استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/11

يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول

                                             الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول



كتبت هدى إلى فؤاد - المنتقل حديثاً إلى الحياة بالكويت - رسالة تقول فيها : "لعله يكون من سوء الطالع أن يُجبر المرء على أن يترك بلاده كي يبحث عن قوت يومه، ولاعجب فلا كرامة لنبي في وطنه،.. وإذا كنت تقع مني موقع البنوة فإنني أشعر بما تشعر به، يؤلمني شتاتك، ويحز في نفسي هوانك، فلا أوصيك في اغترابك إلا بالصبر والجلد.

 

وأما ترميم مسجد العمري فأخبرك بأني قد مضيت في هذا السعي، وأخلصت في ذاك القصد، بعد فترة من الإرجاء،.. لولا أن جيران المسجد يعارضون التجديد، فوقف نفر منهم - كالعقبة الكأداء - في وجه دعاة الترميم، ومنهم من يملك حانوتاً صغيراً يبيع فيه قطع غيار للسيارات، ومنهم من قال :

- لا نريد أن يتحول المسجد إلى ملتقى للجنائز، ومجتمع لجمهرة الوافدين والخارجين، الزبائن تنفر من الزحام، وسنخسر بالتبعية إذا حدث وجُددت هيئته.

وحاولت إقناعهم متذرعة ببضع آيات من سورة النور، وقد رأيت أنها تناسب مقتضى الحال، وتقيم الحجة على المعترضين منهم :

-" في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب..".

ولكنني دهشت لاستمساك بعضهم بالأمور الدنيوية متناسين المعروف من الوعد القرآني بالفضل والزيادة، ومن أعجب العجب أن من سارع منهم إلى قبول التجديد فعدل عن رأيه الأول، كان مسيحياً، إذ أنني أبصرت صورة الصليب لدى رسغ يده، وعدت منذئذٍ أنفر ممن ينسبون إلى الأقباط في بلادنا سوء الطوية وشر التدبير نفوري من الأفاكين والمزورين.. والمسجد - على حداثته - أثر نفيس، وكما سمعت من بعض الأثريين فإنه قد بُني في موضع مسجد للخليفة عمرو بن العاص ما عاد يعثر له اليوم على أثر، كان قد بني خلال غزو الإسكندرية، الذي استمر بدوره شهوراً ثلاثة، حيث استقر عمرو بن العاص على مقربة من عمود السواري، مثلما يخبرنا التاريخ المعروف، فيصح أن يقال بأن مسجد العمري بصورته الحالية بني على أنقاض مسجد عمرو بن العاص.   

 

وبالعودة إلى حديث الغربة والاغتراب، فإنني أذكر كيف كان الإجماع شبه كامل على أن الهجرة خارج مصر هو أمر منبوذ اجتماعياً، أذكر هذا عهد الملكية وأوائل عهد الثورة، حيث كانت الاعتبارات القومية متأججة كأنها جذوة مشتعلة، ثم أتى زمان فيه تراجع هذا الشعور، وفيه تراجعت مؤشرات الاقتصاد المصري، وغابت فرص الارتقاء الاجتماعي، ولا ريب أن لنكسة يونيو دور، ولطفرة النفط الخليجية دور آخر، ثم لسياسة الانفتاح دور ثالث، وأذكر - إن لم تخنِ الذاكرة - أن أول من بدأت سياسة تسهيل العمل والسفر بالخارج كانت حكومة زكريا محيي الدين،.. هكذا - إذاً - انقلبت الأمور على عقبيها، ورغم أن المعايش لحدث ليس أفضل من يؤرخ له، إلا أنني أكاد أرى صورة الماضي والحاضر في بانوراما موصولة تصيبني بالذهول، وعدم التصديق، وببعض أو كثير من الأسف.

 

صغيري فؤاد..

 إنني عليمة بأن أيامك الأولى في العراق كانت على غير ما رُمت لها، ورجيت، وإذ كنت أدعوك إلى مزيد من المساهمة المالية فإنني لا أهدف إلى إثقالك بأعباء ما أنزل الله بها من سلطان، وإذا كنت أود لكَ حياة مثالية تخلو من المنغصات فإنني اليوم عظيمة الفخر بما طرأ على شخصك في واقعك المتأزم الملتبس من تحول محمود، على نحو أغراني بالتفكير في أن وراء كل ضعف أو خلل نراه - نحن معشر البشر برؤيتنا القاصرة - علة أقوى، وسبباً يبرر الفوضى التي هي في الحق تنطوي على نظام لا تخر عمدانه، وأوصيك بالصمدية والمعوذتين، ثم ألا تتدخل في أمور لا تعنيك من أحوال البلاد التي أنت فيها، وأذكرك بأن العاقبة للمتقين..".

 

قرب صالة الباليه..

كان هتاف قد أوقف حركة الراقصين في الصالة، حين نهض من القعود المتفرجين واحد يقول : "إنها تماماً المناسِبة !"، وكان الهاتف قد اجتمع - بعد الفروغ من العرض - إلى نور يسألها العمل في فيلمه الجديد، يقول وقد عاد يشعل سيجاراً جديداً بدلاً من هاته التي أضاعها انفعاله :

- تهانينا،.. اسمي مظهر، وأما وظيفتي فمخرج سينمائي، وأراك تصلحين بطلة لفيلمي الجديد إذ أنتِ تملكين "وجهاً سينمائياً".

وقالت بعد أن نظرت إلى عز نظرة تشيع فيها الريبة الممزوجة بالخوف:
- عذراً، لست بممثلة، ولم أدرس فن الأداء التمثيلي في معهد أو اطلع عليه في كتاب..

وقال الرجل في استهانة :

- ستتعلمين كل شيء في فترة التفرغ، قبيل الشروع في العمل على المشروع السينمائي، سنخصص لهذا شهوراً ثلاثة. (ثم حين لاحظ ما يعتريها من القلق..) من عجب كيف تتذرعين بانعدام الموهبة، جميعنا ممثلون بدرجات متفاوتة، أنت وأنا، والأستاذ (يريد عز)، حتى أبرع الساسة في التاريخ حين يخطبون في حشود الجماهير فهم لا يتورعون عن الاقتباس من أساليب الممثلين، لشد ما هم كذبة بارعون ! ولولا هذا ما انطلت خدعهم على إنسان، إذ يستعصي على الجموع أن تلتف حول امرئ يصدر خطاباً عقلانياً فاتراً، وستكون هذه - إن وقعت - معجزة لا تتواجد إلا في مدينة فاضلة، أعني حين يصغي الناس لنداء العقل في عالم مثالي، رجال الدين، الخطباء المزيفون منهم، شركاء في هذا التصنع أيضاً، ولكل من يتقدم إلى العمل العام فيه نصيب، حتى أبسط الحرفيين فهم يمثلون أداء صنائعهم ولا يحترفونها، ويغيبون في سحب المكيفات يتهربون بها مما يعايشونه من ضنك الحياة، وأما أبناء الطبقات المتوسطة فهم المعلقون، فلا هم نالوا بلح الشام ولا هم أدركوا عنب اليمن، إنها آفة عالمية،.. وفي المجتمعات البشرية المعاصرة : الكل يكذب على الكل !

وتدخلت نور تقول :

- ليس الأمر على هذه الصورة أبداً، أنت تبالغ حين تصم الجميع.

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وقال في انفعال نأى به عن ضبط النفس :

- إلهي ! تماماً مثلما أريد في بطلتي : الصدق الذي يصل إلى القلوب ويأسرها، أريد من المشاهد أن يبكي في ظلمة صالة العرض وأن يتأثر، أن يعيره البطل عينيه كنافذة يرى بها ما يراه، أنى لي بمثل هذا إذا هو لم ينسجم مع من يصدقه، ويرى فيه ظل نفسه؟.. (وزفر دخاناً فجعلت الفتاة تطرد زوابعه إذ هي على درجة من الحساسية له..) أي بطلة تحبين من ممثلات الدراما العربية؟

وقالت وهي تتأمل في هذا السقف المزخرف للصالة :

- فاتن حمامة، سعاد حسني أيضاً.

وقال مظهر :

-  الأولى ما كان أن يقدر لها النجاح تجارياً لولا أنها أدت أدواراً خلعت عليها ثوب الفتاة المستضعفة فاستدرت تعاطف الناس معها، ولم تخرج عن هذا الذي هيأ لها الرواج إلى غيره من شكول التعبير والتصرف،.. وأما الثانية فتفوقت بالاستعراض، ومشاغبة الطفولة،.. أين فن الأداء من هاتين؟

وهالها أن الرجل يسفه من الممثلتين المعروفتين، وكأنها كانت تتساءل في نفسها : "ماذا عساه أن يفعل معي؟ ومن أي زاوية يقيمني؟ ولم يبقِ للرجل إلا أن يستهين بأداء المليجي ويوسف وهبي.."، وقالت :

- أهلي قوم محافظون، سيشتعلون غضباً إذا هم رأوني على شاشة يبصرها الجميع، وسيقاطعونني قطيعة تدوم إلى آخر العمر، وقد كانوا على غير وفاق معي لأنني اخترت لنفسي رقص الباليه في صالة محدودة طاقتها أسيرة لمن يحضرها، فيرونني لأجل ذاك وكأنما قد خلَعت بُرْقع الحياء،.. فكيف إذا شاع الأمر على الملأ وذاع؟

وتدخل عز يحدث مظهراً كأنما أراد أن يبقي الباب موارباً :

- سنحتاج إلى مهلة كي نتخذ القرار المناسب..

ونصح لها مظهر بالتفكير في الأمر مرتين، ثم مضى ينفث الدخان، كانت الفتاة قد أغلقت منافذ القبول إزاء الأمر، وأما عز فطفق يستحثها على التجربة، وصحبها إلى بيت صابرين (الجناج الفندقي) التي أعدت لهما بقلاوة بالمكسرات ولقمة القاضي (تذكر الأم اسمها اليوناني الذي تستحضره «لوكاماديس») - صحبها إلى هناك كي يتشاور ثلاثتهم في الأمر، كان حضور الأم يقظاً مشعاً، طلب عز منها أن تشاركهم الطعام الدسم ولكنها امتنعت فأوضحت عذرها تقول : "الحلويات تضر بأضراسي، لقد أعددتها لكما.."، وابتسمت - بعدئذٍ - ابتسامة كشفت عما تحمله أسنانها من العطب، وقالت :

- المهم أن يكون الدور مناسباً، هل تذكر فاتن حمامة حين كانت تركب الحنطور رفقة محمد فوزي يغني لها : طير بينا يا قلبي؟.. كأن فؤادي يذهب مع اللحن المنساب إلى آفاق النعيم.

وقال عز بعد أن قطم البقلاوة :

- كلا، لا أذكره، هذا قديم جداً،.. هل تشتاقين إلى الملكية؟

وقالت صابرين :

- أشتاق إلى الشباب لا إلى الملكية، كانت الملكية قلقة سياسياً.

وتدخل عز يقول :

- المشكلة كانت في تدخل الشعب نفسه، فكري في الأمر، من يصنع مجد أي أمة هي نخبة محدودة، والقرار الصحيح لا يكون بالضرورة هو نفسه التوافقي الذي ترضى عنه الأغلبية، فالانفصال عن كنيسة روما في إنجلترا لم يكن عبر اقتراع، وإلا لقوبل برفض بقت إنجلترا معه في عهد ما قبل هنري الثامن، وكذلك القوانين المنظمة للثورة الصناعية، وحركة الميكنة نفسها التي كانت فعلاً نخبوياً بطبيعته، وأضرت بما لا يحصى من العمال والفلاحين الذين أمسى السوق في غير حاجة إليهم، في مصر اليوم بتنا نعيش زمن الانفتاح الاقتصادي، وقد يعجب المرء لتحول اتجاهتنا من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق في بضع سنين، فالفكر في بلادنا متقلب، ولا يمكن الرهان على ثباته، ثم هو لا يزال ظلاً للسياسة، يمشي في ركابها ولا يتقدمها..

وسألها عز عن صحتها فأجابت :

- إنني مريضة الجسد، ولكنني مرتاحة الروح بحضوركما، العمر له قانونه.

وقال :

- تأثير الحسد أقوى من العمر (ثم وهو يلبسها عقداً من اللازورد الأزرق..) سيعصمك هذا من العيون، أشتريته لك وكأن قلبي عليم بحالتك.

وأبت الأم عطية الابن فارتأت أن تهبها لزوجه نور، تقول : "إنني امرأة عجوز.. أي وجه من وجوه الفضل يبقى لي، فأُغبط عليه؟"، وقالت نور مغمغة في غضب وهي تهم بالنهوض كي تذهب بالصحن الفارغ إلى حيث المطبخ تغسله :

- أعتدت على الأمر منذ فرط في خاتمه الفضي لصبي مجهول في يوم  عرسنا.. فيم العجب؟!

فلما عادت نور إلى اجتماعهم خالية الوفاض، كانت الأم قد لبست عقد اللازورد لدى عنقها المتهدل ورضيت به.

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

  

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق