استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/20

مشاق الاغتراب في الكويت

                                                             الفصل الرابع والأربعون: 

مشاق الاغتراب في الكويت


انتظر فؤاد أولى المناسبات التي تنقشع فيها سحابة العمل بالكويت كيما يعود إلى الإسكندرية، مدفوعاً هذه المرة بنشوة هذا الرجل الذي تأقلم على مشاق الاغتراب، وقارع شظف الحياة فظفر بنصر رفعت المقادير له - بعده - يمناه المنتصرة، وأفاءت عليه بما هو حقيق بالإطراء من نعم، وما خلا تغير طفيف - كارتدائه للعباءة على حداثته والتزامه بالصلوات وسمرة بشرته نتيجة الطقس الخليجي المشمس وما ألحق به من تغيّر - فسوف تستقبله الأسرة في لهفة مترقبة، بل إن هدى ستحفل بالتزامه الديني الذي يعني في وعيها عصمته في بلاد غريبة بلا رقيب، هكذا تألقت الصور في عقله المحموم.. وصدق حدسه وأكثر فسبق الصبية إليه أول وصلوه فيما جعل يوزع عليهم الهدايا، وصحبوه في مساره إلى حيث دلفوا - صحبته - إلى بيته، إنه صديقهم القديم الذي شبَّ عن الطوق، وباركت هدى وعبد الغني عودته، فلما لاذ بشرفة البيت بعد تمصله من أجواء الاستقبال التي أصابته بالحرج والإنهاك - وهبَ أفق الإسكندرية الممدود نظرة سلام واعتزاز يقول :

- ها قد عدت إليكِ، دون الأوان..

وكان في خضم وجوده القصير بالكويت وعمله فيها، قد عطف بزياراته إلى ميناء الشويخ التجاري، فحدس من وجوده هناك مدة ومن غيره بخصوصية الإسكندرية، مدينته الساحلية الفذة بين السواحل، حدوساً - رغم ما شابهه من خطأ منطقي هو حماية الخيارات الأولى وتفضيلها - بدا راسخاً واثق الزعم كالجبال الرواسي.

وإنه لفي حال من الاستغراق تنضح فيه صورة المرائي من القبب والبيوت، والآدميين الغائمين في سعيهم الكادح والهازل، حتى لاحت جارته غادة التي كانت تجيء بالبصل فتلبي مطلب الأم تدعوها إلى بعض تريث، وسألتها كأنما تذكرت ما كان حري بها أن تسأل عنه قبل حركتها :

- أي حجم تريدين من واحدته (أي البصل)؟

وانبعث النداء من قلب البيت المقابل بلا وجه :

- متوسطة، لا هي كبيرة ولا صغيرة..

وجعلت غادة تتمتم - كالطالب في لجنة امتحان يأتيه السؤال الذي لا يعرف جواباً له محدداً يستروح إليه فيهيم بين المقاربات والظنون - وهي تقلب البصلات بين أناملها فتنبذ الواحدة بعد التالية :"رباه.. أنى لي بهذه الموصوفة؟ وكل ما هنا هو إما كبير هائل، أو صغير ضئيل.."، وإنها كذلك حتى ارتأت على هامش محيط رؤيتها ما استرعاها، ولفتها عن قصدها، من رؤية الشاب العائد، فهمست :"رباه.. ها قد آب.."، وبات فؤاد يجد حرجاً جديداً بعد التزامه في أن تتلاقي عيناه بعينيها، فأدار ظهره عنها يريد أن يتوارى تماماً في ارتباك عظيم، وسمعها تقول :

- في الدير وقبله في حصص الدين نقرأ قانون الإيمان والوصايا العشر ومزامير داوود وموعظة الجبل، شعرت بالسأم يساورني من كل أولئك، ولكنني دعوت الرب بلا مقدمات صادقة أن ينجيك في تجربتك، وحدسي يقول بأن دعاءي قد أثمر..

والتفت فؤاد إليها - لمّا ألفى منها اهتماماً - على حال صارت صورته واضحة لها فبرزت زببيبة رأسه، وتقوى مظهره، وقالت :

- أمي تريد مني أن أكون راهبة، وأما طموحي فيقصر عن أيما منال ما خلا الطب..

وزاد ارتباك فؤاد فترك شرفة البيت - كأنه الجزع - حتى عاد إلى حجرته، وهناك مضت به أمه هدى إلى المطبخ وهي تمسك بيده كأنها تسوقه إلى المكان الشاغر الذي يناسب أهمية الحديث تقول :

- فلتهبني من لدنك آذاناً صاغية وقلباً مفتوحاً : نمر بضائقة مالية، إننا على شفير الإفلاس، والشكر لمراسيلك تبعث بها إلينا محملة بالخير والمال بين آن وآن، ويعلم الله إني لأكره أن أستدين منك..

وسألها في صدق :

- هل ترومين الزيادة أرسلها إليكِ؟

وابتسمت من سخاء عرضه الذي يتناقض مع ما يعتريها من شعور بالأسف لاضطراها إلى الاستدانة من نجلها، وقالت مشبعة برضاء خافت :

- كلا، بل الحل في الميراث..

- أي ميراث؟

- ميراث جدك بهاء الدين..

وضاق أسفل عينيه كأنما استوحش ما سمع، قال :

- إنها قصة ضاربة في القدم، وحتى لقد يبدو النسيان خليقاً بها، لقد انتهى جدي منذ نقل خالي يوسف جثمانه إلى مقابر الإسكندرية..

وقالت :

- لقد نقل جثمانه وتناسى شأن من مكروا عليه..

ولاحظ فؤاد شغب الصبيان يقتربون من نطاقه، فجعل يقول :

- ما عند الله خير وأبقى، متى بخلنا في الطلب وتركنا المشاكسة في الأرزاق جاءنا الأجر غير ممنون (ثم وهو يندمج وسط بضع من الصبية..) معذرة، إنها سنة نبوية، أعني أن يلتقي القادم من السفر بالصبية، فيلاطفهم..

وجهرت هدى بالنداء لمَّا فطنت إلى ما في قولته الأخيرة من تمييع المسألة التي أرادت لها الفصل، وصرف الانتباه عنها، كأنما تعود تضعه أمام مسؤوليته :

- إن أباك من العلة التي بات يقصر معها عن أن يقف سنداً منيعاً لنا في قضية حقوقنا الضائعة، وأما مراد فمن الخذلان حتى أنه أمسى يعتمد على ميراث صاحبه المائت في إنفاقه على أختك، وأنت ! (ثم وهي تراه يحمل الطفل على ظهره يردفه بآخر كأنه الحصان يمضي بالاثنين في صالة البيت) آه.. وأسفاه على الرجال..

وقصدت هدى إلى حجرة رؤوف - الذي أقام في بيتها فترة - بعد أن نفضت يدها من الابن، كان رؤوف في الخامسة عشر من عمره، مرهف الشعور رقيقه، ينبت على وجهه حب الشباب،.. ودلفت إلى حجرته - التي كانت شحيحة الإضاءة يتوسطها مكتب من خشب الأبنوس - فوهبته - كالعهد بها - صحناً مملوءًا بعين الجمل واللوز ومضت، وأشفقت أن تعود تعرض عليه ما عجز عنه الرجال، وما كان قد اعتذر منه غير مرة، بيد أنها سمعته يقول كأنما يبث مخاوفه المعاصرة لمن ينتمي إلى زمان آخر :

- جدتي (يناديها بالجدة محبة لا نسباً)، لقد أرهقتني الثانوية خوفاً ووجلاً، إن وجودي في الإسكندرية وسط أترابي وتحت متابعة أبي يزيد يثقلني بالخوف والرهاب، إنه وقت المراجعة الأخيرة أشبه إلى السباق حين تستنفر الأحصنة طاقتها كيما تبلغ غايتها، وأراني لم أزل في وعكة التخبط والاضطراب..

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وبرقت شكواه في سحابة مسحورة في وعي المرأة، فقالت هدى بعد صمت ثانية :

- لنا في أبي تيج أرض وديار خالية، تستطيع أن تخلو بنفسك هناك في هذا الطور القلق من سنتك الدراسية، وتنأى بعقلك من ضغوطه، أجل،.. ثم تأخذ تعود حين تقترب الامتحانات في يونيو..

واتسعت حدقتاه من فرط الامتنان والاستجابة للعرض الجزيل، وهبط على كفها البض المجعد يقبله، فشكرته، ثم قالت ورأسه - لا يزال - على حال الهبوط :

- أريد منك خدمة بسيطة تؤديها لي في مقابل هذا..

وارتفع رأسه كأنما يسألها دون حديث :"أي طلب؟"، وهمست المرأة في أذنه بما أقلقه، وقال منتفضاً حتى أقلق انعكاس ظله استقرار الحائط :

- لا أريد أن أصارع أهلينا في الجنوب !

- لن تصارعهم قط، ستمنحني وصفاً تفصيلياً عن طبيعة معاشهم، دونما أدنى مخالطة بهم أو معاشرة، إنهم ليسوا أهلنا قط، كلا.. تعرف بهم بهاء الدين إبان شيخوخته، حين التبس عليه كل شيء، وحتى ميراث أبنائه.

ولم يجد رؤوف - لما اشتدت عليه دائرة القلق - بُدَّاً من أن يقبل بذاك العرض المشروط، وأطاعها في المنشط منه والمكره، فنزل بأبي تيج وحيداً غير بعيد من سُكنى تسنيم وإبراهيم، يمضي أكثر نهاره في الاستذكار، ثم إذا حل الليل أخذ يتسلل في خفية يرقب حركة جيرانه، يستخدم في ذاك نظارته المعظمة كأنه الرَّبيء، وأحياناً يستخفه الشغف فيقترب من مراقبه كيما يتسبين الأمر بنفسه عن كثب، كذات يوم مضى فيه بين سبيل تَحفّه بيوت الطين البسيطة، يفضي في آخره إلى بيت تسنيم، كانت مصابيح البيت الريفي الكبير قد كشفت آنذاك عن صراع ظلين، واقترب رؤوف من مصدر الصورة على جناح الخوف، كان باب السور المحيط بالبيت مفتوحاً مما أغراه بالمزيد، وجلس القرفصاء فسمع رجلاً يقول :

- لقد أحلتِ حياتنا إلى جحيم منذ فر نجلك المصون إلى من استكبر بهم على أهله.

كان الصوت لإبراهيم، وأجابته تسنيم فيما يشيع في صوتها عاطفة قوية أشبه إلى بكاء زوار المقابر على أحبائهم :

- هذه المرة سأسافر بمالي إليه، أو لعلي قاصدة إليه متجردة من كل متاع..

وهتف إبراهيم مطوحاً بشيء من أدوات المطبخ فيضطرب رؤوف في موقعه بجلسة التنصت :

- فلتعدي بكراً قد مات، لقد ثكلناه بلا أمل في استعادته..

وتقدمت المرأة نحوه كأنما تعتصم بكل ما لها من شكيمة وبأس، ثم قالت تصفعه :

- فلتصمت يا أفعى..

وتلقى إبراهيم الإهانة في جزع وغضب، فما كان جوابه إلا أن انقض عليها فأغلق بيديه مجرى الهواء لدى حلقها حتى كادت تختنق، وبادرها يقول :

- تملكين هذه الجدران والأرض، ولكنك ما ملكتني..

ثم تركها وتولى عنها يمضي خارجاً من هذا الباب، فجعلت تكح وتسعل، ثم تصرخ به في لحظة استكبار كالجنون :

- بل أملك الجدران، ومن تحملهم الجدران..

واختبأ رؤوف في طي ظلمة السَّحَر وراء صخرة ضخمة ينشق عنها ما يشبه المجرى المائي الجاف من هذا القادم (إبراهيم)، في حوش البيت الكبير، فلما لم يلحظ الخارج إليه تنفس في نفسه الصعداء، ومضى خارج البيت، وعاد يجر أذياله بين سبيل البيوت الطينية إلى حيث سكناه، كمقاوم الغرق في بحر يغشاه موج فوق موج فيتشبث بجذع الخشب، وآب المذعور بعد تخبط إلى داره، وأناب الخائف بعد تعثر إلى غايته، وهناك تهالك على كرسي أمام موقد النار يشهق ويزفر، في كثب من خزانة مزخرفة برسوم الغزلان، وكانت الحجرة التي بقت لهدى من أصول الصعيد - وانتقلت إليه بالتبعية - فقيرة المتاع على نحو يوحي بالوحشة والخوف، ليس فيها - بجانب الخزانة والمكتب الصغير والسرير - إلا إبريق لغسل الأيدي وشمعة مثبتة فوق غطاء قنينة يستعملها صاحبها حين ينام، وجعل رؤوف يفرِّغ الحوار الذي سمعه لتوه على هذا الورق، يريد أن يرسل به - بعد ذاك - إلى من فوضته في هذا الشأن (هدى)، فكان يقبض على ما علق في ذاكرته في خضم الخوف الذي لم يتركه، فلما انتهى من تدوين بعض شراذم الجمل، شعر بحكة لدى هذه الحبوب التي ما تنفك تنبت في وجهه، فلم تكد تعاشر طقس الجنوب حتى كونت فقاعات (حطاطات) حمراء صغيرة مؤلمة، فلا عاد من مرطب أو مهون لها إلا زيت الخروع يحتفظ به في قنينة زجاجية صغيرة، واستدار إلى نقش غزال الخزانة الذي بدا له مخيفاً على نحو لم يطمئن معه إلا بعد أن غطاه بشرشف، وأغلق قفل الباب ملياً، ولم يستخدم الشمعة إذ هو ارتأى آنئذٍ في لهبها منبهاً مقلقاً لا يريده فوق أن يكون أنيساً رفيقاً يرتاح معه، وارتقى السلم الخشبي ذا التجاويف والمستويات الحادية عشرة، إلى حيث شرع ينام على ذاك السرير العلوي مخافة ما قد تستبيحه الأشباح من المجال الأرضي !

 

في غداة يوم الصراع بين الزوجين يقظت تسنيم وحيدة في البيت الريفي الكبير، كانت بدور - المتبقية من بين الراحلين من قوام أسرتها - قد قصدت إلى جامعة أسيوط، وجعلت المرأة (تسنيم) تقص العشب الزائد، وتسقي الذابل منه، في حوش بيتها، قرب هاته الصخرة العظيمة التي ينشق عنها أثر ما يشبه مجرى الماء الجاف، كان عقلها فارغاً إلا من لهفتها إلى بكر واحتقارها لإبراهيم، والأخير كاد بالأمس يجهز عليها، ولو أنها استمعت إلى مشورة الأول بـ"نبذ الرجال بعد نوح" لما وضعت حياتها رهينة بين كفي الزوج المجترئ، وبين رحى مشيئته وجبروته.. وأَلْفت بين العشب جسماً غريباً، واقتربت منه في لحظة من الذهول، وهبطت تقبض على ما قد نشز في خضم الاخضرار، فإذا هو منظار معظم، ونظرت إلى غاية سبيلها الطويل المحفوف ببيوت الطين، تقول كأنما ثارت بها ثائرة الظنون، تقبض على انفعالة من غضب :

- الغرباء، والمتسللون.. 


 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

  

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق