استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/23

ما لا نبوح به

                                       الفصل الخامس: ما لا نبوح به





تعافت نور من إصابة ساقها فلم يبقَ لها من أثر سقوطها من التمثال إلى الأرض في استوديو التصوير إلا ذكرى وعبرة، وصارت منذئذٍ تخشى المرتفعات كأنما انتابتها تجاه الشواهق فوبيا مرضية فصار مما يسيطر عليها حيال النظر من أدوار ثلاثة أو أكثر رهاب لم تُولد به،  وقصدت إلى مكتب المخرج مظهر تسأله :

- هل بمقدوري أن أستأنف العمل؟

وقال فيما يرفع رأسه عن حزمة أوراق فيبدو قوس حاجبيه لتركيزه على صورة الثمانية :

- لقد تأخرتِ كثيراً، كلفتُ ممثلة أخرى بالنهوض بالعمل، وقد ذبحنا العجل وقطعنا الكعكة والتقطنا الصور.

 وانفجرت فيه تقول وقد احتقرت بساطته في عرض الأمر :

- إلهي ! لشد ما أنت مستهتر ! هل تحسب أنك على شيء؟ ما أنت إلا مخرج..

وقال متدخلاً، كأنما يقطع عليها السبيل إلى نقطة اللاعودة في علاقتها به فيقيها الوقوع فيما لا اعتذار منه :

- سأتفهم غضبك أكثر إذا أنتِ عبرّت عنه في صيغة لا تجاوز فيها.

وقعدت قبالته وقد أغرته عبارته بالتماس الأدب على انفعالها، ونظرت إلى زجاج المكتب الذي كان يكشف عن حديقة بها أشجار برتقال وليمون مهجنة، تقول :

- ليس للغاضب أن يسيطر على طريقته في التعبير، لأنه ما يعود يملك ناصية نفسه.

وقال :

- حري بكِ أن تملكيها في مكتب الرجل الذي قفز بك من صالة الباليه إلى شاشة السينما، فلتسمعي لي : إن بالحياة أناساً طيبين، طيبين حد السذاجة المعذبِة، لا يسوؤون ولا يسيئون، وهم لبراءتهم يعتقدون الخيرية في الناس جميعاً، فيضنيهم ألا يجدوا معاملة المثل، وآخرون على حال من سوء السريرة يسممون الدنيا كالهوام، ولست أحب أن أستفيض في شرح هؤلاء، إذ أن أنفسهم لما هي من الحطة مُسلطَة عليهم فتجعلهم في معيشة ضنك ولو أصابوا بعض النجاح،.. وبين الطائفتين كثرة كاثرة هي بين بين، تبحث في نقاط المصلحة المشتركة، ولا تغضب حين يبادلها الناس عين المعاملة، لأنها تدرك أن بهم ضعفاً مثلما أن بذواتها ضعفاً مماثلاً، وتلك الطائفة الأخيرة هي التي أنتمي إليها.

وأورثها حديثه لوناً من الخجل الخفيف والأسف، وإن تحفزتْ لنسبة الرجل نفسه إلى الفئة الوسطى المذكورة كأنما وافق توصيفه لذاته رؤيتها له فشجعتها حقيقة أنها ما كانت تحيف عليه، وعادت تقول :

- وما العمل إذاً؟

- لقد ضاع منكِ فيلم هو عن سرقة الآثار، لم يكن نصه ذا بال، ولم يكن مقدر له أن يكون على جودة فيلم كفيلم المومياء مثلاً، وقد اشتغلت به لضرورة وما كنت لأمضي فيه قيد أنملة لو أنني كنت في سعة من المال،.. ابحثي عن موضوع آخر، سأعطيك بعض التلميحات (نطق الرجل المفردة بالإنجليزية hints) التي توافق حقيقة ما آلت إليه بعض نماذج المجتمع، إن السينما صورة الواقع ولا يجدر بها أن تجافيه : شخصية الانتهازي في السوق الرأسمالي، شخصية رجل الدين المتسلق، شخصية اليساري المثالي الكسول، الجامعي المحبط، البَلْطجيّ الباحث عن هوية، والثري غير المتعلم..، لا تجنحي للنخبوي من الحكايات، فإذا صنع فريد شوقي مجده فلأنه كان ملك الترسو (الدرجة الثالثة) فلا هو خاطب جمهور البالكون أو عُني كثيراً بمن هم في الصالة، ولتنبذي الحزين القاتم منها كذلك، إن خيراً للفيلم أن ينتهي بقبلة - كتقبيل الفراشة للورد -  من أن ينتهي بفاجعة، من زاوية الإيراد.

وذكر لها - في حديث موصول بملاحظته الأخيرة - شيئاً عن أدب الأديب كافكا الذي تقرأه فما تزال تدخل معه من عتمة إلى عتمة، وكيف كان يخرج من قراءته وقد احتقر في أعماقه هوة رهيبة في عبث حقير غريب، وأما قصة المسخ فكانت آخر علاقته بأدب الرجل،.. وجلست مدة تفكر فيما بدا لها رؤوس موضوعات عاجزة عن تأطير قصة متكاملة، فيما استأنف هو تقليب الأوارق التي بدت كأنها ميزانية ما اجتهد ملياً في التوفيق بين أصولها وبين التزاماتها، وقالت له بعد مدة:

- إن رأسي فارغ كبالون..

وأشار لها إلى هاته الحديقة يطلب منها أن تتجول بها عسى أن تنعشها طبيعتها الخضراء فتفتح لها ما قد أُغلق من آفاق تصوراتها، ومضت إلى حيث كان ثمة طفل ذا شعر أحمر بعض حمرة ووجه منهك يلهو بحبل فيأخذ يقفز قفزات بارعة قرب شجرة كبيرة أشبه إلى شجرة كريسماس أميرية، فيما يمضي الحبل متموجاً فوق رأسه وأسفل قدميه كأنه - لسرعته - في كل مكان، وأُخذت به، فحاذته قرب الشجرة ثم استدارت إلى مظهر فألفته لا يزال على حاله من النظر في الأوراق، صغيراً من وراء الزجاج، فلما أعادت البصر إلى هذا الطفل بشعره الأحمر - شبيه بشعر بكر - برق في خاطرها الحل الذي بحثت عنه، فقالت كأنها تصيح فتجيء بما هو قريب منها إلى حد أنها لم تلحظه :

- قصة الشاب الذي ترك الريف إلى المدينة،.. ألا إنه سيكون فيلم الموسم !

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

ولكن صياحها أسقط الطفل حين التفت هو عما انتظم من حركته المتجاوبة مع الحبل إليها، فسقط وهرعت إليه تطمئن عليه تقول :

- سأقطف لك من هاته الشجرة المهجنة برتقالة شهية..

 ولكنه مضى عنها باكياً وبدا أنها سرعان ما تناسته - بعد أن اطمأنت إلى أن ضرراً جسيماً لم يلحق به -  منتشية بحالتها الجديدة، وعادت إلى مظهر تقص عليه قصة بكر التي أبصرت بضع فصولها، ورأتها رأي عين : هروبه من الريف، استقبالها له في المدينة،.. إلخ، فأعجب الرجل بما سمع إعجاباً كبيراً، وقال وهو يطفئ عقب السيجار في منفضة زجاجية مترعة بالرماد:

- لقد وافقت مبدئياً على فكرتكِ، ولكي يتم لي القبول فلتأت لي بالشاب (يريد بكراً) الذي تعرفينه..

 

في أبي تيج..

ترنحت إرادة تسنيم بمضي الوقت فاستبخثت ثمن الأرض لقاء رؤية نجلها الهارب، كانت مقاومتها الشديدة لِمَا عدته استغلالاً وإجراماً في حق العدالة يتهاوى أمام لحظات انفرادها بنفسها في حاكورة منزلها الريفي الكبير، إنها إن جمعت في هاته القطعة من الأرض المتصلة بالبيت ما استزرعته فيها من البقدونس والنعناع والبندورة لا عادت تدري : لمن تجهز الطعام؟ ولمن تحقق الاكتفاء الذاتي؟ ولمن تهب المستقبل وقد غاب وليَّه في المدينة التي أمست تكرهها؟ وإن حالتها في حاكورة بيتها الموحش انتقلت إلى حوشه ومندرته وفرنه فسائر غرفه، إذ هي ما عادت ترى الجدوى حين عدمت من مشارك، وكان بكر - لِمَا يمثله الرجل من أسبقية على البنت في أعراف الريف - أحب إليها من بدور، إن الفتاة (بدور) على فرط استقامتها وما لا تتورع عن إبدائه دائماً من الطيبة الطيعة كالعجين تشكله الإصابع في غير كثير مقاومة - أقول إنها على هذا كله دون أن تعوض مكانه (بكر) الشاغر في فؤادها، وآية ذلك أنها كانت تكرر كثيراً  :

- لا يعوض بكر إلا بكر نفسه..

أسقمتها الوحدة هناك حتى لم تعد تدري أي القرار أسلم، وتوضأت فصلت صلاة الاستخارة ثم عزمت على أن تقصد إلى بيت رؤوف، ومرت في سبيلها المعتاد عبر أكواخ طينية متفرقة مُتَطَامِنٌة، وفي وسطها بيت أبيض يعلو نسبياً عما حوله، هو بيت رؤوف : من جاءته توبخه لتسلله إلى بيتها، واليوم، وبعد ما ينوف على أيام، تأتيه صاغرة، وأبصرت حوله التراب نفسه، والقش عينه، فدقت على الباب وفتح لها صاحبه، يقول في فزع مريب بعد أن طفق يقف على هذا المكتب في حجرته :

- لا أريد أن يُقصف عمري، سيدتي، أرجوك، لا علم لي بموقع نجلك، حمَّلتني جدتي ما لا طاقة لي به..

وأشفقت من أن تكون حاجتها رهينة لدى الشاب المذعور، كان لا يزال يقول :"ما أنا إلا طالب علم ألقت بي الصدف في وجه المدفع.. لا أملك إلا كد اليمين وعرق الجبين.." في حين جاور رأسه مصباح السقف بسبب تضخم طوله بوقوفه على المكتب، وجلست هي في زهو - يداري شعوراً بالتنازل عميق - كديك رومي ضخم يشارك طائر سمان حظيرته، تقول :

- لقد قبلتُ بعرضك على ما فيه من الجور.

وهبط رؤوف من فوق المكتب منتقلاً من حال الفزع غير المبرر إلى لون من الذهول العميق، يقول وقد استرد شيئاً من بأس الرجال :

- الحكمة هي ما أتيتِ به، سيدتي..

وأخرج حزمة من العقود الجاهزة لنقل ملكية نصف ما تحوزه المرأة من الفدادين التي كانت تنتظر بدورها إمضاءها، ولكنه أزاد في طلبه منها أن تبصم فطلب إليها أن تضع إبهامها فيما يشبه المحبرة زيادة في الاستوثاق، وقبلت في مزيد من التنازل كالرئيس أو الإمبراطور يوقع معاهدة استسلام في حضور أعدائه، وتطلعت إلى صورة الغزال الذي كان يبدو حقيقة لا تتغير في تكوين الحجرة، ثم قالت :

- متى يعود بكر إليَّ؟

وقال رؤوف منتشياً بما ظفر به بعد أن يودع العقود جارور الخزانة :

- مسافة وصول العقود إلى جدتي،.. ثم ما يستغرقه الترحال وعودة  بكر نفسه من الإسكندرية إلى هنا ! سيستغرق الأمر ثلاثة أيام بلياليهم على الأكثر.. (ثم وهو يحاول أن يهون عليها شعورها بالفقد فيتبعها مشيعاً إلى حيث الباب، وكان في نيته أن يرحل عن أبي تيج قبل أن يعود بكر مخافة أن تستأثر به المرأة حين تعدم جعبته من المسألة التي كانت تمنعها من الفتك به..) فليعد غانماً وبألف سلامة، إنه فتى غَرُّ غير أنه فطن..

وأخذت تسينم تعود إلى بيتها مجللة بالحزن، وجعل الأهالي يحيونها فلا ترد تحيتهم، تتذكر زوجها نوحاً :" كان سيفاً من سيوف الشجاعة، وأما أنا فكل ما عندي عصا، عصا تتكلم أحياناً ولكنها لا تقطع، إننا ما تزوجت من الرجال إلا به.."، ثم تذكرت رغبته في إعادة توزيع الميراث على نحو أكثر عدلاً هو ما انتهت إليه الأمور اليوم بعد عقد ونصف من المحاولة المتشبثة في الاستئثار، فجعلت تهمس في رثاء :"ها قد تحققت مشيئتك في النهاية،.. بيد أن الأعمى الذي يولد بإعاقته خير من المبصر الذي يفقد حاسته من جهة قبول الاختبار الذي ينزل به.."، واجتازت سور البيت الكبير في مغيب الشمس، ووطأت قدماها أرض الحوش، ثمة فأر بائس يلهو في الحاكورة، تروح الغصون وتجيء في وجه ريح خفيف، والشمس تهب الوجود ابتسامة مودع، كانت المرأة تدنو من هذه الصخرة العظيمة التي ما لبث أن تمخض عنها شيء : لقد لاح في ظلها شاب غافٍ، فلما أدرك وقع الأقدام يقظ ووقف، وسرعان ما هرع إليها يلثمها ويقبلها، وجعلت تقول بعد أن انهارت على الأرض المُدْهَامَّة :

- بكر ! إنه أنت ! وايم الله.. إن عيناي لا يكذبان قط، لقد كادا يبيَّضان عليك من فرط الحزن !

وقال يخفي رأسه بين ذراعيها :

- ما أسعد أن أعود إلى داري بعد أن ذقت مرارة الاغتراب !

وتلاقى المعتذران تلاقياً جُيشت فيه العواطف، لماذا تزوجت الأم بمن جار عليها فخلف نوحاً على غير وجه اعتبار؟ لماذا فر الابن دون علم الأم فكاد يورد نفسه موارد التهلكة؟ ما السؤال الساعة إلا عبث، كان شعورهما سامقاً، واللوم شعور أرضي يخفي نرجسية وطلب استحقاق، وقالت كأنما ارتدت من العاطفة إلى العقلانية بغتة :

- لقد عدت أسرع مما تخيلت..

وقال هو دون أن يعي ما تقصده حقاً، فيمضي غير عامد إلى ما سوف يشعل فتيل فتنة :

- فررت من قيد الذين شاءوا أن يستخدمونني، إن منهم من مردوا على النفاق ومنهم المستقيم الخير، لقد أعانني أهل المدينة على أهل المدينة، نصرني بعضهم على بعض !

وهنالك  ساورها ارتياب أحال حاجبيها الكثيفين إلى حال الانتباه،.. ثم دخلت البيت فخرجت بعد ثوانٍ حاملة بندقية الصيد، واشتم بكر ما أقلقه، فقال :

- لا أريد مزيداً من الصراع، الحياة من الرحابة أن تسع الجميع..

ولكنها مضت إلى هدفها : بيت رؤوف، دون أن تجيبه. 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق