استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/19

علموني عينيكي

                                                           الفصل الثاني والأربعون: 

علموني عينيكي



تحسنت حياة منير في فيلا لوران منذ نبه الطفل المقيمين فيها إلى محاولة السرقة، ابتاع له الأب شريط "علموني عينيكي" لمطرب غير معروف آنذاك، نظراً لكونه يحمل الاسم عينه (منير) حين وجده صدفة لدى بائع الكاسيت، وبات نعيم يضعه - كنجله عارف - في حسابات واجبات الأبوة من المنح والبذل، وأما عارف فظل يكن العداوة لمنير وآية ذلك أن وضع إصبع السبابة اليمنى على سبابة يده اليسرى ومسح عليه مؤذناً ببداية فترة الاختصام وانقطاع الحديث، كان عارف ورغم أنه قد بلغ عمر المراهقة يتصرف كالأطفال حين يتعلق الأمر بخصمه الأسمر.. وتوفي الكلب فرنش ماستيف Dogue de Bordeaux فحزن عليه نعيم وجعل لقبره موقعاً في حديقة البيت، ثم ألقى على مثواه نبت الجهنمية في طقوس تشييع حقيقة بتوديع الآدميين، وأبى أن يجيء بغيره مدة قبل أن تلح عليه مريم بالنكوص عن تشبثه بـ "الوفاء الزائد للحيوان" مخافة اللصوص،.. ومضت أيام عادية حتى طرق باب الفيلا طارق، وأبصره نعيم مدهوشاً كأن وجهه ينطق تعبيراً : "عبد القدوس؟"، وقال الرجل البدين ذو اللحية :

- هلا أذنت لي بالولوج؟

وأدخله نعيم مرتاباً من الغرض وراء زيارة الرجل المنسي، وجلسا في حديقة البيت قرب أصص الياسمين الوردي :

- جئتك من طرف ذهب، لطالما اختلفت مع نمط حياته غير المسؤولة، كان خادمي الذي آذيته وآذاني، بات الرجل يسارياً قحاً، لقد قبض عليه في الأحداث الأخيرة، وقد أوصاني بوصية حتى يحدث أن يخرج..

وصمت عبد القدوس في غير الأوان، ثم قال وهو يأخذ ينهض :

- أراد الرجل أن تعيد نجله منيراً إلى أهله في نوبة مصر، لقد حملني بالرسالة من محبسه أنقلها إليك على عداوته لي، أجل،.. وهأنذا أفي بطلبه فلا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا..

ومضى الواقف (عبد القدوس) في سبيل إلى الباب بعد أن منح الجالس (نعيم) وصف البيت النوبي المقصود، واعترض منير عبد القدوس لما رآه فضرب الصغير قصبة رجله بقدمه، ثم أنشأ يقذفه بحصوة، وأشار عبد القدوس إليه أن أذهب إلى حيث أصص الياسمين واتركني، فمضى منير إلى نعيم حين غاب عبد القدوس، وهناك سأله نعيم يبتسم :

- لماذا ضربته؟

- لطالما كرهته..

وأزاد نعيم في ابتسامة ولكنه جعل يتحول إلى الجدية تدريجياً يقول :

- إذا كبرت النخلة ومدت بجذورها في الأرض، وكثر سعفها وخيرها.. ألا يليق بها - إن أمكن انتزاعها - أن تترك النطاق القديم المحدود إلى الأرض الواسعة التي تناسب نموها؟

وانتظر منير مهلة كيما يستوعب المثال الذي أورده الرجل حتى إذا فعل أومأ برأسه يقول :

- بلى..

وعطف نعيم على جواب الطفل المتوقع ما كان قد هيأ له بالمثال عطفاً شبيهاً بالبرق الذي يتبع الوميض، فقال :

- إني أراك كالنخلة التي كثر خيرها، وسنذهب بك إلى الأرض الواسعة التي تناسب نضوجك !

ولم يبدِ منير مقاومة أو اعتراض إذ هو عد الأمر إطراءً لم يستبن - على الحقيقة - ما وراءه من نوايا وإجراءات، ولم يستوضح - على الدقة - ما يعنيه من مفارقة كل أشكال الرغد في الفيلا المترفة، فأومأ ثم غاب بين أحضان نعيم الذي أشفق عليه لبراءته المحببة، فجعل يمضي بأصابعه بين أحراش شعره المفلفل، ويثني على حسن امتثاله، تمثلت مريم صورة المعاتبة العذولة حيال الأمر، ولكن لما أحاطت الوجاهة والمسوؤلية تصرف نعيم من وجوه شتى فلم تجد لعاطفتها القوية موقعاً أو مبرراً، وجاء عارف - بأمر من أبويه - إلى منير ينهي خصومة الأمس، فتلامس الإصبعان الصغيران علامة على زوال الضغائن الوالية.

 ودع منير حياة الإسكندرية بالدموع، قصد نعيم إلى النوبة حيث يعيش ذهب، وغاب تميز منير بلونه الأسمر وسط الوجوه السمراء، فاستروح نعيم إلى الأمر، كانت البيوت - هناك - غنية بالبهجة في ألوان قوس قزح، ولكن الوصف انتهى إلى إحدى البيوت الفقيرة المغطاة بجريد الدوكسيد، وقف الأهل ينتظرون مجيء الابن في اصطفاف لطيف، وشجعه نعيم الذي امتلأ وجهه بالعرق - بسبب جفاف وحرارة هذا الإقليم - يقول :

- هلم، إنهم قوم طيبون..

هناك مضى منير إلى الأهل في خطوات قصار يشيع فيها الريبة والبراءة والخوف، استدار نعيم عن ناصية المشهد الذي جمع بين حقيقتي الوداع واللقيا، وأخذ بدوره يواسي مريم التي جعلت تنخرط باكية، عظيمة الأسف، وعند لحظة ما من هذا المسير التفت منير إلى الوراء التفاتة غابت فيها حقيقته السمراء تحت ظلال النخيل، ولم يتمالك معها نفسه فإذا هو يعدو إلى نعيم الذي تلقفه مُدمِع العينين..

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


في سموحة، قرب نادي أصحاب الجياد..

قصد مراد إلى تهاني يسألها في طلب منحة من المال جديدة، وكان يأخذه الحرج حين يسأل الفتاة التي كان بالأمس القريب معيلاً لها ولأخوتها، يملك زمام أمرها والقياد - يسألها حاجته، وفتحت له باب بيتها فسألها كأنه الملهوف :

- معذرة، الوقت قصير، أعرف أن سؤالي على هذه الطريقة بغيض كريه : هل تملكين المال تهبينه لي؟

وقالت :

- تفضل، أريد أن أتحدث إليك.. إن عندي لك قبل المال صفو الوداد..

وأدخلته في بيتها الجديد بحي سموحة قرب نادي أصحاب الجياد ولكن وجهها بدا فقيراً يشيع فيه لون من الفتور والجدب قياساً إلى ما اشتمل عليه المكان من نعمة حقيقة بالحياة والإقبال، إذ هو مكيف بارد، جُعلت أرضيته من الرخام، واتسعت جدرانه وحجراته، مزود برفاهيات جمة،.. ولحق بها مراد الذي أخذ يخلع حذاءه في خزانة الأحذية الخشبية ذات الأدراج (الجَزّامة) قرب الباب، ولم يترك - في خضم حركته هذه - رغبته الذهنية في طلب المال، وكأنما أورثه استباق الأولويات تعثراً كاد معه يسقط على الأرض حين خلع حذاءه، وجلسا في حجرة استقبال فسيحة تتوسطها طاولة عليها صحنان مملوئان بدجاج  KFC، ظل مراد يحدثها مدة عن حوجته إلى المال في خضم الخسائر التي تعرض لها عمله في البورصة بعيد أحداث السابع عشر والثامن عشر من يناير من هذا العام، ولم يبدُ أنها كانت تشاركه عين الاهتمام بالقضية التي تضنيه، وقالت - رغم ذاك - وهي تشعل سيجارة تتبعها بأخرى، الأمر الذي استرعى انتباه مراد الذي جعل بدوره يتفرس فيما انتهت إليه وهي تتحدث :

- الفقراء يعتبرونها انتفاضة الخبز، ونحن (تريد الأثرياء) نرى فيها نقمة المعوزين..

ولم يفهم مراد منذ متى عدت تهاني نفسها في حزب الثروة وهي التي لم تعرف الوفرة إلا على أكتاف زكريا، ولكنه لاذ بالصمت حيال الأمر ومرره كالمرء يبتلع شوكة تزعجه في حلقه لاستحالة تخليصها منه، وعاد مراد يجتر فصول حياته الصعبة يريد أن يبدو في صورة "المستحق لمنح المال المتتالية.." يبرر لها، وهناك قاطعته بغتة :

- إنها مفاجأة غير متوقعة، كلا.. بل هي كارثة متكاملة !

- حقاً؟! هل إن إعطائي المال يرهققك إلى هذه الدرجة؟

ونظرت له تقول :

- لا.. لا أقصد تلك،.. لقد حَملت في طفل من زكريا قبيل وفاته..

وأحس مراد وزر الأمر وهوله، فالرجل الذي أريد به أن يكون جسراً عابراً إلى امتلاك الثروة يأبى - وإن مات - أن يترك المشهد كلية، وصمت مراد مدة يقلب أوجه العواقب، قال بعد تفكير :

- فلتكفي عن التدخين رحمة بالمولود..

وتساءلت وهي تنزع السيجارة عن فمها المتأثر بطبقة البلاك :

- تقصد أن احتفظ بالطفل ولا أجهضه؟! (ثم كأنما تستعيد شيئاً من بئر الذكريات الأليمة..) قال زكريا بأنه يبحث عن امرأة ترعاه في كهولته، ولكنه نكص عن وعده، ولم تفتر رغبته فيَّ حتى حين كان يقف على حافة القبر..

وقاطعها مراد متأثراً بوجوده في البيئة المرفهة التي قارنها بمنزلها الأول حيث كانت الحجرات صغيرة والأسقف واطئة، ثم لأجل تورطه في تحبيب زواجها بالرجل وإقناعها به، يقول :

- وعدك (أي زكريا) بالكفاية وبالثروة، وحقق لك ما تعز عنه أيدي الساحرات، فلتذكري للمائت محاسنه..

وأقبلت تنفعل وهي تقول :

- صدق في هذه وحدها وهو الكذوب..

- دعكِ من زكريا، ولتحسني التصرف فيما خلفه من أثر، عرفت أنك تراهنين على سباقات الجياد، وهذا مما يهدر المال ويبذره..

وتنهدت كأنها تطرد كرباً، تقول :

- إن أحداً لا يعرف بحقيقة زواجي بزكريا ما خلا أنت وأخوتي، ومصيبتي إذا علموا بالابن عظيمة فادحة، سيقول قائل منهم : لقد جئت شيئاً فرياً منكراً..

وقال لها مراد :

- لا تقلقي، لقد قطعت العرى والأواصر بماضيك يوم أقمت على كثب من نادي أصحاب الجياد..

وقالت كأنما تفصح عما فكرت فيه ملياً، وفاضت به نفسها، أشبه إلى انسكاب الماء من قدر مملوء :

- لدى أخوتي استعداد لنشر شيء عما استتر من الأمر عن قصد ابتزازي، إنهم قوم ملاعين، يضربون على وتر المصلحة، فإذا أفصحت عن زواجي بزكريا باتت حقيقته اليهودية مثار تشنيع آخر، وحين تنتشر الأخبار التي تنال من سمعة امرأة بين جماعة من غير المحققين فهذا الذي يوزاي انتشار الطاعون في بلد بلا طبيب، وشر ما يكسب الإنسان ما يشينه..

وقال مراد :

- لا تبالغي، إنهم أخوتك، وسمعتهم من سمعتك..

- بل أخوة السوء، والضر، هكذا خبرْتهم..

فلم تكد تتم حديثها حتى طرق على الباب طارق.. 

 

 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

  

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق