استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/12

يوم صدق الوعد

                                              الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد




كان طه قد عاد يجالس نجله في حديقة فيلا لوران يقول وهو الماثل على مقعدها الخشبي، يشرح مفهوم الهوية الذي استفسر عنه نعيم :

- الهوية في فهمي تعني مجموعة السمات والمبادئ والمشخصات التي تميز الأنا عن الأغيار، وأما أحمد لطفي السيد فكان أحرص معاصريه على تخليص مصطلح القومية والوطنية من الفكر التي حاولت طمسها في دوائر انتماءات دينية أو ولاءات قومية وعرقية، فلم يؤسس فهمه للقومية على عنصر اللغة مثلما حدث إبان الفترة الناصرية، أو على الدين مثلما حدث ويحدث اليوم.

وكان نعيم يقول :

- الافتراض المثالي أن يسبق الفكر التجربة ويتقدمها، وأما الافتراض المعمول به في المجتمعات الدنيا أن تقوّم التجربة الفكر وتهذبه، والعجيب في بلادننا أن التجربة تكون عاجزة عن تقويم الفكر، فيحدث أن نمضي موغلين في مسار ثبت عبر المعطيات العملية سقوطه عن الاعتبار، وكأننا لا نتعلم من درس التاريخ، ولست أستطيع أن أعزو هذا إلا إلى غباء خالص،.. إذ كيف تنزه من لا يزغ بالتجربة عن البلادة؟

وعرج في حديثه إلى ابن تيمية، ومثله من سواه من فقهاء التراث، يقول:

- وإذا نظرنا للرجل من منظور الهجمة الصليبية على المشرق التي زامنت وجوده، وإلى مفردات عصره القديم المحدود فقد نلتمس لتشدده عذراً، والمشكل من يحاول استخدام فتاويه في واقع اليوم، وكأنها نبراس هداية.

وكان نعيم قد وقف يستقبل كلباً أليفاً من صنف فرنش ماستيف Dogue de Bordeaux  كان قد حازه، ثم طال الحديث كل مطال، وأخذ نعيم يقول :

- لقد حدثتني عن التنكيل بالمعتزلة، أكبر الفرق العقلانية في الإسلام، وقصة خلق القرآن التي هي إلى محاكم التفتيش أقرب، إن باب الاجتهاد قد أغلق منذ القرن الرابع الهجري، ألف عام من النكوص،.. ماذا تصنع في مجتمع؟ إننا عالقون في الماضي كأنما رمنا تجميد الزمن، نزعم أن خير النحو ما وضعه سيبويه، وخير البلاغة ما قاله الجاحظ، وخير الفلسفة ما تحدث به ابن سينا وابن رشد والفارابي،.. ألا إن عقلية إكبار الماضي على الحاضر والمستقبل لتصلح للصوامع فوق صلاحيتها للحياة المعاصرة،.. إن الحضارة الفرعونية كانت حضارة ما بعد الموت، واليونانية الرومانية حضارة العقل، وأما العربية فحضارة النص !

وأجاب الأب يقول مستحسناً ما قد سمع، ومعدلاً على جزء منه شابه شيء من العوار :

- أحسنت ! أخطأ التنويريون حين وضعوا المعتزلة في خانة الفلاسفة، والواقع أنهم كانوا إلى سيرة ومذهب الفقهاء الأحناف فيما وراء النهر أقرب.

وحاول نعيم أن يقرب الكلب إلى طه بعد أن مسح على رقبته ورأسه، واستجاب له الحيوان ولكن - ولما كان الأب مصاباً بالربو - فقد تحسس من فروه، وأصابته نوبة امتزج فيها ضيق التنفس بأزيز الصدر، وأزاد الطقس الربيعي - حيث تشيع حبوب اللقاح في موسمها - من حدة الأمر، وأدخلت مريم أباها إلى حجرة داخلية على حين جعل باب الفيلا يطرق طرقاً خجول الأثر، واني الوقع، واحتيج من الزمن مدة حتى تنبه نعيم إليه ففتحه، ولم يجد في مستواه إنسياً، فهبط بعينيه، وهناك ألفى طفلاً أسمر، وقال منفعلاً، مصعوقاً، كأنما أَصَابَهُ الوَزَغُ :

- منير؟ أين أباك الملعون؟

وقال الطفل النوبي، تبرز عيناه النقيتين :

- لقد حضرت وحدي ! 

وتذكر ما دار بين منير وعارف يوماً لدى الأرجوحة فامتلأ بالنقمة، وشرع يغلق الباب في وجه الطفل كأنما اتعظ من درس الماضي، وحضرت زوجه فقص عليها ما عرفه، ولمحت المرأة أثر الطفل فأشفقت عليه إشفاقاً عظيماً، وقالت بعد أن عادت تفتح له الباب، تدخله إلى الأرض المعشوشبة :

- سنحتفظ به حتى يأتي صاحبه..

وقال نعيم :

- لعله يكون فخاً من فخاخ ذهب، الأحرى أن نتخلص منه..

فلما وقع الخلاف في الرؤى أخذ الزوجان برأي الأب، وأجابهم طه فيما اختلفا فيه - بعد أن هدأت نوبة الربو - يقول :

- فلتحتفظا بالصغير حتى يئن مغيب الشمس، وإن لم يظهر من يسأل عنه فتخليا عنه..

وآن المغيب ولم يحضر من طرف الطفل أحد، ولم يظهر باحث عنه، وهناك وقفت مريم ضد إرادة زواجها تقول :

- سنأثم في حقه كل الإثم إذا نحن تركناه نهباً للتشرد، الشوارع أبرد من تُترك فيها هرة.. فكيف بطفل؟

 

 وقال نعيم منفعلاً :

- الإثم إثم أبيه، إنه من تردد في مهاوي الشقاوة والشرور، ودبر الأحابيل بعد ثقة أوليناها له. (وهبط إلى كلبه يزيد في عطفه عليه يقول) بعض الحيونات أوفى من كثير من البشر!


  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

في حديقة مختار..

تواصلت مساعٍ جمعة في التوفيق بين مراد وبين أميرة، تغير كل شيء يوم التقى به في يوم تنزهه بحديقة مختار - تائباً ومنيباً - فاعترض مساره على البلاط العريض يقول :

- أريدك أن تتزوج بأميرة،.. إنه معقد رجائي ورجاء الجميع !

قال مراد يومذاك :

- لماذا يجدر بي أن أستمع إلى توصية لص؟

وقال جمعة في أسف من تجرؤ عليه :

- الزواج وصية أبيك قبل أن تكون وصيتي،.. إنها نبوءة العرافة أيضاً، هل نسيتها؟

وقال مراد :

- إذا أنت تصدق في نفاذ النبوءة حقاً فسوف تتحقق دون سعي من أحد..

وقال جمعة متحفزاً :

- إنها كذلك وايم الله، ولكن الأسباب هي الأسباب، لماذا عدمت حسنية من قدرة على الإنجاب؟ ولماذا ماتت نرمين عند ولادة فردوس؟ ولماذا انتهى أباظة لدى القنال في حرب انتصرنا فيها؟ لقد قُدر لك أن تتزوج بها منذ أنقذتها من حمى الطفولة..

وقال مراد :

- إنها تداعي الصدف المرة..

- فلتسمها ما شئت، ولكن المرام الذي يقبع من وراءها أوضح من شمس الضحى..

واهتز مراد -  في الحق - من أعماقه، كأن جمعة نطق بما يدور في خلده، وأما وجوده في الحديقة الملاصقة للحي اللاتيني والمطلة على مقابر اليهود فينطوي على رغبة في التحايل على هذه الخواطر جمعاء، وضع جمعة المسؤولية على رأسه مجدداً، وارتأى تمثال الحديقة ينعم في صمته الجامد، حتى الزهور بلا اختيار كأنها الملائكة المنزهة، والأشجار بأعناقها الضخمة في حل من عراك الوجود، ومن مشاغبة المصير، والإنسان وحده يشقى باختياره، برغبته في الارتقاء رغم طبيعته الحيوانية، وسياقه المحدود قياساً إلى سياقات الكون والطبيعة، الخط المستقيم أقرب السبل، وقد تشتتا في ألف سبيل وسبيل، وسيتآلفان كرتق انفتق ثم التحم، وساد صمت، قال عبد الغني الذي كان أقرب إلى الزهور الحمراء والبيضاء على مقعده :

- سأقبل بزواجك بابنتي مقابل خاتم وحيد، وليكن من الحديد كما أشار النبي..

ومضى مراد بعبد الغني فساقه في صمت في مسارات واسعة، انتهت النزهة وبواطنه مشتعلة على غير ما أراد، حين خلا إلى نفسه تسرب القبول في نفسه ولكن أميرة لم تزايلها الممانعة، قالت في جمود :

- لم يمر على وفاة أباظة عام واحد، سأعتبر الأمر خيانة مقنّعة إذا أنا تزوجت بغيره.

وألفت أميرة من أمها هدى تشجيعاً على الرفض، عبد الغني يحاول إقناعها فيقول : "صنعت مراداً على عيني منذ جاءني بلا أبوين، وأثق به فوق ثقتي في غيره من الناس.."، وقالت :

- سيكون أباظة قد مات حقاً إذا حدث وقبلت بغيره..

وكان عبد الغني يقول لها، يجر كرسيه نحوها :

- لقد مات أباظة سواء قبلت بغيره أو لم تقبلي..

- احتفظت به في قلبي، ولأجل ذاك فهو عائش..

- من الخيبة أن يعيش الإنسان حبيس المثالية والوهم.

وركبها العناد فأخفق الوصال، واستعانت بأمها على ما تبدى من حماسة أبيها.. وتواصلت التجارة فكلف عبد الغني مراداً بالقصود إلى شارع عبد الرحمن في دمياط يريد منه أن يشتري ما جد من شكول الأثاث يقول : "لا تنسِ الإكسسورات أيضاً : نبرتيهات وقطع أويما والحلايا والكعوبة والأكتاف.."، ولكن الشاب ضاق ذرعاً بتكليفات الرجل القعيد، كان يقول لجمعة بعد أن عاد يستأنف صلاته إليه :

- رفضتني هدى لأنني لست غنياً، مقتدراً، وتجارتي في دمياط لن تخلع عليَّ صورة الثراء، وهيهات أن أنتزع اعترافاً من عينيها الطامعتين.

 وكان جمعة يقول له :

 

- عبد الغني يقول بأن لأميرة دوراً في الامتناع عن الأمر أيضاً.

- لا أصدق هذا قط.

ذلك اليوم قصد مراد رفقة جمعة إلى أحد طرفي ميدان المنشية، يقف مراد أمام مبنى بورصة الإسكندرية الذي عرفه صغيراً، يتذكر ساعته الضخمة، وطرازه اللاتيني، ويوم اعتلاه عبد الناصر كيما يلقي خطابه الشهير بالمنشية، كان قبلئذٍ حكراً على البهوات ذوي الملابس الأفرنجية أو العُمد بجلاليبهم النظيفة، يتذكر كيف كانت تقبع أمامه السيارات بماركاتها الحديثة، وكذا الحناطير وسائقيها بملابسهم الموشاة بالقصب، ثم يذكر كيف أصاب المبنى العريق الجمود إبان الفترة الاشتراكية، فتقلصت المشروعات الخاصة، وابتلعت دولة ناصر جل الصناعات والخدمات، تحول المبنى إلى مقر للاتحاد الاشتراكي، حتى طفقت البورصة المصرية تستعيد نشاطها أوائل هذا العقد (السبعينيات)، كان المبنى - بما كان عليه وبما آل إليه - موئلاً عظيماً للذكريات في نفسه، مثلما كانت حلقات السمك بالأنفوشي، والعديد من ذكريات التطلع الممزوج بالقصور، والأماني المغروسة في تربة العوز، وقال لجمعة بعد أن أفاق من استغراقه:

- أريد أن أحقق حلم الطفولة في الاستثمار، كحال البهوات ذوي الملابس الأفرنجية، والعمد الذين كنت أقلدهم، لقد وهبتني الحياة فرصة الحوزة بعد العوز دائماً.

وجعل جمعة يقول له :

- سنستثمر في البورصة المصرية بالقاهرة..

وارتاب مراد من طلبه، قال :

- تريد المال كي تخدعني مرة أخرى؟

- هذه المرة أريد القليل وسأهبك كثيراً.

وهب مراد جمعة القليل فحاز الشيء الجم، وابتاع بربحه خاتماً من ذهب وقصد إلى حاوت عبد الغني الذي سأله حين أدرك مقدمه، دون أن يرفع ناظريه : "هل عدت من دمياط بهذه السرعة؟"، وتدانى مراد إلى عبد الغني، فتح قبضة يده فأشار إلى خاتم الذهب يقول :

-                                                                                                    لقد عدت بما هو أهم : جئتك بخاتم الذهب وقد رضيت بالحديد.

 أعد عبد الغني جلسة الخطبة في حانوته على غير علم هدى، جمع التجار والبسطاء والشعبيين، ووزع جمعة الشربات على كل أولئك يسكبه من الشفشق الشفاف، وسرعان ما امتلأت الأيدي بالمشروب الاحتفالي في غمرة هناء وسرور، بوغتت أميرة بالحضور الذي غص به المكان، ثم بوغتت بمعرفة أن خطبة لا تدري عنها شيئاً هي موضوع اجتماعهم، وسألها الأب :

- جاءك مراد بخاتم من ذهب يطلبك، أتقبلين به؟ وايم الله إن الخاتم دون  مشتريه  قليل لا يكفي، والخاتم بمشتريه كثير يُرضي،.. لك أن تعلني الرفض، إذ أن ما أُخذ بسيف الحياء فهو حرام. 

وصمتت في حياء ملائكي - كالعذراوات - فعد الأب صمتها دليلاً على القبول، وارتفع نداء باطني محسوس يهتف :"ويصدق الوعد حين تصافح العرافة عجوزاً.. فتموه الأشياء بأصباغ الورد.. ويحل السلام.."، ارتفع على درداب الطبول، وعزف المزامير !



 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

  

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق