استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/06

حديث الغريب

                                  الفصل السادس عشر: حديث الغريب




لم يتخلَ بكر عن أمله في زيارة الإسكندرية رغم محاولات أمه تسنيم إثنائه عن الأمر الذي عدته خرقاً للقواعد غير مغفور، كان يتمشى قرب الترعة دون أن يهبط إلى المجرى المائي - الذي تحذره أمه من الولوج إليه أو الاستحمام فيه مخافة الأمراض الطفيلية - حين سمع اثنين من الريفيين يستحمان فيها ويتحدثان، قال الأول :

- يقولون بأن عرساً عظيماً ستقيمه عائلة أبي جريشة لابنتهم المتمردة، لقد رضوا عنها أخيراً، بعد أن كانت سبباً في عودتهم إلى الإسكندرية..

وخلبت المفردة "الإسكندرية" لبه فتدانى إلى الترعة في مسار هابط غير مكترث لانغراس ساقيه في تربتها الطينية الثقيلة كيما يتسنى له أن يسمع  لحديثهما على منوال أفضل، وقال الثاني واسمه إبراهيم :

- سيقام العرس في أطفيح، ليلة الثامن والعشرين، قريباً من القاهرة، هكذا سمعنا ونسمع، وإنما يراد به المفاخرة وإثبات الأمر على المشاع، إذ أن الزوجين قد تزوجا فعلاً..

وقال الآخر وهو يأخذ يغمس جسده في الماء غير النظيف كأنه خنزير يستحم في وحلة من طين :

- لقد جلبوا العار لاسم العائلة إذاً..

- ما عاد أحد يهتم بهذه الأمور، ابتلعت العولمة التقاليد والثقافة وصار أهل الصعيد كالأوربيين !

- ما معنى العولمة؟

- إنه موضوع يطول شرحه..

وكان الأول قد وعى أن بكراً يقف فيستمع للاثنين، وقال له وهو يمد يده :

- لماذا تقف خجولاً هناك، أيها الصغير؟ أنت ابن المغفور له نوح، هاك يدي !

ومد الرجل يده بعد أن سبح إلى الضفة بجسده فمد بكر يده بدوره، وجذبه الآخر إلى الترعة جَذَبة كالخداع فغرق جسده فيها، تلوثت ثيابه فيما علت قهقهة الرجل، قال ثقيل الظل وهو يلحظ محاولة بكر البقاء على السطح :

- لا تبتئس، فكلنا تعلمنا العوم بعد أن شربنا الماء..

وصعد به الرجل الآخر (إبراهيم) فأنقذه من الغرق بعد أن اعتذر له عن حماقة الأول، عاد بكر إلى بيته مستخزياً كأن ديك نقره وقد تلوث هندامه، كان يمضي فتطارده نقط الماء التي تهبط من ملابسه المبتلة، ومالت به الأرض والفضاء، ووقف أمام أمه يتعثر في أذياله، وهال تسنيم أن تراه على هذه الحال، فقال يبرر لها :

- اقتربت من الترعة، أردت أن استكشف صورتها، ثم انزلقت قدماي..

وقالت في حزم :

- أخبرتك بأن تتفادى الاقتراب من الترع، إلهي ! إني أظهرك على خلاصة ما قد تفيد منه وأنت غير مبالٍ، لقد عركتني الحياة وثقلتني، ومن الخير أن تسمع لي وألا تصعر خدك..

وجاءت له بثياب جديدة ودلف إلى الحمام فلا عاد يظهر منه ما يدل عليه إلا صوت يقول :

- تمنعين عني كثيراً من الأشياء، الاقتراب من الترع، السفر إلى الإسكندرية، شرب الشاي.. وهلم جرا.

وخرج من حمامه كأنما استعاد نظافته وبياض ثيابه، فطفقت تقول له :

- حقاً؟! وكأنني أحجر عليك ! إنني أسمح لك بالسفر إلى أي مكان آخر..

وبرقت في ذهنه خاطر تولد من سماعه لحديث الرجلين لدى الترعة، فقال :

- لماذا لا نسافر إلى أطفيح؟ يقولون بأن عرساً مشهوداً سيقام ليلة الثامن والعشرين من هذا الشهر هناك، علاوة على أن حرارتها ألطف من هنا..

لم تقبل الأم أن تذهب إلى العرس المجهول، قصد بكر يومذاك إلى قبر أبيه نوح في مقابر المسلمين وظل يشكوه الحياة المغلقة التي تفرضها عليه الأم، كانت تسنيم قد تعقبته فسمعته ولان قلبها حين سمعت مناجاته المتعذبة، واستمزجت الأم ابنتها بدور الرأي فلم يبدُ أن لدى الفتاة الطيعة ما يمنعها، وقالت تسنيم بعدئذٍ:

- وليكن !

وقالت لبكر أيضاً وهي تصب كوباً إضافياً من الشاي من إبريق من خزف :

- سأسمح لك بكوب وحيد تشربه لأن ثيابك صارت ناصعة..

في ليلة الثامنة والعشرين كانت الأسرة الصغيرة قد سافرت من أبي تيج إلى أطفيح، هناك تمضي تسنيم - آخذة بيدي ولديها - بين المدعوين، الذين يسألونها :

- أإلى أهل العريس أم العروسة تنتسبين؟

 تقول وهي تتخذ لنفسها موضعاً بين هذا الحشد في منطقة بين بين :

- إننا محض متفرجين..

يقف بكر ها هناك يرقب مظاهر الزينة والاحتفال ثم يقضي حاجته فينصرف، وتنصرف من بعده الأم فبدور، وأبصر فرساً قوياً مزيناً بسراج وفوقه سجادة من حرير، الطعام مجاني، يتواتر الخلق على النهل من نعمته، والاستزادة من فضله، يقولون : "إنه أدسم من أيما طعام عرفناه.."، وتلوح نور مزينة بالكحل والسواك والعطور، فيعن للصبي (بكر) أن يتطلع إليها طويلاً وأن يهمس :" هؤلاء هم أهل الإسكندرية إذاً.."، ولم يجد في صورتها غريباً عما قد ألفه، وكانت الفتاة قد تشربت الصورة الصعيدية التقليدية في خلال فترة الإعداد التي سبقت هذا اليوم الموعود، ورفلت في فستان أبيض مزخرف فأمكنه أن يميز أدق تفاصيله بفضل شفافية الهواء هناك، ولاح عز ببذلته وجسده القوي الملآن، ولشد ما تعلقت به نفس بكر، وألح الأهل على نور أن تركب الفرس فتأبت على الرضا بالأمر واستثقلته، ووقع الشجار، وقال عز :

- دعوها وشأنها..

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وأجابه رجل له سمت ووقار ينيف على السبعين من أهل العروس :

 - ستمتطيه لأجل أولاء المدعوين..

- العرس عرسها وليس عرس المدعوين..

- لن تمتطي ابنتكم الحصان قبل أن تركبه أنت..

وأثارت قولته استياءً تجلى في عاصفة من الهمهمة والمذمة، أجابه الرجل:

- يا بني : تعلم قبل أن تتكلم !

وعد عز الأمر إهانة جديدة وكان قد فاض به من الأسرة التي ارتأى نفسه قد منَّ عليها دون أن تحفظ له الجميل، مضى عز يومذاك غاضباً فترك عرسه ومضى، وتاه الشاب في نواحي أطفيح، وألبسته رعونته ثوب الضياع، واشتدت بأهل الفتاة محنة لا قبل لهم بها، سيضيع كل هذا التجهيز سدى، وفوق ذلك فالألسنة تتحدث وتلوك، وبم يشبع الفراغ إلا لغو؟ ومضت ساعة أو ساعتين فقيرتي الروح، محفوفتي بالهواجس، وهنالك تطوع بكر بالذهاب يتحرى السبيل إلى العريس  الغائب، ونصحت تسنيم له بالبقاء تقول :

- ستتوه مثلما تاه هو..

ومضى بكر دون أن يشاور أمه في الأمر فجعلت المرأة تندب حظها، تلوم نفسها يوم طاوعته على المجيء إلى العرس المجهول، ولكنها ما لبث أن استقرت بعد شتات نفس فجعلت تردد الرقى، وصادف أن لاقى عز بكراً، قال له بكر في ثقة عجيبة وهو يأخذ يمضي معه :

- إنا غريبان ههنا، وكل غريب للغريب نسيب !

- هل تعرف كيف تعود؟

- حفظت المداخل والمخارج جيداً، ولكنني بحاجة إلى التريض رفقتك قليلاً، وعدم التعجل بالعودة، لدي بضع أسئلة.

مضى بكر بعز في نواحي المركز الذي يقع على الضفة الشرقية من النيل يسأله عن الإسكندرية، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة : العادات والتقاليد، المناقب والمثالب، الحاضر والماضي،.. إلخ، ولم يشبع نهمه بعد ما ينيف على نصف ساعة من الروايات التي كانت تصف له عالماً جديداً، أخاذاً، كان الوفاق بين الاثنين قوياً كعنصرين متجانسين، أو كوجهين يعرفان بعضهما منذ قدم، واستعجله عز في العودة يقول :

- إنهم في حاجة إليّ، وصاحب الحاجة أرعن.

 - أريد عنوانك بالإسكندرية.

- أقيم بالمعمورة، حي المنتزه، شارع خالد بن الوليد.

- تبدو غير مستريح هنا،.. لماذا تكره الصعيد؟

- ستفهم حين تزور الإسكندرية، بعض المدن الكبيرة كالقاهرة تحتاج إلى أكثر من زيارة كيما تمتطيها، وتألف العيش بها، أما الإسكندرية فتشعر بأنك كنت تعيش فيها دائماً،.. آفة المجتمعات المغلقة هو غياب الفردانية فيها، الأمر يكاد يقترن بجنوب العالم، إذ يتفق أن يشعر المرء بكينونته كلما صعد إلى الشمال، لابد من حد أدنى من حرية الفرد في أي مجتمع وإلا يستحيل إلى ترس في آلة مجتمعية خانقة، وعلى هذا النحو  يحس المرء بالحرية في الإسكندرية فوق أطفيح، وفي شمال المتوسط فوق الإسكندرية !

وأشعلت العبارة غيرته (بكر) وحماسته مجدداً كأنه انطوى على نار مستوقدة، وجعل يقلده في شيء من العجرفة المصطنعة يعيد على أسماعه قوله الأخير :"ستفهم حين تزور الإسكندرية.."، يقول عز :

- شاب لطيف مهزار.. كم عمرك؟

- سأكمل الرابعة عشر قريباً.

وخلع عز خاتمه الفضي فألبسه في إبهام الفتى يقول :

- ستجيئني يوماً، سأستضيفك بالإسكندرية، في كبائن الفردوس، أو مكسيم، لدي رغبة في السكنى هناك، وحين تحضر ستكون رغبتي هذه قد تحققت، سيكون الخاتم علامة كيما أذكرك، لا تضيعه.

وقال بكر كأنما أراد أن يمحي آخر ما يؤرقه :

 - أمي تقول عنكم أنكم  (يريد أهل الإسكندرية) مخادعون وخطرون.

وقهقه عز يقول :

- سترى هذا بنفسك يوم تحضر..

قبض عز على خاتم الفضة كأنما عثر على جواز سفره إلى المدينة، ولعله أخذ يتساءل : متى يستوي ويرشد فيترك قوقعة الوصاية تركاً يتنسم معه سلطة القرار؟ متى يستقل ويكبر فيفارق جناح الرعاية الذي تفرضه عليه الأم فرضاً يكبله ويأسره؟ سيعانق المستحيل، وسيقف على سور الكورنيش - الذي سمع لتوه من عز عنه - يتحدى عباب البحر، وسيخفق قلبه بالنشوة أمام القلاع والشطآن، وسيودع النهر والحر. ونبت في نفسه سحر الاستكشاف، كأنه ماركو باولو حين سلك طريق الحرير إلى الصين كأول الغربيين أو كأنه كريستوفر كولومبوس مكتشف العالم الجديد، أقول نبت في نفسه شيء من هذا صغير وبريء ومحدود،.. كانا (عز وبكر) يقتربان أكثر من مكان العرس حتى أن بمقدور الجالس أن يبصر حركتهما، قال بكر لعز :

- إن عروستك جميلة.. ولكن لا يناسبها الثوب المزخرف..

- هل تريد أن تتزوج بمثلها؟

- كلا، إنها أكبر من اللازم، لن تصلح لي..

 وابتسم عز له فبدت أسنانه بيضاء كاللؤلؤ المنظوم، عاد الغائبان فاستأنف العرس، أخذ الخيل يتفاعل مع الطبول مجدداً، وجمح به الجموح فهوت سجادة الحرير التي فوق ظهره، وهناك قال عز وهو يتصور ما كان يمكن أن يحدث لنور إذا امتطت الحيوان :

- ألم أقل لكم ؟! من الخطل أن أستجيب لمشورتكم أو لرأيكم.

احتشد بكر لأمنيته قبل الأوان فعاد إلى جوار أمه تسنيم منفعل الحواس مبهورها، تسأله مرتابة :

- فيم كان يحدثك الغريب؟ 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

  

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق