استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/16

السفر إلى الحياة الجديدة

                                                      الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة





حقق فيلم الزهرة الحمراء نجاحاً متوسطاً في سوق أفلام المقاولات، شجعت الإيرادات غير المتوقعة، الكبيرة نسبياً - قياساً إلى رأسمال فقير أُنفق على الفيلم - المخرج مظهراً على أن يعود يعتمد على نور في فيلم آخر لم يتخير له - بعد - اسماً، أصابت نور حظاً من المال الذي أضيف إلى رصيد ما كان يحصده عز من ثمرة عمله بكلية الشرطة، فأمكن للزوجين أن ينتقلا للعيش بكبائن الفردوس في نطاق سكني أفضل بالمعمورة، على أن الأخيرة (نور) بدت غير مرتاحة قط للعمل مجدداً مع المخرج الغريب الأطوار، بطبائعه الفظة العصبية، إذ بدا أن تسفيه الرجل للممثلات المعروفات - على مثال فاتن حمامة وسعاد حسني - كان يخفي شعوراً أعمق بالنرجسية، وعوز الحيلة في استقطاب الأسماء الأهم لمشروعاته السينمائية التي تفتقر إلى سخاء الإنتاج.. وقالت له نور في عصبية مفرطة - انتقلت إليها من مسلكه - غريبة عن طبيعتها :

- الحبكة في الفيلم لها الأسبقية على الوصف التفصيلي كأنك تستبق الزمن، الحوارات عاطفية وطفولية على نحو مفرط أبله، الشخصيات نمطية حتى أن بمقدور المشاهد النابه أن يتنبأ بتصرفها قبل أن تأتي به، وأما الموضوع فعن القضايا العائلية والحب والزواج.. إلهي ! ماذا بقى للفيلم من عناصر السينما؟

والتفت إليها مظهر يقول بعد أن يزفر الدخان :

- هذا لأننا نمثل رواية ميلودرامية، لقد أحسنت تعريفها، ولكنك تمثلت صورة المعترضة، أحسب أن جهلاً هو نعمة في حالتك !

وقالت كأنها ابتلعت إهانة لتنتقل إلى الحديث عما هو أهم وأفدح :

- وأما الطامة الكبرى : تريد مني أن أقفز بهذا الحبل، ومن فوق ارتفاع ذاك التمثال الشاهق ! (ثم وهي ترمق التمثال من إخمص القدم إلى الرأس في ارتفاعه وصرامة تقاطيعه كأنما جُرد من الحياة..) إلهي ! هل تظنني لاعبة قوى أوليمبية؟

وقال مظهر لها كأنما يخفي غرضه وغضبه في اختلاق شيء مهم :

- إنكِ أهم من هذا، ويجب أن تضحي من أجل قضية الفن.

وجلس الاثنان - مظهر ونور - قاطبين صامتين كالمتخاصمين، وهناك تدخل مساعد المخرج، والمصورون لإصلاح ذات بينهم، مكث مظهر صامتاً وحوله زوبعة من الأدخنة صنعها ما كان يشربه من السيجار في نهم لا يعرف الكفاية (يشرب الرجل مئة سيجار في اليوم الواحد!)، ساهماً كأنه لا يسمع من يجيئه، وأما نور فقد تخلت عن بعض كبريائها فها هي ذي تنهض فتربط هاته الحبال حول وسطها كيما تؤذي القفزة الصعبة وسط تصفيقات طاقم الفيلم، وأُديرت الكاميرات، ودق ذراع مؤشرالكلاكيت الخشبي، فطفقت الفتاة تقول لممثل آخر يؤدي دور الشرير الأرستقراطي، يطاردها فيما يشبه المعبد الكبير :

- لن أهرّب الآثار، سأنتحر كيما أتحرر من سلطتك، الانتحار أهون من الخيانة.. أيهذا الوغد النذل !

وقفزت من قمة التمثال، فلما اقتربت من الأرض مسافة أمتار ثلاثة خف إحكام الحبل حول وسطها، وتحررت العقدة التي كانت تلف الوسط من جسدها الهابط، وأحست شعور المرء تحمله يدان فتتخليان عنه، فإذا هي - بعد ذاك - تسقط سقوطاً شديداً، واجتمع حولها الطاقم فكانوا من الزحام في نهاية إذ لم يكن لأحد منهم سوى موطئ قدميه، فهتفت بهم : "لقد كسرت ساقي.. آتوني بالطبيب.."، وجاءها الطبيب الذي ألزمها جلسة البيت مدة شهور ستة، ضاعت منها فرصة الفيلم ولكنها لم تبتئس قط، وكانت تقول لعز باسمة الوجه في رثاء :"كسرت ساقي،.. مثلما كُسرت ساقك يوماً أيضاً،.. لقد عاقبتني السماء لقاء ما كنت دائمة الاستهزاء بك يومئذٍ.."، ولكنها لم تجد منه أصداء الاستجابة التي توقعتها فتساءلت كأنما تستخبره عن أسباب حياده :"ماذا بك؟"، وقال:

- إنني حزين لأجل حالتك..

وكانت على سرير الراحة، متصلبة الجذع، مشدودة الساقين، متجمدة الجسم، قالت :

- إنني أتحسن، سأكون على خير ما يرام..

فلما لم تجده راضياً بعباراتها القنوعة فطنت إلى حقيقة مراوغته في جوابه الأخير، وقالت :

- فتلحدثني حقاً، بما في نفسك..

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وأخذ يراوغ ويناور، يذكر لها تارة حزنه على أمه صابرين، وطوراً يورد انزعاجات يجدها في كلية الشرطة، ثم أفضى به إلحاحها إلى القصد إلى رأس الأمر في أسى :

- قصدت إلى الطبيب الذي اطلعني على عدم قدرتي على الإنجاب.. 

وصعقت بما سمعت فكأنما ودت لو أنها لم تلح عليه السؤال فتظل الحقيقة المؤلمة مطمورة عن الظهور.

 

 في هاته الأثناء كان بكر - بعد أن انسلخ عن أسرته - يتنقل بين القرى في أبي تيج، إنه في سعي الوصول الحثيث إلى الإسكندرية، كان مسافراً ذَرِعٌاً، يسير ليلاً ونهاراً، كثير السؤال الذي يحمله على الالتباس، أشبه إلى رحالة سَرُوبٌ، ذاهب على وجهه في الأرض، يخفي هويته كيلا ينفضح أمره، وبلغ العاصمة فنزل بها بعد أسابيع تنقل رثت معها ثيابه، وهاله ما وجده فيها من قبح وتنافسية لا تعرف الرحمة هي المضاد لما عايشه طيلة حياته من تشاركية الريف وبهاء طبيعته، وضاق ذرعاً بالعوادم فيها والزحام، ولعله تمنى أن تكون الإسكندرية - من جهة طبائع أهلها وحقيقة معاشها - أفضل حالاً من العاصمة،.. وتذكر قول عز له يوماً حين قابله في عرس أطفيح :

-"بعض المدن الكبيرة كالقاهرة تحتاج إلى أكثر من زيارة كيما تمتطيها، وتألف العيش بها، أما الإسكندرية فتشعر بأنك كنت تعيش فيها دائماً،..".

وتنبه بكر إلى خطيئة السفر دون مال أو تحضير مسبق - تنبه إلى ذاك متأخراً، فلما استقل قطار الإسكندرية لم يجد مفراً من أن ينام مسطحاً فوقه كيما يتهرب من دفع التذكرة التي لم يكن يملك قط ثمنها، وأورثته شحة مورده مكراً واستعداداً غير محدود للمغامرة، تمر الكباري فوق رأسه وتقاطعات أسلاك الكهرباء غير بعيدة، ثم حدث أن ظهرت في القطار سيدة خمسينية مختمرة، معها "بؤجة" (صرة)، وخشت المرأة أن يفسد ما فيها من الطعام لحرارة المكان بالداخل، وتوسمت في بكر الأمانة، فقالت يُسمع منها الصوت ولا يبدو الفم أو تعابير الوجه :

- هل تحتفظ بها (أي البؤجة) لي عندك، أيهذا الفتى !

وتلقفها بكر، يقول :

- على الرحب والسعة !

- إني أوصيك على ما فيها من الطعام !

- سأَضعه في محل عيني من الاهتمام !

وتركته المرأة الخمسينية فولت عنه بصرها، ثم  غفت بعد مدة من مسير القطار، وانفرد بكر بما زينته الحاجة في نفسه، كأنما مدت الـ"بؤجة" حبائل الشيطان في فكره، ولكنه طفق يعاتب نفسه يقول :"ويحك ! هل تبدأ حياتك الجديدة بالنهب والاحتيال؟.. كلا.. وخير لك أن تنام على الطوى.."، وقرصه الجوع فعاد شيطان نفسه ينفث في وعيه وساوسه :"فيم الخوف؟ ألا يعينك الركوب على سطح القطار على التغلب على المخاوف أياً كانت صورتها؟ أي تهديد يفوقه؟ وأي قلق يفضل عليه؟ لقد هربت من الكُمساريّ، وستهرب من المرأة المختمرة، وستحمل البؤجة ما يشبع بطنك، وستبدأ حياتك الجديدة حين تصل إلى الإسكندرية.. فيم الخوف؟".



 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

  

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق