روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/02

آمل أن أراه

            الفصل السادس: آمل أن أراه


1990م..

في الكويت..

كان فؤاد يبث زوجه مخاوفه يقول كأنما يستعيد سلسالاً من الأخبار المقلقة :

- الأمور تمضي بإيقاع تصاعدي ينذر بالقلق، صدام يتهم الكويت بالجامعة العربية بتزويد السوق العالمي بالنفط، الأمر الذي يتسبب بانخفاض أسعار النفط عالمياً، ثم تقويض الحصص الإنتاجية لأعضاء منظمة أوبك،.. صدام يتهم الكويت بالقيام بأعمال تنقيب غير مرخصة بحقل الرتقة النفطي، ثم هو يتهم الكويت والسعودية بالتقصير في إسقاط ديونه،.. بربك.. ماذا بعد كل هاته الاتهامات؟ 

وكانت زوجه تجيبه في ثقة تقول :

- عزيزي،.. لا تقلق، العربي لا يقتل العربي، ثم إن الرئيس العراقي لا يدخر مناسبة إلا وقدم نفسه فيها حارساً للبوابة الشرقية..

ومضى الرجل يبثها مخاوفه يقول :

- السياسيون يكذبون، ماركوس بروتس قتل يوليس قيصر وقد كان أعز الناس إليه، وخنفس خان عرابي في التل الكبير وهو من بين ضباطه،.. وهلم جرا، إن صدام بحاجة إلى كل برميل في حقل الرميلة بعد أن خاض أطول حرب في القرن العشرين (يريد الحرب العراقية الإيرانية 1980م : 1988م)، والحاجة عوراء..

ومضت تخفض رأسها تقول :

- صدقت، بعض البشر يخونون بلا مسوغات موضوعية، وقد خان يهوذا الاسخريوطي المسيح وقد كان أحد تلامذته الإثنى عشر لقاء ثلاثين قطعة من الفضة ! مثلما كانت تردد أمي فيفيان دائماً..

كانت غادة ترى في إحياء مفردات عقيدتها لمحة وفاء لأمها فيفيان، وعلى ذلك كثر اقتباسها من الأناجيل والمواعظ في أعقاب وفاة الأم، ومكثت تقول مضيفة :"وأما قابيل الذي قتل أخاه هابيل فكانت واقعتها أولى الخيانات المعروفة.."، وأحبطه جوابها ملياً لابتعاده من الموضوع الذي أراده فانكفأ على نفسه، وقد كان يرى تفكير الإناث نشاطاً عاطفياً يجتهد في أن يتخذ صورة الموضوعية، ومكث مدة يتخيل توقعاته المستقبلية في خريطة ذهنية (mental map)، وكتب في مربعين كبيرين : السلام، والحرب، وتفرع منهما افتراضات طويلة الذيول كثيرة الشعوب، وبدا سقف هواجس الرجل متمحور حول احتمالية حدوث صراع حول حقل الرتقة (كما يسمى بالكويت)  /الرميلة (كما يسمى بالعراق) النفطي المتنازع عليه، يؤثر بالتبعية على اقتصاد البلد الذي هو فيه (الكويت)، كان عماد قد أتم عامه العاشر، وأما إسحاق ففي السابعة، وقد أفسدا عليه انغماسه في خريطته ولكنه سر بحضورهما، كان انشغاله بفصول المستقبل قد أصابه بشعور يائس حتى أنه سر بإفساده (شعوره)، وكانت الأمور بتداعيها من الخلل حتى أنه ود لو يعول كثيراً على الإلهام لا على المنطق،.. قطع الرجل ورقتين من دفتره فكتب على الأولى السلام، وعلى الثانية الحرب، وقلب الورقتين، ثم طلب من عماد الاختيار، أشر عماد - الذي اكتسب لسانه لكنة خليجية كأخيه إسحاق - على إحداهما، يقول :

- سأختار هاته..

 وكشف الرجل عن وجه الورقة فتجهم وجهه لاختياره الحرب، ثم كرر الاختبار رفقة إسحاق الذي كشف عن ورقة السلام، وتنهد الرجل يقول :

- سحقاً، لم نصل إلى شيء ذي بال..

وسمع غادة تقول له في حس عقلاني عجب له :

- ما كنت لتهتدي إلى شيء من باب التنجيم.

وذكرت له شيئاً عن بيت أبي تمام "بيض الصفائح لاسود الصحائف، في متونهن جلاء الشك والريب"، قبل أن يعود يقول لها :

- ما هو بالتنجيم، إنه محض لعبة أُسَرِب فيها قلاقلي، ثم أتذرع بها لأمرر مخاوفي،.. الأطفال مرفوع عنهم الحجاب، إنهم أطهار، برآء، ولو وضع الغيب سره في مخلوق فلن يصطفي خيراً منهم..

وعادت تقول كأنها تناقض حديثها الأول :

- أحسنت، لقد نسيت أن طفلاً معصوب العينين من الشمامسة هو من يختار البابا في بلادي (تريد مصراً) !

وأحبطه جوابها مجدداً، ومكث يتطلع عبر النافذة إلى لازورد السماء، فقالت تزيد :

- عزيزي، التفكر في السيناريو الأسوأ (نطقتها بالإنجليزية worst case scenario) يخفف من وطأة الجزع والضغوط النفسانية دائماً،.. ماذا لو خسرنا كل شيء بالكويت؟

ومكث فؤاد مدة يفكر فيما حمله بادئ ذي بدء على الهلع، وطفق الخوف يتسرب من بوابة الألفة والاعتياد حتى انتهى يقول كالمازح في مسحة أسف :

- لعلي أعود أشاهد الأفلام الهندية مع صديقي السكندري فريد في نادي الفيديو الذي أقامه في شياخة الورديان !

وقالت في بساطة :

- أرأيت؟! ما انغلق باب حتى انفتح غيره، ولا تصهر حياتك في تنور من الآلام التي قد لا تحدث، وبمقدور الرب أن يرسل الخبز مع الغراب.

واشتعلت لهائب الحرب بعد بضعة شهور، واستبيح الجنون في قانون الهيجاء، أحكم الجيش العراقي سيطرته على البلد في غضون يومين، وكان من أثر ذاك أن توقف جمع القمامة والعيادات والمخابز والبنوك، وكذا محطات الإطفاء والمتاجر والشرطة والأمن والوكالات الحكومية عن العمل، ومكث فؤاد يتذكر رمزي وآخر ما نطق به نحوه من وعيد يقول له :

- سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ..


  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

كان فؤاد قد انشغل مع مئات المتطوعين الذين جرى توزيعهم على المخابز والمستشفيات، وعاد (فؤاد) إلى بيته بعد مشاركته - كأنه من أهل البلد - بجهد يسير، وقد تراءى له شبح رمزي طويلاً في خلال عمله التطوعي حتى أزعجه، وهناك ألفى أكرم جالساً في الديوانية يقول لأخته آسيل وزوجه غادة :

- حاولت - رفقة ضباط الجيش السابقين ورجال الأمن - حراسة مراكز الشرطة المهجورة بلباس مدني وأسلحة مخبأة، ولكن هذا الوضع لم يدم طويلاً، المدنيون صادروا دبابة عراقية في مناطق سلوى وبيان، وقد نُصبت الكمائن في الدئري الرابع بأكمله..

وذكر (أكرم) شيئاً عن الحي كيفان الذي كان لا يزال تحت سيطرة كويتية، وحين لاح فؤاد في نطاق رؤية المتحدث نهض (أكرم) ملياً، يسلم عليه، ويقول في حفاوة مثمناً جهده التطوعي :

- اليوم أنت كويتي بحق،.. (ثم في حماسة ذات عزم) والساعة بدأت المقاومة السياسية، فلتشحذوا البشر والحجر !

مضى أكرم مغادراً وقد كان ينتقل من ديوانية إلى أخرى كيما ينشر خبر حدوث اجتماع أو تجمع في مسجد، وكان يتطوع لخدمة اللجان الشعبية، وقالت آسيل لأخيها :

- فلتلزم الحذر..

وأجابها يقول في ثقة تأخذ صورة الاعتزاز :

- ما يجري حولنا مؤقت، إنه جنون وضيع أرعن، إن أمراً على هاته الخسة من المحال أن يُقدر له ديمومة !

وأقعى فؤاد إلى جانب المرأتين - بعد انصراف أكرم عن الديوانية - ماداً ساقيه ومسنداً قذاله إلى الحائط يقول واجماً :

- لقد انتهت رحلتي هنا، سأعود إلى بلادي متى انقشعت هاته الغمة.

وأخذت آسيل ملياً بقوله - كزوجه غادة أو حتى أكثر - وتساءلت في خيفة كأنما أقلقها أن يختفي صديق عبد العزيز فينتهي أملها في لقياه :

- أتدري أين هو عبد العزيز؟

وأجابها بجهله موقع صديقه بعد خلافهما الأخير، ولكن آسيل مضت تزيد تسأله :

- أيحتمل أنه في مصر؟! هل اتخذ لنفسه حمية غذائية؟

وشرد عن سؤالاتها شروداً فيه أسى ومكث يتأمل في محيطه : هذه «الأمداد» : فرش من الحصير تعلوها المطارح (المساند)، وهاته النوافذ التي تطل على الشارع الصامت وقد كتب على بعض جدرانه : «تحيا الكويت»، «يسقط صدام حسين»،.. وتذكر فؤاد شيئاً سمعه عن حقيقة التصاميم القديمة للبيوت الكويتية : "تطل جميع نوافذها من الداخل على الحوش لتأمن خصوصية السكان، وأما النوافذ الخارجية فمقصورة على دوواين ومجالس الرجال.."، وابتسم كأنما كان تذكره لشيء من إرث البلد في واقع الحرب والاحتلال قد حمله على التندر من حرص البشر الدؤوب على نقل التقاليد التي هي عمد ثقافية لاستمرارية كيانات مهددة،.. كانت الديوانية أكبر دور المنزل، ولكن فؤاداً أحس نفسه كأنما هو في غرفة استجواب ضيقة، وكان الصمت مشحوناً بالخوف، وأما الحديث فأجوف سخيف، وجعل يهجس في مصيبته، وسمع زوجه تقول قولاً برز على حقيقة واجمة وقد بدا أنها أعدت الشاي وعادت بصينية عليها الاستكانات (أكواب الشاي الصغيرة) :

- لم أتصور أن يقتل العربي أخاه..

وأجابها يقول :

- سيخرج العراق قريباً من هنا، ما وجودهم إلا عارض، وما رحيلهم إلا يقين، لقد مست الأمور عصباً حساساً لدى الغرب : البترول، ولن يمضي الأمر بسلام.

وقالت آسيل عطفاً على حديثه :

- لقد أحسن الرئيس المصري (تريد مبارك) التصرف في هاته المسألة، ما من موقف هو أكثر حكمة من الموقف المصري، ولو أنه طاوع صداماً في مغامرته لأذاق بلاده ضعف العذاب.

وذكر فؤاد شيئاً عن شفقته على مصير العراق بعد انتهاء الحرب وحقيقة عمله هناك لفترة وجيزة لم يوفق فيها، واستعاد ذكرياته على مقهى الشابندر في أول أيام نزوله ببغداد بعينين عطوفتين، ولم تستسغ آسيل حديثه البتة، قالت :

- عرفنا مما عرفنا أن على الباغي تدور الدوائر.

وقال دون أن تلتقي عيناه بعينيها المتحفزتين :

- الشعوب شيء، ومصائرها المعلقة في يد شخص أو شخوص شيء آخر.

وأجابته آسيل تقول في شنآن :

- ما من مسؤول يستقر له الأمر دون أن يُعَبِّر من وجه أو من وجوه عن رغبة الجماعة.

وأجابها يقول كأنما يشير إلى مفهوم الفاشية :

- حزمة من الصولجانات كانت تُحمَل أمام الحكام في روما القديمة دليلاً على سلطاتهم، ومنذ ذاك لم يعد الأمر كما تصفين..

وقالت في عناد :

- يتهددنا اليوم هاجس الإفناء الذي لن يشعر به غير الكويتي!

وابتسم لها وهو يشرب الشاي لأول مرة فيتبين حاجاته إلى التحلية، وجاءت له غادة بالقندور (وعاء صغير لحفظ السكر) الذي احتفظت به المرأة من عجوز كويتية أهدتها إياه، يقول في هزل وهو يمد رجليه على فرش الحصير فتهبط رأسه :

- إنني كويتي،.. لقد وهبني ضابط البحرية لتوه شهادة الوطنية !

في هذا المساء خرجت آسيل فوق سطح المنزل، أمسكت الفتاة المتحمسة بيرقاً (علماً كبيراً) كويتياً، ومضت تهتف باسم بلادها، كان تصرفها جزءاً من صورة أكبر اشتركت فيها الجموع، صعد كثيرون أسطح البيوت وغنوا النشيد الوطني الكويتي، كانت آسيل تقول بصوت مسموع :

يَـا مَـهْـدَ آبـاءِ الأُلَـى كَـتَـبُـوا سِـفْـرَ الخُـلُـودِ فـنَـادَتِ الشُـهُـبُ

ولكن رصاصاً عشوائياً - لا جواب الشهب - انطلق من أقسام الشرطة أرغم الهاتفين على النزول، وكان فؤاد يقول لها وهو يتوسل نزولها وسط الرصاص :

- الهتاف لن يعيد الأمور إلى نصابها..

وتأخرت عودة أكرم على نحو مقلق، كانت همة الرجل - كضابط كويتي متحمس - فوق ما تطلبه الأحوال المتضاربة حقاً، لم يغافل آسيل الكرى حتى مطلع الفجر، واستيقظ فؤاد على نحيبها تقول لغادة :

- لقد نصحته بالتزام السلامة فما أنصت لي ولا أقام لنصحي الاعتبار..

هناك ذكر فؤاد شيئاً عن جدوى الانتظار إلى مجيء الضحى، وجلس يقول :

- آمل أن أراه (أكرم) قبل عودتي إلى الإسكندرية.. 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة