استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/19

الثالاسوفوبيا

                                                            الفصل الثالث والأربعون: 

الثالاسوفوبيا



وطد زهير علاقته بإيفون عبر توثيق زواجه بها في باريس، أعلم حسين بالأمر في الإسكندرية فأزاد في كدره وانطوائه كالجرح المندمل تصيبه الضربة فيجتمع على صاحبها ألمان، وبدا أن عزلة المسافة والمجتمع التي أريد بها تجديد طاقته لم تؤتِ كل ثمارها،.. ذلك اليوم صحبه يوسف إلى البحر فمضى به على طول هذا الكورنيش (كان حسين عارفاً بالأصل الفرنسي للمفردة "كورنيش" corniche ويعني الطريق الواقع على حافة الجبل، خاصة الذي يمتد على طول الساحل، فلم يجد غرابة في نطق واستيعاب المفردة - التي هي دخيل إلى العربية من الفرنسية - وإن اختلفت دلالتها العربية قليلاً)، وحاذى الرجلان إلى هذا السور لدى نقطة متوسطة من امتداده، فيما قال يوسف :

- لقد تخلصت من رهاب البحر في اليوم الذي تحديت فيه خوفك منه..

وأجابه حسين موافقاً وهو يتقي أشعة الشمس المنعكسة على صفحته المتماوجة :

- أجل لم يكن "للثالاسوفوبيا" وجود إلا في رأسي..

- كذلك الحب..

وقال حسين متأثراً بمشهد البحر كأنما يستخلص عبرة من محنة :

-  أجل، لا أدري كيف تورطت في الأمر على هذه السذاجة فما عاد بمقدوري أن أتنكب عن سبيله، ظننت بأنني من الأكياس، وتبين لي أنني كنت المساق بلا وعي، أجل، بلا أهون تمييز ولا تمحيص، كالثور تسثيره القماشة الحمراء في حلبة،.. واليوم ما عدت أرى الأمر إلا وهماً وزيفاً، إن طلب الحب ينطوي على نرجسية في نفس الطالب، وإذا لفظت نرجسيتك لفظته معها وتخلصت منه، وإذا أنت ركزت طاقتك على البذل أمكنك أن تتحسس الحب من موقع المانح لا الطالب، ودون أن يجن جنونك بانتظار المقابل أو الجزاء..

وقال يوسف كأنما يباركه في صوت متلألئ بالإلهام :

- لقد برأت من علتين، لا من واحدة، ألا نعم ما طرأ عليك من تبديل!

كان الصياد يمضي أسفل سور الكورنيش حذو البحر، فناداه يوسف في نشوة سرور - كالفوران - يقول :

- معذرة، هلا أمكنك أن..

ولكن الرجل مضى دون أن يكترث كالسائر على صراط لا يحيد عنه يمنة أو يسرى، فقذفه يوسف بحصوة أصابت رأسه وهناك التفت إليه يقول بعد أن استشف صورته الثرية :

- ماذا دهاك أيها الأحمق؟

ونادى عليه يوسف وهو يقترب من موقعه :

- من أي بلد أنت؟

- لن أجيبك، إلا إذا أنت اعتذرت..

- إني لمعتذر..

- جئت من بلطيم بكفر الشيخ، تعلمت من أبي غزل الشِّبَاك، ومارست المهنة قبل أن يكون للأفندي (يريد حسيناً)  وعي أو يخط له شارب..

وهبط يوسف برأسه حتى كاد منديله المطبق يسقط من جيب بذلته :

- أريد صنارتك.. سأدفع لك مرادك فيها..

ووهبه يوسف طلبه فقال الآخر وهو يمضي متخففاً :"حلال عليك.. أيهذا الأفندي، المأفون.."، تلقف يوسف الصنارة الخيزرانية،  وقضى يوماً يصطاد فيه رفقة حسين فلم يحالفهما التوفيق، ولكن الفشل أوقد جذوة الشغف في نفس الابن وأضرم لذة المكسب في خضم الصبر، فكان يحدث أن يذهب حسين وحيداً إلى الميناء الشرقي ومعه شبكته عن قصد أن يصطاد سمك البطاطا (السيجان) والدنيس، وعمرت شبكته بالصنفين ذات نهار، هنالك أتته امرأة تسعى إليه، فعجب لصورتها ذات الملاءة اللف والبرقع والخلخال، ووجد في لباسها تكلفاً لم يعهده في البيئة الأوروبية التي قضى فيها أكثر حياته، كانت تحدث أخاها الأسمر الهزيل - كأنما شفه داء النحول - الذي يرتدي قبعة أشبه إلى طربوش واطئ الارتفاع بلا حزمة تقول :

- لن يصدّقنا قط، ولن يهبنا مما أفاء الله عليه..

وكان أخوها الأسمر يقول قولاً كالغمغمة العالية :

- ستزعمين أن أبانا شيخ على حال علة ومرض لا يستطيع معهما العمل أبداً، صحيح أنه يعمل ويأتي بالمال الذي لا يكفينا ولكنني سندعي عجزه التام كيما نستدر مزيداً من العطف، سأذب عنك الكذب في هذا، وأدفع عنك الشبهة في غيره، تقدمي نحو الأفندي، سأبكي له تضرعاً إذا هو امتنع أو استكبر..

والتفتت المرأة إلى حسين الذي بدا أنه كان قد جعل يتابع نقاشهما في فترة انشغال الاثنين عنه، فقال وهو يهب لها كل ما اصطاده في ابتسامة :

- هاك الشبكة وما فيها..

وطار الأخ الأسمر - واسمه أنور - بالفرح حتى هوت قبعته فجعل يتلقفها من أديم الأرض بعد أن يمسح ما علق بها من رمل، فكأنما وجد رياً لظمئه وحاجته أورثه الخفة وأفقده الاعتدال، فملأ المرح أعطافه.. فيما تلقفت المرأة عطية أسماك البطاطا والدنيس في غير اكتمال وعي، فلما تم لها الحضور والاستيعاب، مضت وراء حسين الذي طفق يسير، تهتف به :

- هل أنت ثري إلى ذاك الحد؟

والتفت إليها نصف التفاتة يسألها في غير كثير اهتمام :

- أي حد؟

- حد التفريط في صيد يوم كامل.

وقال وهو يبصر طيات ثوبها المتدلي خافضاً ناظريه، إذ أن وجهها يقع في نطاق الشمس الذي لا يطيقه :

- إنها هواية فوق أن تكون مهنة..

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

ولم يزل هو بموقف الرزانة، حتى طلبت منه أن يصحبها إلى بيت أبيها القريب من البحر فتقيم له العشاء عرفاناً بالجميل، وأمكنه أن يميز صورتها في أثناء سيرهما بالنطاق الظليل فألفاها فاتنة شعبية، يزيدها الخوف والشحوب حسناً بهياً، وعرف - مما عرف عنها - أن اسمها ابتهال، ولكنه ضجر بالحب منذ هجر باريس فعكف عن مماهة نفسه، وصحبته إلى بيت شائخ الجدران مقشر الطلاء بسبب من رطوبة البحر الذي يدانيه، فلما ولج من بابه الخشبي المنخور - كأنما عالجته صنفرة - أبصر أباها مرتدياً صداراً صوفياً، وقلنسوة قطنية، تشيع على وجهه بعض آثار الحروق، يشوي أكواز الذرة ويقلبها على وجه النار المضرمة، وحيَّاه حسين في حفاوة، وكان لسانه لا يزال غير ملم على الدقة بمخارج العربية، يقول :

- ألا ترحب بي في دارك؟!

 ولم يبدُ أن الأب قد احتفى بالضيف الغريب وإنما أعاره نظرة فاحصة ثم عاد يقلب الذرة على جانبه الذي لم يمسه النار، فبادرت ابتهال تقول :

- لقد جاء بعشاء اليوم، وغداء الغد..

وهنالك قال الرجل ذو القلنسوة، في شيء من رضا :

- أهلاً بالأفندي.. (ثم وهو يتفرع إلى حديث آخر حين تتقشر طبقة السقف بفعل الهواء الآتي من جهة البحر وتهبط فتثير هواجس الحضور..) إلهي ! لدينا مشكلة في رخصة هذا البيت، الحي يروم أن يهدم سكنانا ههنا، الويل لهم ! يقولون بأن أحداً لا يملك الحق كي يحجب عن العبور رؤية البحر، وكأن بيتاً صغيراً، هزيل العمران، على هذه الصورة بمقدوره أن يقف حائلاً أمام رؤية بحر عظيم ! الويل لهم !

وأخرجت ابتهال - فيما كان الأب لا يزال يغمغم كأنه لم يفارق نطاق النقمة التي دأب عليها رغم ما استحدث في البيت من نعمة حقيقة بالحمد، يغمغم : "حقاً صدق من قال : الكعكة في يد اليتيم عجبة.." - أقول أخرجت المرأة في خلال ذلك كله سمك البطاطا من شباك الصيد بتكوينه البيضاوي، ولونه الرمادي، وخطوطه الصفراء على جوانبه، وأصابتها أشواكه الظاهرية القوية فتألمت ونزفت من جرح بسيط هين لدى أَنْمَلة سبابتها، وهناك وهب لها حسين منديله الأحمر من لدن جيب بذلته البيضاء، فقالت معتذرة :

- الشكر لك، إن أمره دون ما يستحق القلق..

وتدخل الأب الذي لم يعجب بتصرفها يقول :

- إلام تتشرطين وتزهدين؟ معذرة، أيها الأفندي، لقد جاءها من العرسان ما يكفي رهطاً من النساء لا واحدة منهن، ولو قُدر لهم (أي الطالبين من خاطبي ودها) أن يصطفوا صفاً واحداً فما كنت ترى نهايتهم، لست أول المعجبين بها، ولكنها تبحث عن حسين فهمي آخر لن يطرق أبوابها قط، ولن تجده أبداً..

وقالت له غاضبة فتمضي حتى تترك البيت، كالمهرولة، يعلو صوت خلخالها :

- كفى ما قلت..

وفي مساء هذا اليوم كانت ابتهال قد جهزت عشاء البطاطا والدنيس، وجلس الثلاثة : أنور وابتهال وحسين يأكلون نعمة البحر، وصنيعة الشواء، وقالت ابتهال لأخيها تريد أن تصرفه :

- لقد اتسخت قبعتك ويداك بالرمل، فلتذهب وتغسلهما قبل أن تأكل.

وقصد أنور إلى البحر المظلم غضوباً متذمراً، وطفق الاثنان - حسين وابتهال - يأكلان، سألها حسين عن انطباعها عن سمك الدنيس، وقالت وهي تأخذ تمطق كالجوعانة لا تخفي نهمها :

- إنه أشهى من سمك البطاطا، علاوة على أنه لا يجرح..

 وابتسم حسين وكان قد أضيف إلى غرائب ما رآه يومذاك رؤيتها وهي تأكل، فقالت وهي ترقب أخاها الذي كان يغسل قبعته :

- لقد كذب أبي حين ادعى أنني رفضت من الأزواج ما يكفي رهطاً من النساء، لا صحة لزعمه من قريب أو بعيد، أراد أن يحبب إليك الأمر - كأنني السلعة تكتسب جزءاً من قيمتها بالسوق لكثرة طالبيها - حين استشعر ما قد يجلبه له الأمر من منافع، وما قد يدرء عنه من شرور، إن أبي يطالبني بالتجمل وبالزينة ولكنني أكره أن أبدو على غير طبيعتي..

كانت قبعة أنور قد هربت من يده فجعل الصبي يطاردها مبتعداً، وقال حسين مأخوذا بما سمع :

- أثمن لك صدقك..

وتركت ما بقى من طعامها، وكان في فمها بقايا من الدنيس المشوي لم تمضغها بعد، تقول :

- ما قيمة الصدق في عالم زائف؟ سينهار المبنى على رؤوسنا إذا نحن لم نحسن التصرف، وندبر الأمر، فإذا لم تأتِ عليه أيدي التهالك الطبيعي عاجلته إرادة المسوؤلين بالحي..

وشرع الأب يظهر ومعه صحن من الترمس والذرة كبير، فنهض حسين من فوره يريد أن يترك استلقاءه على رمل البحر، وقد أورثه تصرف الأب وطريقته الملتوية نفوراً منه، كالمرء يُلدغ من إنسان فيتقيه في منافعه ومضاره، ولا يكاد يحتمل ما يُحمد منه وما يُعاب، وواصل الأب يقول لحسين كأنما يشيعه قبل انصرافه الطارئ :

- اسمي زهران الحسيني، وعائلتنا بالإسكندرية أشهر من النار على العلم، والمثل يقول لا تمنحني سمكة ولكن علمني الصيد، فلتأتي إلينا، ولتزورنا مرة في كل سنة..

وجعل زهران ينشد أغنية كارم محمود "زوروني كل سنة مرة.." وهو يطالع رحيل الشاب فاختفاءه، فيما اقتربت منه ابتهال - حين خلا المجال من حسين - تقول :

- يا ويحك.. لقد ترك الشاب الطعام الذي جاء لنا به دون أن يأكل منه إلا أقل القليل،.. إلام تفسد الأمور؟

وقال زهران قولاً باغتها، إذ عنى أن الرجل كان يتنصت عليها :

- ما كان له أن يغضب لو لم تفصحي له عن الحقيقة..

ومكث المتخاصمان على حال القطيعة واللاثقة، فالأولى ترى أباها حبب إلي الغريب "سلعتها"، والثاني يرى ابنته أخطأت في فضح الأمر الذي أريد به المصلحة ولو أنه - فرضاً وتنزلاً - قد جافاه فيه الرجحان، وجانبه الصواب،.. وعاد حسين إلى أبيه يوسف فسأله في شيء من سرور إذ أن تأخر نجله يعني ظهور الأمارات الأولى على بداية تأقلمه في حياة المدينة واندامجه فيها :

- أين كنت؟

ولم يجبه حسين إذ هو شارد فلما أعاد الأب عين السؤال أخذته انفعالة كأنما كان يستمع - قبل الآن - لسؤاله في لاوعيه، يرجؤه حتى حين، لانشغال خاطره بما هو أولى، فلما ألح عليه الأب استعجل خروجه إلى الوعي وقفز به على موضوع انشغاله الرئيس، وقال حسين منزعجاً منفعلاً :

- اليوم عرفت لماذا قال تشرشل عن السياسيين العرب : شرقيون يعشقون الثرثرة والنصب.

وأخفض يوسف نظارته كيما يبصره في النطاق البعيد وكان منشغلاً بقراءة كتاب The Interpretation of Dreams لـ Sigmund Freud فيضيف الملاحظات على هوامشه، وتساءل :

- ما خطبك؟

- رأيت أسرة زهران في بيتها الشائخ قرب الميناء، وكبيرها أراد أن يحبب إليَّ الزواج بابنته من سبيل الثرثرة والنصب، إنها ليست آفة السياسين وحدهم هنا.

وسأله يوسف سؤالاً لم يجب عليه الابن الذي مضى إلى حجرته بعد ابتسامة :

- وهل ابتهال جميلة؟

ومضت بأسرة زهران أيام نَحِسات بعد زيارة حسين لهم، فأسماك البطاطا - المصدر الرئيس لرزق الأسرة - راح ينضب خيرها ما بعد الفترة من إبريل إلى أغسطس، ونية مسؤولي الحي في هدم المسكن المخالف لا تنفك تنذر بالتصادم الحتمي، والخسران الجسيم.. 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

  

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق