك، وهذا الأخير من العصيّ أن تتملص منه ما دمت سوياً،.. في الحياة إما الواجب تنهض به وإما العبثية تشعر بها !
وسأله حسين وهو يهب الشارع الشعبي بفوضاه وعششه نظرة عبر نافذة :
- هل كانت مصر دائماً على هذه الصورة؟ سمعت اليوم على مقهى المعاشات من يبارك عهد الاحتلال الإنجليزي، حسبت الأمر مفارقة لا نظير لها بين الشعوب.
وشغل السؤال يوسف حقاً فأجاب بعد صمت وتدبر، وكان جوابه يمثل تغيراً كبيراً في حكمه على الأمور :
- من أراد أن يضع وشاحاً طوباوياً مثالياً على فترة تاريخية بعينها فليضع، وأما أنا فأقول : من يزعم أننا صدرنا الصيحات (الموضات) في العهد الملكي إلى باريس، أو منحنا الديون إبان الحكم العلوي إلى إنجلترا واهم، إنه يتجاهل واقعاً من الفقر العام والاستئثار غير المنطقي بالثروة، مصر إبان الملكية كانت بلداً نامياً محتلاً بلا جعجعة سياسية أو زحام خانق، بشوارع نظيفة وأقليات متجانسة، وأمل في اللحاق بالحضارة الغربية المهيمنة التي هي في تقديري «الحضارة الوحيدة المعاصرة وسط ثقافات أخرى»، أجل، عهدته مجتمعاً يتحرك بخطى حثيثة نحو مستقبل وادع، ودون مغامرات غير محسوبة المآلات كانت الأمور أفضل وأهدأ، مبشرة بمزيد من التقدم الذي ينبت في أجواء الاستقرار الطبيعي،... ومن أسف أن الكثرة التهمت كل جميل قيم، قفز عدد السكان في متوالية متسارعة ولا يزال، من أراد أن يعيد عجلة التاريخ فليعشِ في أسى المستحيل إلى آخر العمر، إن ما حدث قد حدث، والبكاء على الأطلال في أهمية العدم !
وصمت يوسف الذي كان حديثه موافقاً لما كان في نفس حسين في انحياز تأكيدي، ثم استأنف كأنما أفرغ ما في جعبته في موضوع فانتقل إلى غيره يقول :
- سيجيء أخوك زهير اليوم كي يزوك، لقد تأثر برسالتك الأخيرة !
وحضر زهير ومعه عدد من مجلة فرنسية جديدة وفيها موضوع عن لوحته زهرة الجلنار، وجعل يقول :
- إني مشارك في هاته المجلة الجديدة التي ستكون أهم مجلة فنية فرنسية بعد مجلة «كراسات الفن» !
وبارك يوسف صنيع نجله الأكبر، فيما تعانق الأخوان المتخاصمان في حضور الأم التي حرصت على أن تزيل الباقي من رواسب الماضي (حرصت على أن يقبل كل أخ أخيه)، ولكن زهيراً تجهم حين سمع عن خطبة أخيه بابتهال، وجعل يردد :
- فلتعتزل النساء، إن هذا خير لكَ وللمستقبل !
وقال حسين يقرأ ما في نفس أخيه :
- إني لأقطع لكَ بأن ابتهال ليست إيفون !
- ما من امرأة واحدة خالية من طِمَاح ورغبة في الترقي الدائم (hypergamy) !
وتأثر حسين حقاً بحديث أخيه وقد أزادت محاذيره ناراً على شعوره بتوظيف زهران الزيجة لغرض في نفسه ومغالاته فيها، فارتآه طامحاً بأنفه على نحو كره إليه تلبية مطالبه، وتأخر الزواج طويلاً حتى عشعشت العناكيب في شقة زيزينيا التي أريد لها احتواء عروسين فإذا هي خاوية، موصدة شرفتها المطلة على قصر الصفا، وباد الألق في غمرة الانتظار كالغذاء تمر عليه الأيام، حتى وقع أن جاء داوود - نجل زهران - إلى حسين يقول :