استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/22

ليس في حياتي ما أخفيه

                                     الفصل الثالث : ليس في حياتي ما أخفيه






دق الباب ساعة الظهيرة منذراً بهاجس خفي في بيت يوسف، كان الأب لم يزل منشغلاً في القراءة السادسة لكتابه المحببThe Interpretation of Dreams لـ Sigmund Freud، هذا الذي كان يرى فيه منجماً لا ينضب من التفسيرات الأولية لبعض الظواهر العصية في حياته، وأوعز إلى حسين بأن يفتح للطارق لانهماكه فيما هو فيه فأجاب الابن على مضض، وهناك ألفى ابتهال تقول في عاطفة محمومة :

- سيهدمون البيت، سيهدمونه.. الويل لهم ! كانو أغدر به من البحر المخيف.

واضطر حسين إلى مصاحبتها إلى حيث الميناء دون أن يودع أباه، أو يلفته إلى ما جدّ من الأمر الذي استجاب له، ووقف إزاء المشهد الذي تصنع فيه الرافعة (الونش) دماراً أشبه إلى بتر جذع شجرة وحيدة يعيش عليها طائر ويصنع على فرعها عشاً له، فتحيل القائم إلى ركام، أقول وقف حسين عاجزاً يتميز من الغيظ، كان زهران قد هبط على ركبتيه في ضيعة الأسف، يقول :

- بتنا والمشردين سواء..

 وجعل أنور يجمع بعض التراب الذي تخلف في أطلال البيت فيودعه في قبعته كمن يجمع الأثر للذكرى، وتطوع حسين يقول للفتاة التي استنصرته بعد أن اختمرت في ذاته ضرورة التصرف مدفوعاً بالمروءة :

- إن لكم في بيتي مقاماً طيباً..

أبدى زهران قبولاً للعرض وقد أتخمت المطامح رأسه في خضم ما انتابه من اليأس، وأما أنور فقد بدا من الصغر الذي يليق به الانجراف لإرادة الأكبر في أسرته، ومن قلة الاكتراث التي تصاحب مواقع المسؤليات المتأخرة التي يشغلها صِغَارٌ الأخوة في أسرهم، بيد أن ابتهال اعتذرت مما سمعت أو كادت، تقول :

- ما أردت أن أثقل عليك بتحمل وزر ما لا ذنب لك فيه..

 فجعل حسين يحبب إليها الأمر، يقول :

- ستكون إقامتكم لمدة تدبرون فيها أمركم..

 وذكر لها (حسين) آنئذٍ شيئاً عن شجرات التين الهندية التي ينعطف كل غصن من أغصانها إلى الأرض، وتمتد له جذور فيها ليصبح هو نفسه شجرة تين هندية أخرى، وأردف يقول في خيرية ظاهرة :

- ستكونون كمثل هاته الأغصان في تكوين شجرة بيتنا.

 فرضيت ابتهال بتصويره رضاءً حملها على قبول عرضه، وتخلت عما بقى لها من دواعي الحرج الزائد، وعليه، صحبته الأسرة المنكوبة إلى سكناه بكرموز، كان البيت رغم وقوعه في نطاق الحي الشعبي مزوداً بأثاث فخيم، وبسط منمقة، على نحو يثير العجب في النفس، لتضاد العناصر في حياته، واختلال الانتظام في مظاهره، فإذا نظر الرائي إلى نافذته ألفى حارة شعبية خالصة، وإذا هو عاد إلى ما في داخله وجد آيات الثراء الناضح والغناء المبين، ولعله عبر بما اشتمل عليه من تناقض وبنحو ما على مسيرة حياة صاحبه يوسف.. واستقبلهم يوسف يقول وهو ينهض عن كرسيه الخشبي الهزاز وعن كتابه، فيسلم على أولاء الوافدين في ترحاب :

- أنتِ ابتهال، بديعة مثلما تخيلت، وأنت أنور، شقي مشاغب مثلي، والأرواح المشاغبة تأنس لبعضها،.. وأما أنت فزهران وتبدو على الحقيقة خيراً مما كان يخلعه عليك حسين من أوصاف..

وأورث حديث يوسف نجله حرجاً عظيماً، فنغز الابن أباه في جنبه، وجعل يقول متصعناً ابتسامة مجاملة :

- إنه أبي وستألفون شخصيته المشاكسة..

وخلع زهران قلنسوته ثم مضى بضع خطوات حتى بلغ نافذة مفتوحة فاستشرف منها صورة المباني الخرسانية يقول :

- إلهي ! فقدنا مشهد البحر المفعم بالسناء، أردنا المعاملة الكريمة نودع بها بيتنا كالملك يغادر في وقار، ولو من غير سلطان، ولكنهم (المسؤولون في الحي) أرادوها ضيماً وإجحافاً، حاولنا بشتى السبل ولكنهم نفروا منا كالمصاب بالجذام يتقيه الناس، فلما وقع ما وقع أغلقنا أعيننا كالبُوم في الفجر، لم نحتمل رؤية الهدم، بحثت ابتهال عنك (يريد حسيناً) لأن القوم قد ينكرون شمعة ولكنهم لا ينكرون شمساً، ولكن مقدمك كان متأخراً، وحضورك كان عاجزاً.

وهرع زهران إلى نجله أنور يقول :

- فلتهب لي بعضاً مما احتفظت به من التراب، إذ هو آخر ما بقى من أثر البيت الذي يعيش فيَّ وإن ما عدت عائشاً فيه..

وبدا التأثر على وجهي ابتهال ويوسف فيما يرقبان الصبي الأسمر وهو يهب لأبيه تراباً من قبعته هو عفارة أطلال بيت منهدم، وأما حسين فقد كان من الارتياب من زهران حد أنه بات دائم التشكيك في تصرفه، وسأله (حسين) لما ترك انفعاله تركاً تزامن مع امتلاء يده بالتراب :

- معذرة، ولكن هلا رويت لي السبب وراء هذه الحروق التي تظهر آثارها على وجهك؟

وانفعل زهران انفعالاً آخر يقول :

- لمَ تريد أن توقظ ذكرى القصص الأليمة من سباتها ومرقدها؟ (وواصل يسرد السبب وكان يليق به ألا يورده عطفاً على الجملة الأولى..) كنت في نعمة الطفولة وبراءتها، أغط في عالمها الذي تبدو فيه كثير من المعاني بلا مسميات، تركني والديَّ إذ هما كانا من حب الصيد في نهاية وقد جُعل رزقهما في صنارته، اشتعل البيت بما به ولا أحد يعرف حتى يومنا كيف أقلقت النار الجمادات فيه، ولا كيف بُعثت قبلئذٍ من مكمنها،.. كان من تقدير التصاريف - التي بدت مستردة لواجبها في تسيير الأمور بعد غفلة - أن حضر الغائبان (يريد والديه) فإذا هما يخلصانني من لظى الحريق، وينقذانني،.. ينقذانني بما قرن بوجهي من العلامات الشائهة - التي هي أثر كارثة لم تكتمل - قراناً غير مفارق !

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

والتفت حسين إلى ابتهال فوجدها قد انصرفت عن حديث أبيها إلى المطبخ بعد أن أشارت إليه، ونهض زهران إلى ابنته فجعلت تقول له كالهامسة، تغسل يدها بالماء :

- لمَّ تصر على الكذب واختلاق الزيوف؟ لقد ألفتَ مئة قصة مختلفة في تفسير علامات وجهك.

وقال :

- ولو أنني أفصحت له عن الحقيقة لنبذنا واحتقرنا..

وقالت :

- كانت العلامات نتاج إحدى الشجارات حول مراهنات الكرة في مقهى من مقاهي بحري، إلهي ! لقد صدقت سرديتك، حتى أنني صرت من القناعة بأن بمقدور المرء أن يمرر أيما حديث على سامعه إذ هو حمله ما يكفي من العاطفة، وتكلف فيه الإثارة البارعة وجرعات من المبالغة المحسوبة.

ووهب زهران يوسف نظرة فألفاه جالساً على حال من القراءة كأنما ينعم في براءة ساذجة، ثم مرر ناظريه إلى حسين الذي كان لا يزال يتابعهما ببصره، فقال :

- فلتخفضي صوتك.. والأفندي (يريد حسيناً) في ارتياب لم يتركه منذ كشفتي له ما كان أولى بالستر والتغاضي.

وقالت في عزم جهير :

- سيترك الأفندي ارتيابه منك إذا أنتَ كففت عن الإفك.

وقال :

- يجب أن تتزوجي به، أن تتجردي من سلبيتك، إننا معدمون فقراء يعوزنا المأوى، وإذا استثنينا حسن الصورة، هبة الطبيعة التي لا تفهمين كيف تستثمرينها : إنه يملك كل شيء، وأنتِ بلا شيء.

وأزعجها قولته لكنها مضت تتظاهر بعدم الاكتراث إلى حيث عادت إلى اجتماع الأب مع نجله، تقول وهي تمسك بخلخالها الذي خلعته في يدها :

- لشد ما بات يزعجني ! سأبيعه، إنه من الفضة،.. وما أحوجنا الساعة إلى مقابل نحوزه لقاء معدنه النفيس !

وترك يوسف كتابه العلمي الذي يتعرض لنظرية اللاوعي وتأويلات الأحلام، ويناقش ما أمسى معروفاً فيما بعد بعقدة أوديب، يقول :

- طوبى لقرارك هذا ! لا جدوى من الخلخال إلا في تنبيه الرجال إلى حضور المرأة، واجتذابهم إليها، وقد خبرتُ بعض النسوة اللاتي كان لموت مواليدهن يسألن قطع النقود من الجارات يصنعن بها خلخالاً يوضع في قدم المولود، أملاً في أن يهبه هذا مديد العمر، (ثم وهو يقلب ورقة في كتابه..) وهذا من العبث الشعبي المتوارث.

واحمر وجه حسين خجلاً، نظرت ابتهال إلى الأب - الذي عاد يقرأ الكتاب في غير مبالاة كأنه تمثل القول : سكت دهراً ونطق كفراً - في عجب يتشارك فيه عدم التصديق مع نسخة عميقة من الكراهية والنقمة تتساءل حول مبررات حديثه غير المبرر في نظرات متطلعة، حتى حضر زهران فأخذ يقول عطفاً على حديث يوسف الذي كان كقذيفة مدفعية عابثة لهاون في ميدان :

- لا حاجة بابتهال إلى الخلخال أو إلى غيره، إذ أن لها من مخايل الأنوثة الطبيعية ما يكفيها اقتناء الصناعي منها.

واستردت ابتهال شعورها بالرضاء عن ذاتها ووجدها، تقول :

- ينصفني أبي دائماً، وصحيح أن المثل يقول بأن القرد في عين أمه غزال، لكنه لم يتعرض للأب،.. ولولا تشجيعه المتعصب لنادي الزمالك ودأبه على الانخراط في المراهنات التي جرت علينا الخسران لرضيت عن مثالبه الأخرى !

وقال زهران :

- فلينقموا عليَّ حبي له ولكنهم لن يغيروا من الحقيقة شبراً واحداً : لقد ظفر الزمالك بتتويجه الرابع للدوري هذا العام.

وتدخل يوسف يقول :

- لقد حقق الأهلي عين الإنجاز في الموسم الخامس للدوري لأنه فاز بأربعة منهم، فيما كان خامسهم قد أُلغي.

وقال زهران :

- وكأنك تؤثر النحاس على الذهب لأنه أوفر.

وابتسم يوسف يقول :

- مهلاً مهلاً، قلت هذا من سبيل المكايدة،.. فقدت اهتمامي بالكرة منذ هبط يونان الإسكندرية في موسم 1949م/1950م هبوطاً لم يُرَ بعده.

- بربك.. لماذا تشجع نادياً له هذا الاسم؟

وقال يوسف :

- أحببت الجالية اليونانية والإسكندرية حباً منقطع النظير أورثني التحمس لكل ما يمثلهما.

- أعذرني، إنه ليس أكثر من نكرة بين عمالقة اللعبة.

وترك حسين وابتهال أباهما ومضيا إلى شرفة البيت كيما يتيحان لنفسهما شيئاً من راحة ورَوْح، تركاهما يخوضان في حديثهما غير المهم دون حتى أن يلحظا تسللهما، كانت أنفاس الخارج حارة معبقة بطبيعة الحي الشعبي، اعتذر حسين للفتاة من تصرف يوسف وبادلته هي عين الاعتذار من تصرف زهران، كانا يستشرفان الشارع من الطابق الثالث فيبصران صورة بائع الفول في نشاطه النهاري، يمسح يديه بخرقة، ثم يقذف بالفلافل في مقلاة الزيت الذي لم يتغير، قالت :

- أبي يحثني على التقرب منكَ.

وقال حسين إذ هو ارتبك بعض ارتباك، كانت عيناه عميقتين تسبغان على وجهه المهزول جاذبية ساحرة :

- أنتِ صريحة اللسان، مباشرة القصد على نحو يثير العجب.

وقالت :

- أيقنت بأن ليس في حياتي ما أخفيه يوم وعيت أني لا أملك كثيراً.

وقال وهو يبصر تهافت المشترين على البائع الذي لا يراعي أبجديات النظافة :

- أعلم أن تسعة أعشار حديث زهران مختلق مكذوب، أوعزت إليَّ تجاربي في الحياة بألا أصدق المغالين، من أراد الإقناع العقلي التمس أهدأ وأبسط السبل،.. تبدين آية التناقض معه.. ولكنك تستحقين بعضاً مما يورده في حديثه من الثناء يخصكِ به، (ثم وقد طاف في خاطره طيف إيفون فيحتد في نبرته..) عرفت من النساء في باريس من يألفن الملتوي من أساليب الكذب والخيانة.

وسألته وهي تهب الأفق الآخذ في المغيب نظرة متنهدة بعينيها المكدودتين :

- فلتروِ لي قصتك معهن، إن بي شوقاً إلى معرفة المزيد..

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق