استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/31

المعنى الغائب

              الفصل الثاني: المعنى الغائب



وجد ذهب المعنى الغائب بعد عودة نجله منير إليه حتى خلت حياته من الهم والكدر، وحتى لقد تبلور في خاطره معنى يقول : إن أولوية الإنسان، أي إنسان، أن يقيم الأسرة، وأن يحظى بفرصة تمرير مادته الوراثية، وأن يمضي في مسار طبيعي تقليدي يحفل فيه بمسرة الأبناء وزينتهم، وما انغماسه في الفلسفات إلا عذاب نفساني وعقلي لا طائل من ورائه، يستوي في ذلك : إبيقور مع إيمانويل كانت، وشوبنهور مع أبي العلاء المعري، وحتى كونفوشيوس وابن رشد،.. وكليات الأمور أشقى من أن يصل فيها المرء إلى رأي فصل، والعقل بمجرده لا يستقل تماماً بإثباتها، وقد اعتقد بعد مخاض البحث بأن سؤالين كبيرين سيظلان بلا جواب محسوم :"كيف استحال العدم إلى وجود؟ وكيف انقلبت الكيمياء إلى بيولوجيا؟"، لقد كانت عاطفته تجاه البسطاء - التي دأب على أن يصيغها في قالب اشتراكي ماركسي - قد وجدت سبيلها إلى التصريف الممثل في رعاية منير.

 

 وعلى ما تورط فيه ذهب من قتل عبد القدوس فإن الرجل لم يساوره أقل الشعور بالندم، ولم يحفظ للمائت ذكرى واحدة طيبة يعيدها على أسماعه أو على أسماع منير، إذ هو يصدر عن لب قناعة مفادها أن الرجل الذي أمعن في استغلاله قد أخذ جزاءه المستحق بالإفناء، وأن حياة بلا نماذج بشرية سيئة هي مكان أفضل، وقد كانت عاطفته إزاء الموت محايدة جامدة على نحو مذهل، وبدا منير بدوره حصيفاً في تعامله مع أبيه إذ هو يظهر نحوه عاطفة من البنوة عميقة رائعة، ولكنه يدخر فرصة الانقضاض بتعميق حفرة الأمان، وقد فطن إلى ما قد تسبب فيه الأب من مقتل صديقه/سيده القديم، لقد أظهرته الحسناوتان على حقيقة الأمر في زيارة وعهدهما فيها بإخفاء سرهما،.. حتى حضر ذهب ذات يوم إلى الفيلا، فسأله منير وهو جالس على هذه الأرجوحة الساكنة :

- أبي،.. ما معنى الخيانة؟ وما جزاء الخائن إلا أن يذوق كأساً مرةً كالحنظل؟

وارتفع حاجب ذهب كأنما حدس بأمر ارتاب له، وأردف منير الذي كان كائناً فوق الأرجوحة الثابتة يقول :

- ما معنى الخيانة؟ أن تتنصل من نجل لكَ، أم أن تقتل رجلاً بريئاً؟

وهبط منير من فوق الأرجوحة، ثم استل سلاحاً، وهتف به منير مرتاعاً :

- بحق هذه المحبة التي أوليها إياك،.. هل يقتل الابن أباه؟

وأعاد الابن سؤاله :"ما معنى الخيانة؟ فلتجبني دون مزيد مراوغة، ولتذر استدرار العواطف، فما عدت طفلاً ساذجاً.."، وقال ذهب :

- الحياة أشبه إلى بحر آسن يعبر منه الجميع مكتوفي الأيدي، كيف لمكتوف أيدي أن يعبر من اليم دون أن يبتل؟

ولم يجب سؤاله، طرده منير إذاً شر طردة وعاد إلى الجلوس على الأرجوحة المثبتة، ثم جلس على  العشب وعقد ذراعيه حول ركبتيه، وعقد عزمه على أن يحيط الفيلا بحراسة جيدة جديدة، وكتب إلى عارف رسالة موجزة يقول فيها :

-"أخشى أن يكون غيابي المفاجئ قد حملكم على الهلع والابتئاس، وقد أرى أن إثمي في موارة إختفائي غير الممهد عنكم لا يقارن بإثمكم في إخفاء حقيقتي عني طوال الأعوام المنصرمات،.. لقد حققت وصية العجوز طه بالعودة إلى فيلا لوران، وأنفذت رؤية نعيم في الأوبة على أكف من طردوني، لقد طردت الرجل الذي انسلخت منه..

ليس في وسعي دعوتكم إلى زيارتي هنا، قلبي لا يزال مثخن بالجراح التي لم تلتئم، إنكم أسرة طيبة، إني أودعكم في مانارولا، أودع صغيرتكم آمال على الخصوص إذ هي لم تتورط في إثم قط، وقد كانت تطرب لسماع لهجتي النوبية حين أحدثها بما يغمض عليها منها، فتهز يداها الصغيرتان هزة النشوة التي تستجيب لنغم القول، دون أن تسبر كنه طلاسمه،.. إني أبعث إليكم برسالتي التي هي فراق بيني وبينكم..".

وبات ذهب في فندق قصر وندسور بغرفة الضيوف أو الاستقبال B&B في ليلة عصيبة رأى فيها حلماً يتجسد فيه رخ أسود يحجب الشمس بتكوينه الخرافي ذي المنقار الأسود القصير، والقدم الصفراء اللون، يهبط لينزعه من أرض خضراء غضة، وكان نجله منير يمتطي طائر الرخ الأسطوري في حلمه هذا،.. كانت أسقف فندق قصر وندسور مرسومة باليد، ونظر إليها الرجل عازماً على الثأر، وكانت حجرته ذات السقف المرتفع، وطراز العصر الـ"إدواردي" تزيده عزماً، سيبيت هنا ليلة واحدة، وسيدبر الأمر في غداته، لقد انتهت الفكر العدمية من دنياه وحل محلها رغبة غاضبة في العودة إلى فيلا الأثرياء، وإلا فليطرد منيراً منها كما طرده، أوليس من بدأ بالظلم كان أظلم؟ وفي غداة اليوم التالي كان ذهب يرشد رجل الأمن إلى موقع الفيلا البيضاء بلوران يقول ناسباً جرمه إلى ابنه :

- سيدي، لقد سرق الشاب فيلا عبد القدوس دون أن يكون ثمة ما يثبت ملكيته، إنني أبوء بجرمه ولو أنه ابني، حققوا في الأمر ملياً، ومع المخض تبدو الزبدة..

اخترق الضابط مجال الحراسة الجديدة التي جاء بها منير حتى طرق الباب الذي كان رأس تمساح محنط آخر قد عاد إلى ناصيته، وفتحت امرأة سمينة وفي يدها زعافة الريش تقول :

- أهلاً بسيادة الضابط،.. خطوة عزيزة، إني تفيدة، حرم الفقيد، (ثم وهي تستمر في التنظيف وسط دهشة ذهب) أي خدمة أؤديها لكَ؟

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


في موقع آخر..

رزق مراد ببنت من زوجه أميرة وقع تسيمتها بإيمان، وحضرت إيمان إلى الوجود على غير رغبة أميرة حقاً في الإنجاب، فكانت أصغر أبناء مراد في ترتيب الأعمار بعد فردوس ورؤوف، وكان مما يثير تندر الجميع - وحتى فردوس نفسها - حقيقة أن فردوس وحين تتزوج ببَكْر فتنجب منه سيكون لها ولد هو بعمر أختها إيمان، فراحت الفتاة - لما شق عليها تصور الأمر - تخوض مع الخائضين في مزاح هازل كان يزعج مراداً ويحمله على الضجر، ولكنه - وبعد تسليمه أن لا مفر - راح يتندر هو الآخر بالأمر الطريف الذي راح يأتي به على مسمع من رواد ورشتي حانوتيه، وطفق يستخدمه حتى خبت حدته في النفوس والعقول، وعلت السآمه منه، وألفته الأسماع حتى كلت منه كلال الانصراف عنه والانشغال إلى غيره من طرائف الحياة التي اقتبست عجيبة تداري بها هذا التواتر الكلول،.. زارته فردوس إذاً وقالت له بعد أن تأخذ تهنئأه بمولوده :

- أريد أن أبث لكَ شيئاً في صدري يشق عليَّ..

وراحت تروي له ما كان من تصرف بكر حين سمع قصة العجوز، وما أبداه من الفزع المريب، ثم أردفت :

- شعرت أن في الأمر شيئاً، فالمال يجري في يده دون مورد..

واستوحش مراد استنتاجها الذي ارتأى فيه قفزاً على القرائن لا تؤيده الشواهد يقول :

- يا ويحك ! أترمينه بالقتل والسرقة دفعة واحدة؟ وقبل هذا ممارسة الحب مع عجوز؟ ودليلك على هذا فزعة هلع تصدر عن أيما امرؤ لم تتعكر فطرته يسمع ما يؤذيه من أخبار الحوادث؟

وقالت :

- أحسب أن القتل ليس من شيمه، وأما السرقة فمما لا يُستبعد أن يتورط فيها الجميع إذا ما أعوزتهم الظروف..

وكره منها مراد ما اسماه "مغالاتها في التوجس والاشتباه دون دليل"، وكان مراد يرى في بكر صورة ريفية منه، إذ هو أقبل - مثلما أقبل قبل عقود - من أصل غير متماسك - غير داعم في حالة بكر وغير معروف في حالته - إلى حياة المدينة، فوفق بعد مخاض عسير إلى التأقلم والتفوق، وقد نزع به شعوره المتعاطف هذا إلى دعمه على الدوام، وتنزيهه من شبيه ما كان ينسب إليه يوماً من زلات القصور أو أغراض النفس، وقال أيضاً :

- لماذا لم تسأليه عن مصدر المال الذي جدّ في يده؟

وقالت :

- يقول بأنه "ما بقى من مال أمه تسنيم قبل أن تنقطع بينها أواصر الصلة.".

وتنهد مراد يقول كأنما استمع لما أراحه ووافق حدساً في نفسه، وكان يجلس واضعاً قدماً فوق قدم :

- إنه صادق إذاً فيما زعم..

- ولكنه (أي المال) كثير فوق أن يكون بقايا لهبات تبعث بها ريفية إلى ابنها الذي في المدينة..

وأعادته قولتها إلى الصفر على نحو حمله على الانفعال، ففك رجليه عن التفافهما وأعادهما إلى حالتهما الطبيعية يقول : 

- فلتستعيذي بالله مما في صدرك من وساوس، ولتتوضئي متى انتابتك هواجس الظنون..

وتركت الفتاة أباها بعد أن وهبت إيمان النائمة على سرير من خزف حمال للأطفال (سلة موسى) قُبلة أصابت وجنتها الحمراء، واستيقظت الصغيرة فجعلت تبكي دون أن تستجيب لمحاولات مراد في تهدئتها وطمأنتها، وقالت فردوس :

- إنها مشاغبة نشطة، ستكون أهدأ حين تحضر أمها..

وقال مراد في رثاء :

- من أسف أن أمها تتنكر لرعايتها..

وهدهدت فردوس إيمان حتى نامت تقول :

- فليصلح الله وحده ذات الصدور..

انتشت الفتاة بما سمعته من حديث أبيها ورجحت بادئ الأمر سلامته، لقد شعرت بأنها أسعد أهل الأرض طراً، كأن شمساً قد أشرقت هناك.. كان في قناعتها أن الرجال ميالون إلى العقل في الحكم على الأمور على نحو يهيأ لهم التقدير السليم، وأما النساء - من مثيلاتها - فإلى العاطفة الجياشة الفياضة أقرب، إنها العاطفة عينها التي تجعلها أقدر على الرعاية، مثلما كانت لمسة عطف منها قد أنهت نحيب الطفلة فأتت بما عجز عنه الأب تجاه من راحت تنتحب دون توقف في سلة موسى، واسترجعت مجرى حديثها مع مراد غير مرة تريد أن تدقق فيه من كل زواياه فخلصت إلى معاتبة ذاتها ووخزها ضميرها تجاه من اعتقدت أنها قد أساءت إليه دون شاهد جزل متين، وجعلت تقول :"كان يجب أن أنزهه عن مثل ذاك ولو بدافع الحب وحده.. وما طمع شاب مثله في أجساد العجائز؟"، وطال بها المطال حائمة حول قصدها - كأنما لا تريد العودة إلى بيت الشاب دون أن تستقر قناعتها على رأي حاسم حازم - وأرهقها السير والفكر حتى ابتاعت آيس كريم الليمون الشهير من جرانيته مهدي تروم أن تعوض بعضاً مما قد استهلك من طاقتها، كان حانوتاً قديماً - كواحد من أقدم عشر حوانيت في المدينة - وجذوره التي هي كشك خشبي قد اختلفت كثيراً عن مآله، ووجدت الفتاة نفسها حائرة وراء صفوف الجرانيته الملونة التي رصت كباقة الورد الملونة،.. غير أنها وحين أشفت على الرجوع إلى المعمورة وجدت رجلاً مهيب الصورة في مدخل البناية التي كانت قد أوشكت أن ترتقي في درجها، ومضت دون أن تعيره اهتماماً، ولكنه هتف بها يقول :

- عفواً، بنيتي، هلا أمكنني الحديث إليك..

وزادها سؤاله ارتياباً منه حتى امتلأت بالخوف، لقد فجعت الفتاة فجاوبته أن نعم وهي على حال يُرثى له، وقال :

- إني ثروت الخرباوي، وقد عرفت بتورط صاحبك في جريمة القتل المعروفة..

وتضاعفت عواطفها حتى صارت مما لا يستوعبه جهازها العصبي، فارتخى عزمها، ما حديثه إلا طلقة رحمة ! كانت قبل الساعة أشبه إلى من دلف إلى حجرة مظلمة معتمة يقبع فيها حيوان الفيل، فإذا أمسكت قدمه ارتابت بين حقيقته وبين جذع الشجرة، وإذا وقع أن أمسكت خرطومه تشككت في كونه ثعباناً يسعى، والآن أضيئت الأنوار وانتفى الاشتباه، والحقيقة في مرأى عينيها رأي الكمال : لقد أبصرت الفتاة كامل صورة الفيل.. وسألته في صوت وانٍ :

- وأنى لكَ أن تعرف؟

- كنت أرسل من يقتفي أثره في أوقات خلوته حين يحدث أن يترك العمل، وينفرد بالبحر، وقد وصف لي رسولي ما لا اشتباه فيه من تورطه في مصاحبة العجوز..

وجلستْ على درج السلم لما كانت لا تطيق الوقوف، وانتقلت من حال الارتياب إلى التصرف بعد أن سكن جأشها بعض سكون :

- وماذا تريد لقاء التستر على الأمر؟

وقعد الرجل إلى جوارها على الدرج المترب كأنما يهدف إلى طمأنتها بحركته، يقول :

- سألزم الصمت إزاء الأمر، وسأطويه في أسحاق النسيان، إني على يقين من أن شاباً مثله لا يقتل، ولا يفعل مثل ذاك أبد الأبيد، وإن هو سرق فلأنه كان في أمس حاجة وأشد عوز، أجل،.. أريد منه مطلباً يتمياً واحداً : العودة إلى العمل في كازينو الشاطبي..

ونهضت دون أن تمسح ما قد علق بفستانها من التراب، وارتقت الدرج فتعثرت لدى سلمته الثالثة ولكنها ما لبثت أن استردت توازنها، وحين تسللت الظلمة إلى صورتها الصاعدة، كانت تقول فيما تهب الرجل التفاتة متأخرة بعد أن تنهي الاستماع إلى مناجاة باطنها :

- أعدك بأن أظهره على مطلبك.. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق