صنعت بي خيرا

       الفصل التاسع عشر: صنعت بي خيرا




في الكويت..

تحفز أمجد للجدل حول الأحقية الكويتية في الاستقلال عن العراق متأثراً بحديث فؤاد له بمقارعة الحجة بالحجة، ولكن رمزي لم يترك لمرؤوسه الفرصة للجواب أو الحديث، وجعل يقول :

- إن المطالبات العراقية التاريخية لاستعادة الكويت مشروعة، لا يعقل أن يكون لبلد بحجم العراق حدود بحرية هي أقل من ستين كيلو متراً، وقد ظل هذا البلد (أي الكويت) تابعاً لبغداد إدارياً لولا رغبة الإنجليز باقتطاعها خلافاً لرغبة نوري السعيد وفيصل الأول !

وغضب أمجد كالإبريق يمتلأ بالبخار حتى يضطرب غطاؤه فجعل يقول :

- أراك تستخف بسيادة البلد الذي أنت فيه.

وأجابه الآخر :

- فإذا أنت صاحب البلد والسيادة، فإني صاحب الحانوت وما فيه !

وانتهى النقاش بين المتجادلين على غير هدى، وقرر أمجد الاستقالة من العمل فلحق به فؤاد قرب الحانوت لدى موقع أَشْرَفَ على أَرْضٍ بَطْحاء منبسطة، يقول :

- الذنب ذنبي، حرضتك على المواجهة الصريحة فيما كان الأولى أن تسوس الرجل..

وقال أمجد يهبه ابتسامة فيما تمضي امرأة ببرقع كأنما ينتمي إلى حقبة ما قبل البترول غير بعيد من الرجلين :

- بل صنعت بي خيراً، ولتعتنِ بنفسك ما دمت تحت تصرفه..

وعرض عليه فؤاد قطعة العنبر تذكاراً بين الاثنين فقبل به أمجد الذي بدا أنه يمضي إلى غير أمل في لقاء آخر، وكان من الثمرات الحسنة لما جد من الأمر أن آل إلى فؤاد ما كان لأمجد من تصرف في الحانوت، فنعم بأجر غير مسبوق في تجربته المتقلبة في الاغتراب حتى صار أمر الزواج مما يساور إرادته الجديدة القادرة،.. وعاد إلى زيارة أمه هدى بالإسكندرية محملاً بجديد الهدايا، هذه المرة أسرف في ابتياع صنوف العسل : الجبلي، وعسل السدر، وعسل الزهور البرية،.. على نحو أورث المرأة الامتنان والعجب، وقد زال الأخير (العجب) زوالاً اقترن بشرح السبب فحل محله بهجة وحياة تقترنان عادة في أدمغة البشر بحديث المال، وقصد إلى فيفيان كيما يكمل ما قد بدأ من جلسات ثلاثة هي بعدد قطع العنبر، وقد حدس فؤاد بأنهم - أي الجلسات الثلاث - فرصته لإيجاد سبيل الالتقاء بغادة، وقد أضاع الجلسة الأولى وها هي ذي الثانية، وسألته المرأة في حجرة شاع فيها بخور أعواد الند (هديته إلى المرأة في الجلسة الأولى) :

- أين ذهبت بقطعة العنبر؟

وقال في شيء من اضطراب إذ هو لم يتوقع أن تسأله المرأة عن هديتها الفائتة :

- منحتها لصديق في الكويت..

وقالت :

- سأهبك قطعة أخرى ولا تضيعها، وفي الزيارة الثالثة تكون القطعة الأخيرة.

ومكث فؤاد حبسياً لشرود عميق طوال جلسة لم تكف فيها فيفيان عن التحدث، فلم تنفذ كلمة واحدة بحق إلى أغوار قلبه، ولم يمسه شيء من أقوالها الدينية المتفقهة، لعله تحدث - حين طلبت منه الحديث - عما يعرفه في القرآن من أمر مريم التي كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، ولعله عطف حديثه على ما قد آل إليه من نعمة هابطة في الكويت دون تدبير منه، موجداً بين المثالين أوجهاً للتشابه، ولكنه - بخلاف ذاك - ظل صامتاً شارداً، وقالت :

- إني أعرف ماذا يشغلك..

وأخذ بقولها بغتة فقبض على قطعة العنبر التي كان يودعها يده المسترخية، وقالت :

- ستعود غادة في البَاكِرُ من الغد، ستنقطع فترة ثم تعود إلى الدير..

قالتها المرأة ثم استأنفت ما كانت فيه من شرح سفر الرؤيا، وتحين فؤاد صباح الغد يريد أن يكون أول المستقبلين لجارته العائدة، كان يستشرف السبيل الفارغ أول النهار، هذا الهادئ الصامت إلا من غمغة بين عابرين تقطعها زقزقة، أو صوت رجل يبصق، ثم أزيز باب حانوت يفتح، ورابع يردد : يا رب يا معين،.. فيحدث أن ينام على حافة النافذة الخشبية حين تخر إرداته ثم يعود ينشط، ولاحظ الفتاة التي جاءت مرتدية لوناً رصاصياً - إذ هي في فترة طلب رهبنة - فانتشلته من غفلة عارضة، ونادى عليها أن انتظري، فوقفت حتى جاءها معانقاً، واسترعى المشهد الذي يعانق فيه شاب فتاة في ثوب راهبة انتباه المشاهدين على قلتهم، وإن لدى البشر في حيّنا شغف حسود لا نظير له بين الشعوب حيال مثل هذه المواقف ينقلب في أحيان إلى نقمة على "المجاهرين بالمعصية" - فبادرته فيما يخف ذراعيه تقول وقد بدا أن الدموع تتسلل من عينيها :

- لن أكمل حياتي في الدير، أبداً..

اصطحبها فؤاد إلى شقة استأجرها في وادي القمر، الحي السكني الضخم غرب الإسكندرية، فقالت هناك تحكي ما جرى لها :

- قضيت ليلتي قبل الرسامة بالكنيسة بجوار أجساد القديسين، ومعي بعض الراهبات، كنا نصلي ونسبح ونقرأ في الكتاب المقدس، وفي الصبيحة وبعد رفع بخور باكر، وقفنا أمام الهيكل وهناك عجزت عن أن أردد التعهد الرهابني خلف رئيس الدير الذي قرأه علينا، مثل البقيات..

وحاول أن يحدثها في غير ما قد قدَّ مضجعها وشغلها من الأمر، يقول :

- هل تدرين بأي حي أقمت؟ إن اسمه وادي القمر..

وقالت وكان للبكاء أثر في صوتها على ما كفكفته من الدموع :

- ما أجمل اسمه !

وأردف يقول :

- اكتسب الحي اسمه (وادي القمر) بسبب الطريقة التي كان يُضىء بها القمر حقول الشعير الوافرة، التي كانت هناك يوماً، إنه لحي قديم منسوب إلى زمن فاروق.

وقالت :

- كل الأزمان كانت خيراً من اليوم.

اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


في المعمورة..

لم يفقد عز الأمل في الإنجاب على ضَعف الشواهد التي في صالحه، لم يترك الرجل سبباً محتملاً إلى علاج الأمر إلا وأتى به : من الاشواغاندا، مروراً بزيت بذور الكتان، وحبوب لقاح النحل، وحتى السلمون والمحار والشيكولاتة السوداء،.. وحتى لقد أمسك - من أجل عين القصد - عن التدخين وغيره، كان مما لا يستوعبه عقل الشاب القوي ذي البنية المثالية الرياضية أن يوضع في خانة الرجال العُقَمَاءُ، وقد ارتأى أن أولى بأكثر الرجال أن يسبقوه إلى مثل هذا "العيب"، إذ هو - كما يرى نفسه - من أخص الرجال متانة وأكثرهم سلامة، وطال به المطال دون أن يستيأس، وانتظر الانفراج في لحظة هو غير عالم بها أو حفي عنها، فيما جعل يتردد على الأطباء الذين حاروا في تشخيص حالته، يستأنس بمحنة النبي زكريا تارة، وطوراً بنصائح أصدقائه من الضباط الذي كانوا يسرون عنه بالقول :" إن الولد لم يعد زينة في ذاك الزمان، إنك ما إن تقيم أوده فيبلغ رشده من جهة العمر والتعليم والاستقلال حتى ترحل، وكأنما قُدر ألا تنتفع به.. ولا أسف على من لم ينجب أو يعقب.."، وكان لا يحفل كثيراً بما يعزونه به لأن العزاء المقر بانقطاع الرجاء مختلف عن الأمل الذي في نفسه، حتى حدث أن وقع الحمل الذي أبلغته نور بمضاعفاته الأولى يوماً فسر واستبشر، وقد وافق النبأ ما كان لديه من حدس، وقالت زوجه شيئاً عن خرافة أن رأس وليدها المتجه إلى اليسار يشي بكونه ولد وقد ذهبت النشوة بعقلها،.. وأبلغ عز خالته هدى فأبدت المرأة ريبة وقالت:

- هل أنت على ثقة من أن المولود مولدك؟

وغضب من قولتها كل الغضب، فجعل يقول :

- ويحك ! هل ترمين نور بالباطل الذي هو في نفسكِ؟

وقالت :

- إني ما رميت ولا حملت باطلاً، ولكن الأولى أن تستوثق، إني رأيتها كثيرة التردد على بيت بكر..

وقاطعها يقول في حدة :

- فلينقطع لسانك يا ابنة الأراقم..


وكان هذا تجاوزاً كبيراً من الشاب نحو المرأة الكبيرة انتهت بعده الصلات، وقد غادر بيتها دون أن يربط حذاءه عالي الرقبة، ومع أن قدحه في المرأة قد توافق واقعاً مع عظم ما أتت به فقد أخذته هدى مأخذ سوء الأدب،.. ولكن ما بال هذا السعير يشتعل في نفسه اشتعال الملازمة والغرام؟ ما بال الظنون تفتك به في وسوسة قاهرة وجعجعة مضنية؟ أهو فرط الثقة أضله عن ادعاء خالته المخبولة؟ أم هو الاستيهام والإفك جاءت به؟ ولكنه راجع نفسه يقول إن هدى ما عادت الفتاة النقية بل هي اليوم امرأة لوثها العمر بالتورط في صنائع السوء، وخليق بالسيئين أن يفترضوا أشباه ما في نفوسهم في غيرهم من سائر البشر، أجل،.. وهدأ روعه وإن كف عطاؤه عن بكر فلا عاد يهبه إلا ما يطعمه ولا عاد يسأل عليه إلا حين يحدث ويلتقي به لقاء الصدفة التي يحرص عندها على صد حفاوته به، وأمسك عنه يده حتى لاحظت نور ما جد من مسلكه فأخذت تعاتبه تقول :

- لقد تركته (أي بكر) نهباً للعقبان في الإسكندرية وقد انقطع عنه السَّيْب، صارحني ليلة الأمس بأنه غدا مضطراً إلى معاودة العمل في كازينو الشاطبي لشحة ما في يده ولولاه لغدا صفر اليدين، إنه شاب خجول يؤثر الطوى على أن يصارحك بحاجته، إنني ما عهدتك بخيلاً مسيكاً ولا ضنيناً ليّقاً..

وتصنع عز انشغاله في العمل فجعل يقول :

- فلتذريني وما أنا فيه..

ووضعت يديها على ما أمامه من الورق فحجبته، في حين تقلص منها العينان كأنها تنتظر جواباً ناجزاً لما جاءت من أجله، وهناك أخذ الرجل يقول :

- هل سحر لكِ أم بث في روعك هاتف المسؤولية الدائمة نحوه؟ آمل أن تتركيه وشأنه حين تلدي، ستكون الأولوية للوليد وسنرتاح من عنائه..

وقالت :

- ستكون الأولوية للوليد ولن نسقط بكراً من حساباتنا، لقد أجل خطبته بفردوس، انظر كيف خسرنا ليلة سرور وابتهاج..

وقال عز بينما تمضي عنه إلى خارج الحجرة :

- خيراً فعل، الحمقى هم من يزيدون في نسلهم دون مورد يكفيهم..

أقبل الليل والقلوب متقلبة هواجع كأنها منازل قمر، وحدث أن تسللت نور في منام الرجل ففتحت خزانته في خطوة ميكافيلية، ويقظ عز من سباته يرقبها حتى أخذت حاجتها ومضت، كانت حزمة أوراق مالية من فئة المائة، وتسللت المرأة التي ظنت أنها أحسنت صنيعها دون أن تلتفت إلى انقطاع غطيط زوجها آية على صَحْوه، حتى طرقت باب بكر في شقته المقابلة فقالت وهي قرب أصيص ورد صناعي :

- هاك ما أردت..

وحمد لها بكر نعمتها في خجل وهو يواري أثر النوم، يقول فيما يتفرس ملامحها في براءة :

- ما أوثق الشبه بينك وبين أمي تسنيم !

ثم استدارت عنه بعد أن ربتت على كتفه وقد أرضاها وصفه لها، وهناك لاح عز - الذي كان يرقب ما يدور مختبئاً خلف الباب كأنما أراد أن يقطع شكاً في نفسه بيقين فيرى الحقيقة والأوجه الغائبة ويقف على الرأي الحازم من شبهة إفتأتتها خالته - في روب منزلي قطني، وارتبكت نور كل الارتباك لدى رؤية زوجها، فيما ألفته يقترب من بكر يقول متأُثراً بما جد في نفسه من شعور الاطمنئان إلى براءة الاثنين :

- بل أنت أهل للمزيد تقيم به خطبتك..

ووهبه عز مزيداً من المال فيما انقلب ارتباك نور سروراً شاملاً في ثوبها المخملي البيتي الأسود، وزاد حرج الشاب وقال فيجمل وجهه تحت ضوء مصباح الباب بالحياء :


- سأرد إليكما معروفكما الجزيل ما أن توافيني تسنيم ببعض من مقابل حصاد الزرع الجديد..