استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/05

عودة الفيضان بتضرعات الكهنة

                           الفصل الثاني: عودة الفيضان بتضرعات الكهنة





قبل سبعة وأربعين عاما 1807م..

كان الفيضان شحيحا هذا العام فدخل الناسَ الخوف من نقص المحصول، وذهب الأنبا بطرس مع جماعة من الأساقفة والكهنة يتبعهم الشعب إلى شاطئ النيل يستسقون، اجتمعوا بالروضة وصحبتهم القساوسة والرهبان وهم راكبون الخيولَ والرهواناتِ والبغالَ والحميرَ في تجمل زائد، صحبتهم طائفة من أتباع الباشا بالعصا المفضضة، أقاموا هناك القُدَّاس الإلهي، تحدث الأنبا المبجل قائلا:

- اكتظَّ عامُنا بالحوادث الموجعة التي انتهت بالسلام والطمأنينة، محاولات عدائية من المماليك اندحرت، وغزوات جائرة من الإنجليز تقهقرت، إن قُدَّاسنا اليوم ليس للاحتفال بالإفخارستية (صلاة الشكر) أو للاجتماع للعبادة، قداسنا اليوم من أجل أن يبارك الله في النيل فترتفع مياهه..

ارتفعت الصلوات من الشعب، أخذ البابا المرقسي قربانة من البركة مع الماء الذي غسل به الأواني المقدسة وطرحها في النهر الخالد، وما لبث أن فارت المياه وارتفع المنسوب فرفع الشعب آيات السبح لله المتحنن، وجعل الوقوف يتحاشون هذه الفورة التي تَرفِدها الأَمطارُ والسيول في بهجة ومسرة، لقد هتف الأنبا في الشعب :

- ها قد وقع طُغيان النهر بعد أشهر الشح، بُوركت لنا هذه المنة العظيمة والعطية الجليلة، لم يرحم الرب الشعب بالفيضان فقط، وإنما شمل القبط برحمته بأن جعل لهم بعد اليوم مثابة في عيني الباشا.

لم تنقطع مظاهر العبادة وأحوال الشكر هذا اليوم قرب النهر الخالد، ذاع نبأ القصة المُلهمِة في ربوع المحروسة، وهذا صديق الباشا القبطي: إسحاق بن المُعَلم سيرجيوس بن المُعلم فلتأوس الشهير بغالي يتلقى الأنباء في بشر ورضا، سمع لغلامين يقصان الأثر عند وكالة الكيخيا فهرع إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي عسى أن يشارك مولاه مناسبة الاحتفاء به، وفكر في أن يستهل حديثه بالثناء على أفندينا الذي يسوس البلاد في كثير من الحزم والاتزان، فوق جبل المقطم عند موضع عُرف بقبة الهواء وجد خصيمه القبطي المعلم جرجس الجوهري خارجا من الباب بعد أن أنهى اجتماعه إلى الوالي، قطب المعلم غالي وألقى على الآخر سلاما فاترا، سأله كأنه يريد أن يزن قيمة النبأ الذي تحصل عليه بتقدير وصوله أو عدم وصوله إلى الرجل الذي كان يسمع دائما عن أهميته في القصر، هذا الذي تتردد الأحاديث عن كونه "نافذ الكلمة، وافر الحرمة، بيده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية":

- أسمعت بما وقع؟

كان جرجس الجوهري لا يزال يوليه ظهره ماضيا عنه وهو يقول:

- إن الجميع قد سمع به، ما أتيتَ متحمسا إلا لتبلغه بأمرٍ عنده معروفٍ سَلَفًا.

فترت حماسة المعلم غالي قليلا واجتهد في ضبط انفعاله:

- هذه بشارة خير للقبط، على أي حال،.. لعل الوالي يستخدمنا ولعل الوضع ينقلب فينا بضده.

رمقه جرجس بنظرة مرة، ثم قال وهو يحدجه بنظرة شديدة وبين الرجلين مسافة بضع خطوات:

- خيالك أكبر عدو لك، مولاي لا يستعمل الأشرار مثلما يلفظ سريعا أصحاب الغرض.

هنالك غمغم المعلم غالي غاضبا وهو يرقب انصرافه عنه:"الويل لكَ! لا يخرج من فمك شيء جيد.."، لم تزل بالرجل رغبة في لقاء محمد علي رغم كل شيء، دلف وهو يداري أثر هذا اللقاء العابر متصنعا ابتسامة من يبث البشرى في ربع أو نادٍ، استقبله الباشا متهللا كأنه يرفع عن صدره ثِقَلًا ما:

- ها قد أعاد الكهنة الحياة إلى بحر النيل..

وتحدث في امتثال يقرع أبواب النفاق:

- ما حضر الكهنة والأساقفة أمام النهر إلا بأمر منكَ سيدي، وعليه فإن لك الفضل بداءة وأصالة فيما قد وقع..

واستوى محمد علي في جلسته وقد استخفه أثر الحديث الأخير، لم يذكر غالي عمدا حقيقة أن الوالي سُبق في مسألة جمع الكهنة للاستسقاء من قبل أحمد بن طولون، وجد الباشا في نفسه رغبة الزيادة:

- أمرت الجند باستدعاء عظماء القبط في جمعياتهم وولائمهم، ثم الاعتناء بشأنهم والتردد عليهم مع المهاداة فيما بينهم،.. (ثم كأنه يوجه أمرا في لكنة أشد) ولتترك لهم المتأخر عليهم من الضرائب.

- فإذا كان الرأي لك، فهي منة أخرى جزيلة نحمدها لك، مولاي.

- بل هي نصيحة رئيس المباشرين (يريد جرجس) لي،..أعرف رجاحة ميزانك منذ رأيتك أول مرة في فرشوط، فما رأيك؟ 

سعد المعلم غالي بهذا الإطراء الكبير مثلما وجدها فرصة في تمرير ضغينته إزاء جرجس الجوهري:

- معذرة، سيدي، لن ينصحك جرجس إلا بالرأي الذي فيه العوار، ما أحوج خزانة الدولة لكل سحتوت يُجمع! وهيهات أن يقوم دولاب الأعمال إلا بعطاء القبط وغير القبط، فإذا عاد النيل إلى فيضانه بفضل تضرعات الكهنة فما دخل عموم الأقباط بالأمر؟ لماذا نرفع عنهم تكليف الضريبة وكأننا لا نعرف كيف نستقبل النعمة إلا بالهدر؟

- ماذا تقترح إذن؟

- إكرامية للأنبا بطرس وكهنته، ذلك أن الفضل عليهم مقصور وكذلك الجزاء يكون.

وهتف الوالي في الكاتب بعد نظرة إلى المعلم غالي:

- طوبى لكَ من ناصح،.. وأنت،.. فلتكتب هذا..

ثارت في الجوهري ثائرة الغضب منذ علم بالتعديل الجديد الذي قضى لا بوقف تخفيف الضريبة على القبط بل بزيادتها، وجنح إلى الملام الطفيف يبثه إلى مولاه تحت ستار متحسب:

- حسبتك ترحم القبط بعد أن انكشفت غمة البلاد بدعاء كهنتهم، لا أن تزيدهم بؤسا، سيدي..

وأجابه الوالي غير مكترث حقا بعتابه وكان في اجتماع يشغله مع زمرة من الأكابر:

- لقد أنصفت أصحاب الفضل منهم.

- عدالة نخبوية ليست تليق بعظيم مصر المكمل، لماذا يستجيب سيدي لمشورة رجل سيء الذكر هو بلا مزايا كغالي أبي طاقية؟ أنسيت، مولاي، أنه لا يزال كاتب الألفي بك: عدوك وعدو الشعب؟

واعتدل محمد علي فوجه عتاب مساعده إلى جماعة من الحضور كأنه يضعفه باكتساب شعبية الاستهجان من الحضور:

- عدا أنه ذو حظ من النباهة والفطنة، ويعرف من أين تُؤكل الكتف، ثم هو يحسن التركية مما لا تحسنه فهو كذلك: خِلْوٌ من المزايا.

وانفعل الجوهري فأنساه انفعالُه الضوابطَ:

- وصحيح أنني لا أحسن التركية ولكنني أعرَفُ منه بالرحمة.

واشتعل الوالي حَنَقًا من العبارة التي وصل شررها إليه فراح حلمه في غضبة نرجسية:

- كأنك تحدث صخرة بلا روح لا تاجرا احترف تجارة الدخان يوما وعارك الحياة؟ فلتسمع لي: هذه شكيمة الحكم الذي لا يعرف الضعف أو الوهن، صفة من دانت له الأسباب بعد مخاض ونزاع، لقد خرجنا من معصرة الإنجليز لتونا هذا العام، واجهنا عسكر البحرية الملكية والجيش البريطاني في حملته الجائرة بأرواحنا قبل عتادنا، لا يزال في المماليك وقبائل البدو من يطمح في قلب الطاولة، ولسنا نستشرف المستقبل إلا برباط يربطه الفلاح على بطنه إذا جاع، هذه ضريبة النهضة.

وكاد الجوهري يقول شيئا عن أسس العدالة التي لا تستقيم نهضة بدونها لولا أن الوالي اكتسح معارضته بالقول الصارم:

- لقد اتخذت القرار فإذا لم تكن أهلا لاستقباله والتعامل معه، فلتفسح السبيل لصاحبك، فهو خير منكَ..

لَشَدَّ ما شعر الجوهري بالتهديد هذا اليوم وبعد وفاة الألفي أصبح الخطر الوشيك مداهما ومحدقا، نصحه الأقربون بخفض الجناح والانحناء للعاصفة وتنفيذ الأوامر بلا مراجعة، لم يكف الرجل - مع ذاك - عن النصح والمعارضة والتباطؤ في التحصيل، زاد غضب الوالي منه وذات يوم طف فيه الصاع أمر باحتجازه وأخيه حنا، اختطفه زوار الليل ومن معه من الأقباط وساروا بهم إلى حارة منج التي قطن فيها عالم الحملة الفرنسية قبل بضع سنين وباسمه سُميت، وانتهوا بهم إلى بيت إبراهيم كتخدا السناري، كان البيت قصرا متحفا جليل الركائن، ودلفوا من مدخله الحجري الكبير المطل على الحارة، صرخ الجوهري اعتراضا ففَكَّ الجندي عصابة عينيه، لقد تطلع الجوهري بنظر مشوش إلى المشربية البارزة عن الجار، أدى بهم المدخل إلى ممر مرتفع يفضي إلى الفناء الداخلي الذي تتوسطه نافورة، وتطل وجهاته الداخلية الحجرية على الصحن وقد ازدانت بالنقوش المنحوتة، إن بها مكانين للاستقبال وتختبوش: حجرة مسقوفة من حوش المنزل، ومفتوحة بالكامل على الصحن من الأمام هي لاستقبال الضيوف في الصيف، علق الجوهري وهو يتطلع إلى "أبهة محبسه" في لهجة ساخرة:

- أكرم به من نزل! كأن مولاي أراد تكريمي لا عقابي،.. وما تهمتي؟

- التأخر عن سداد مبلغ من المال هو من حساب التزاماتك، لقد أمر مولاي المعلم غالي بفحص أوراقك خلال السنوات الخمس الخالية، وخلص إلى إدانتك بما يستحق العقاب وتغريمك أربعة آلاف وستمئة كيس.

وهال الجوهري ما سمع فنطق وفي نفسه إجحاف وذهول:

- وما صفته؟

وأجابه الجندي المختطف وقد استقر وجهه تحت نقش الحائط:

- لقد غدا غالي أبو طاقية كبير المباشرين الجديد..

تلقى الجوهري الضربة في صبر عزيز، لقد تحدث إلى الأقباط من صحبته في عزاء خافت وإلى أخيه حنا:

- لا بأس، غدا يهون في نظره مثلما هنت، ومآله إلى الزوال محتوم..

ووافقه تلامذته من الأقباط المأسورين فقال منهم قائل:

-أصبت، سيدي، هو اليوم كراكب الأسد يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه، يخافه الناس، وهو لمركبه أخوف..

في قصر الوالي كان المعلم غالي يتأهب لمباشرة عمله الجديد كبيرا للمباشرين، لقد لبس خاتمه الجديد الذي حمل نقشه تاريخ التحاقه الرسمي بالقصر عام 1223هـ / 1808م أمام تصفيق الأكابر ورضاء الوالي، يرافقه أخوه فرنسيس بن سيرجيوس، وزوجه كاترينا (يناديها غالي بكتورة)، ونجلاه الصغيران: دوس وطوبيا، وعلق محمد علي حين صافح كاترينا التي بدت خجلى وقد تكور بطنها بما ينبأ عن وليد ثالث يقول:

- من أي عائلة أنت؟

وأجاب غالي نيابة عن زوجه التي اعتقل الحياء لسانها:

- يرجع نسب محبوبتي كتورة إلى عائلة الزير الشهيرة بأخميم، مولاي.

وعلق محمد علي في نبرة فخمة مترعة بالعجب:

- غريب كيف أجهل بها.

أجاب المعلم غالي في حماسة مهذبة:

- لقد ورد ذكرها (أي عائلة الزير) في سجلات الآباء الفرنسيسكان كثيرا، مولاي.

وصمت الوالي ثم قال كأنه ينصرف إلى شاغل آخر:

- إنني أتطلع إلى تشكيل حكومة منتظمة، فلتسمع لي: احتل الفرنساوية هذه البلاد قبل بضع سنين في ثلاثة أرباع الساعة، إن معركة الأهرام كانت شاهد ضعف ظاهر، وبيان عجز كبير، يجب أن يكون لهذه البلاد جيش نظامي يحميها، ويجب أن تجتهد في إيجاد الموارد التي تعيننا على غرضنا في هذا، الاقتصاد يعتمد على الزراعة وحدها، والزراعة ترتكن إلى القطن وحده، وإذا أمكننا تصدير شيء فلا نصدره خارج الحدود العثمانية، يجب أن يتغير هذا كله.

لم يرتبك المعلم غالي إذ جعل يقول في ثقة:

- إنني أفكر في تقسيم أطيان كل بلد إلى حيضان وقبائل، وفي أن أجعل لكل بلد زماما مخصوصا، أراضٍ كثيرة يزرعها أصحاب الاقتدار بغير دفع أموال عليها.

وأجابه الوالي وقد استبشر حقا بما يسمع وهو يقول بصوت سمعه كل من في القاعة:

- إن لكَ التدبير ولي التنفيذ!

حين خرج المعلم غالي من القصر هذا الليل وجد عند الكيخيا غلامي النهار، لقد بثق عليه الغلام الأكبر حين رآه يقول:

- جامع الضرائب الجديد، ألا بئس سارق أقوات أبي!

هناك حجز غالي أخاه فرنسيس عن رد التجاوز الأخير، قال في حس ديني متأثر بجذوره القبطية:

-  كف يدك عنه، فرنسيس، الحكيم من ترفع عن جواب الجهال، والعاقل من أعرض عن نزق الغلمان،.. (ثم وهو يحدث الغلام) تبثق على العشار؟ أما أتاكم حديث يسوع؟ قال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله!

 

 

**

في قصر كتخدا لمع في عقل حنا سؤال استقر سِرُّه في قلب الجدران العتيقة:
- وأنى لنا بدفع الغرامة؟

اقترح أخوه الجوهري دفع عظيم من هذا المقدار ببيع منزله ومزرعته وتوزيع الباقي على الكتاب والصَّيارفة، تطوع تلامذته من الأقباط بسداد جزء فأجزاء، كانت صيحات مبادراتهم تملأ الجوهري بالاعتزاز وتنسيه مرارة الغبن، انتهز المعلم غالي الفرصة فجمع من الكتاب والصَّيارفة ما قد تحصلوا عليه من الجوهري، وقع الاشتباه في خاطر محمد علي: لماذا يجمع كبير المباشرين المال من كتاب الدولة؟ ولمَ يفعل دون إذن منه سابق؟ لم يمضِ الكثير حتى شملت نقمة الوالي الجميع فطوحت بالصديق والعدو، أمر بمحاصرة بيت المعلم غالي وأخيه فرنسيس وأبيه المعلم سيرجيوس، وكذا المعلم جرجس وأخوه حنا، واثنان آخران، أخرجهم من ديارهم بصورة منكرة وسمر دورهم وأخذ دفاترهم، حضروا في قصر الوالي الذي قال لهم:

- أريد محاسبتكم بموجب هذه الدفاتر، غرامتكم ثلاثون ألف كيس، (وأشار إلى ركن الحجرة الفسيحة) تناقشوا هناك وجيئوني بما انتهيتم إليه، رأي واحد ولا ترهقوا رأسي بثرثرة..

واجتمع الخصيمان: غالي وجرجس في ركن قاعة الوالي، صرخ المعلم غالي:

- كيف أفي بها وكل ما معي لا يزيد عن عشرة آلاف؟

ووافقه أخوه فرنسيس بصوت خافت:

- حقا إن الباشا يهذي، وهو بنا هازئ..

قال الجوهري:

- بل هذا جزاء ركوب الأسد والقفز على ما عند الآخرين..

 ووقع بين الرجلين خلاف، تبادلا ضربات بالأيدي ضحك منها الوالي على مقعده الوثير، ذلك حتى تدخل حنا بينهما قائلا:

- ليس هذا وقته، يجب أن نبحث عن وسيط يخفف عنَّا الغرامة.

وقال غالي وهو يتدارك أثر الجهد الذي بذله:

- وسيطنا هو الرب الذي أعاد الفيضان..

وتدخل جرجس يقول:

- الآن تعترف بالرب ودوره؟

وجعل سيرجيوس يقول لابنه غالي:

- الأفندي يبحث عن وسيط في الأرض،.. ما رأيكم في محمد بك الدفتردار؟ إنه زوج نازلي: ثاني أكبر بنات الوالي، وله عنده حديث مسموع ودلال غير منكور، خصاله فيما خبرت الشهامة والذكاء والجسارة.

وتدخل غالي قائلا:

- لن يتجسر الدفتردار على مخالفة عمه الباشا، والوساطة نقطة عدل بين مختلفين، فلنبحث عن وسيط لا ينتمي إلى العائلة، إنني أقترح حسين أفندي الروزنامجي..

ولجأوا إذن إلى حسين أفندي الروزنامجي الذي نجح في خفض العقوبة إلى سبعة آلاف كيس فدفعوها، عاد غالي إلى استئناف نشاطه في جمع الضريبة وقد وعى خطورة الاقتراب من الباشا، شعر محمد علي بما أحدثه في نفسه من مذلة فسأله يوما متلطفا:

- قلت إن محبوبتك كتورة من أخميم، فحدثني عن هذه البلاد وأهلها.

أجاب غالي على جناح الخوف:

- ذكرها المقدسي في كتاب أحسن التقاسيم فقال: مدينة كثيرة النخيل ذات كروم ومزارع، ثم ذكرها الإدريسي في نزهة المشتاق فقال: مدينة في شرق النيل وبها البناء المسمى بريا، وهي الآن باقية ثابتة..

وقاطعه الوالي يقول:

- سألتك عما وجدت فيها أنتَ،.. فلمَ تأتيني بأقوال الغابرين عنها؟

لم يبارح الفزع وجدان المعلم غالي منذ كشفت له الحوادث عن وجه الوالي الغضوب، كان الخوف من النبذ والعقاب يبث في روعه شعور العجز عن الإتيان برأي مستقل في مسألة، فأجابه يقول:

- رأيي فيها هو من رأي مولاي، ونظره في البلاد والعباد.

قال محمد علي وقد جف صبره:

- لا رأي لمولاك فيها، فآتني بما عندك.

وتولى عنه غالي يقول:

- دعني وعملي رجاءً، فإني عليه أقدر من الحديث..

انزوى غالي هذا اليوم وحيدا يفكر في مستقبله الذي يتقلب وفق مزاج الباشا، بين يوم وليلة ينقلب من زهوة العز إلى حضيض الذل، تتقلب أحواله كأنها منازل الأقمار بين بدر وزوال، أضناه شعوره بالضعف حتى أتته زوجه كاترينا بالبشرى، وجدته يبكي فقالت:

- آن لنبتة في أحشائي أن تخرج إلى نور الوجود.

غرست المرأة زهرة في أرض قفار، ستنعم عليه بطنها الخضراء بثمرة، تهلل وجه غالي المكفهر، تساءل بلهفة:

- ماذا نسميه؟ 

- باسليوس..

انضم باسليوس إلى الصغيرين دوس وطوبيا تحت رعاية كاترينا، انخرط غالي في عمله بجد يريد أن ينسى مهانة ما جرى، إنه يتقي شر السلطان بالصمت وبالقبول، وسمع في الكيخيا صوت الغلام يقول:

- لماذا يُغضبك أن تذوق من كأس تذيقه لغيرك؟

هذه المرة لم يعرف المغبون التسامح، امتلأ بالمرارة والنقمة، ما كان لحديث المسيح عن العشارين أن يصب اليوم على غضبته زَيْتًا وخَمرًا، وهذا نداء يستهدفه: محتقر أنتَ في القصر وفي الشارع، قبض غالي على رقبة الغلام حتى جعل الصغير يصيح:

- دعني، أيها الشيطان..

لم يخلصه منه إلا مشاة السبيل الذين جعلوا يتحدثون عن جبروت الرجل، لم يقتصر على فرض الضريبة والتفنن في الجباية، وزاد عليها اليوم وحشية الانتقام من غلام، إنه يعرف أن في نفسه خضرة وضياء، ليس وحشا كاسرا وإلا لمَ سره أن ينجب باسليوس؟ لماذا يرى في عينيه السلام عند الفجر؟ لماذا يداعب خديه حين يعود إلى كاترينا؟ إن شيطانا لا يرى السلام في شيء، لماذا يحتقره الأصاغر والأكابر إذن؟ ليته أقام حياته على الاستقامة منذ بدأت، ولكن رجاءً بعد فوات كلا رجاء، إن نهمه إلى الضرائب هو دون نهم الباشا بأشواط، ما هو إلا تلميذ خجول في مدرسة الوالي المبجل، لماذا تناله السخرية والازدراء؟ ولو صدق ميزان العوام لكان عظيم مصر أول المنبوذين، وحدث نفسه:"لا ميزان للعوام.. فامْضِ إلى غايتك غير مكترث.. ولتنل منهم بالضريبة كما ينالون منك بالنظرات..". مرَّتْ أشهُرٌ سبعة، لا يزال محمد علي يتشكك في أمانة المعلم غالي، إنه يرتاب أيضا من استقامة جرجس الجوهري، يقول العوام بأن واليهم يقطن في القصور وعقله مأسور في الهواجس، يشيعون زورا أنه نصب تجاه قصر شبرا خوازيق للمعلم غالي وأكابر القبط، وها هو ذا الباشا يأمر بحبس الرجلين في القلعة مجددا، ختم الجنود على دورهما ثم أنزلوا المعلم غالي والمعلم فلتأوس في مركب مَنْفِيِّين إلى دمياط، وجد المعلم غالي في محبس دمياط جرجس الجوهري وتلامذة القبط من صحبته، لا يدري ما يضنيه أكثر: شقاء الحبس أم مزاملة هؤلاء الكارهين؟ اقترب غالي من جرجس مكسور الخاطر، جرع جرجس قدح الماء ثم اختلط صوت الشراب بضحكة عابثة متشفية، سأله بعد أن ملك صوته بعد السعال في زهوة نصر تتصنع طلب جواب:

- لعلك تسأل كيف آتي بقدح الماء؟ تلامذتي يتسللون عند الليل ويأتون به، إنهم فتية مخلصون،.. ومن ذا الذي خلفك كبيرا للمباشرين؟

الحزن يغري بترك الجدل، قال غالي آسفا:

- جعلها الباشا لرجل يُقال له: المعلم منصور صريمون، قلَّده مباشرة الدواوين في احتفال كبير، ومعه كاتبان آخران: يُسمى أحدهما بشارة والآخر رزق الله الصباغ.

هتف جرجس:

- فقد الباشا عقله منذ بعيد، تحديدا مذ أقصاني عن منصبي،.. ولكنني أعرف رزق الله الصباغ، هو من أقربائي.

هتف غالي:

- ها قد خرج من فمك شيء جيد،.. ماذا تنتظر؟

تطلع جرجس إلى جدران المحبس وكوة يتسلل منها الغبار والضوء، تساءل وهو يتقدم تلامذته الأقباط نحو غالي:

- لماذا أساعدك؟

- سألتكَ أن تساعد نفسك، فلعلك أن تساعدني من ورائها.

-  أقسم أني أكرهك ولو على حساب نفسي.

- وتلامذتك من القبط؟ أتعميك عن صالحهم كراهية بلا بصيرة؟

تطلع جرجس إلى تلامذته ومضى وهو يربت على أكتافهم تباعا فيما يتلقى منهم إلهاما بالرضا يقول:

- هم رجال أشداء، ترويهم رشفة وتشبعهم كِسرة، السجن اختبارهم، والرب في المحنة يلهمهم.

خذل جرجس رجاء المعلم غالي في الوساطة إذن، سعى الساعون من آل فلتأوس في مصالحة المعلم غالي والباشا الذي نزل لدى إلحاحهم أخيرا لقاء أربعة وعشرين ألف كيس، قيل بأن عائلة كاترينا في أخميم وكهنة الفيضان بالمحروسة برئاسة الأنبا بطرس نفسه طلبوا منه الصفح كذاك، وهكذا صدر فرمان الرضا عنه والبشائر، حضر المعلم غالي من دمياط وطلع إلى القلعة في حراسة الجند، قابل الباشا الذي خلع عليه وأشربه عصير التوت وألبسه فروة سمور، وجعل يناديه بـ"رئيس معلمينا ذو الصداقة غالي"، وعلق قائلا:

- جئنا بها (أي فروة السمور) من الروسيا، من جبال هناك يسمونها الأورال.

 لا يدري غالي عند أي حال يقف مزاج مولاه، لا يستقر عقل نرجسي على قرار، استأنف الوالي حديثه:

- زعموا أن عداء رموز الأقباط سينذر بعودة الجفاف، الوشاة أوقعوا بيننا..

ارتاح غالي في فروة السمور الوثيرة وتطلع إلى الوالي مرتابا وخائفا، كان يقلب خديه في النعومة وقلبه معلق على كف القضاء، قال:

-  حاشاك من أن تعاندك التصاريف لأجل عبد ضعيف..

سعد محمد علي بجواب غالي الخنوع، لَشَدَّ ما يحب الباشا أن يجد الرضا من رعيته رغم ما يتورط فيه من الجور والظلامة، إنه يتقلب بين اللين والشدة كي يطمئن إلى سيطرته على الأمور، قال متأثرا بالجواب:

- سأتنازل لك عن أربعة آلاف كيس، وستعود كبيرا للمباشرين..

لم يبارح الأسف وجدان غالي على بشارة النبأ الذي سمعه، تحركت الفروة تحت تأثير نسمات الهواء، تتموج ألوانها بين درجات اللونين البني والرمادي، قال غالي:

- أخشى أن تكون قد أعدتَّ إليَّ مركزي دون كرامتي، مولاي، فإذا كان ذلك كذلك فما عدت حقًّا إلى حقيقتي.

هتف الوالي في الجاويشية فحضروا تباعا بالعصا المفضضة، أمرهم الباشا أن ينزلوا بالمعلم غالي بين الخلائق في موكب تشريف، مر موكبهم بغلامي الكيخيا اللَّذَيْن لم يتجرأ أحد منهما حتى على النظر إلى موكب الجنود، ألقت كاترينا على الموكب السائر ماء الورد حين مر بدارها، كان وليدها باسليوس في سلة موسى فحملته ليرى إلى المشهد المهيب، سار دوس وطوبيا في أذيال الجند، شقت العصيان المفضضة احتشاد العوام في الأسواق، نزلت طبلخانة الباشا إلى بيت المعلم غالي، واستمروا يضربون النوبة التركية هناك أيام العيد الثلاثة، كذلك دقوا الطبل الشامي وباقي الملاعيب، كانت كاترينا تهب النقود لدوس وطوبيا فتقول لهما:

- فلترمِيَا لهم الخِلع والبقاشيش..

ألقى الغلامان البقشيش على ضاربي الطبل في البيت الذي عج بقصاده، ابتسمت كاترينا للغلامين، رأى غالي انتصاره أخيرا، ها هو ذا يجلس على دكة داره، يقبل عليه الأعيان المسلمون والأقباط كي يهنئوه بـ"القدوم المبارك"، لا يعنيه أن يكون محبوبا بل موقرا، ولا يضيره أن يعينه الجاويشية على غرضه ولو من طريق بث الخوف، فمن الوقار ما يأتي من طريق الخوف أيضا، ولكنه وجد حول الموكب السائر من يقول:

- لقد عاد جرجس الجوهري كاتبا لإبراهيم باشا.

فتحفظ ومال عن الرضا. 


 اقرأ أيضاً : 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق