روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/19

خطاب من فيفيان

      الفصل الثالث والعشرون: خطاب من فيفيان



في الكويت..

قضى فؤاد أياماً موفورة بالكويت رفقة صغيريه عماد وإسحاق، وزوجه غادة التي كان يعرف كيف يستألف قلبها حين شعورها بالسأم من ملازمتها الطويلة للبيت، أو حين يصيبها الكلال من الحوار مع صديقتيها الثرثارتين وأقرب صويحباتها جميلة وآسيل، وكان عماد الذي بلغ عامه الرابع سبباً لسرور العائلة بمشاغبته وأسئلته، كان فؤاد بدوره يترك له حرية التصرف في دمى الحانوت الذي له، وقال له يوماً :

- الحقيقة أشبه بميدان فسيح يضرب الرائي ببصره فيه فلا يدرك غاياته، فإن وقع وادعى امرؤ إلمامه بها كانت هذه أظهر علائم الكذب..

وجعل عماد يتساءل مستعظماً صورة أبيه :

- وحتى أنت لا تحيط بها؟

وابتسم فؤاد يقول :

- حتى أنا لا أحيط بها..

تعلم الصغير شيئاً من الإسلام والمسيحية، وحرص فؤاد على أن يذكره بالآراء المعتدلة من الديانتين، وفي بعضهما كرأي بطريرك كنيسة المشرق طيماثيوس الأول في النبي محمد، وكان يذكر له المتشابه بين العقيتديتن من المنقول المقدس وموارد الأذكار :

- وفي القرآن : لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، ومثلها في المسيحية : الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد.

واختلط على الصغير الأمر، فسأله يوماً (عماد) :

- وأي النصين أحفظ؟

- لا جدوى تُرتجى من مجرد الحفظ، والأحرى أن تلتمس المعنى وتتوخى القيمة، أن تعمل بما تعرف أعلى مثابة من أن تلقن بما لا تفقه، وعيسى حذرنا من أن نردد الكلام باطلاً،.. ولتتحرَ الفضيلة أينما كانت، وطبيعة الإنسان تحبب إليه الخيور، إذ هي جسره إلى الرضا في واقعه المبهم، ولكن لا يمكنك المراهنة على أن يلتزم الجميع بالميثاق الأخلاقي العام، وبئس الاستعلاء ما كان قائماً على تفوق ديني أو تميز أخلاقي ! والمسيح يقول : الحق أقول لكم : إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله كي يؤشر إلى حقيقة أن الجنة ليس حكراً على الكهنة..

جاء فؤاد بشابين من معارفه بالإسكندرية فأوكل إليهما بمساعدته في شؤون حانوته بالكويت، وقد دعته رئاسة الحانوت بعد المرؤوسية فيه إلى ابتغاء الأعوان الذين كان لاصطفائهم من مدينته الأم غرض في نفسه إذ هم يتحدثون بلهجة تحيطه بالألفة والسكينة وسط اغترابه، علاوة على أنه في هذا إنما يزيد في شعوره بالمنح الذي يرضيه وكان يشعر بشيء منه في أحيان عودته بالهدايا الخليجية إلى أترابه بالإسكندرية، وقد انتهت تلك النعمة باستقلالهم (أي أترابه) عن دنيا السبيل، وتفرغهم إلى ملهيات الحياة.. وكان أولهما بدين مربوع من غيط العنب، وثانيهما نحيل طويل من مينا البصل، وحين قصد إليهما ذات يوم ألفاهما في اضطراب مذهل، قال البدين له واسمه عبد العزيز :

- جاءنا مجهول زعم أنه من طرف رجل اسمه رمزي يهددنا وينذرنا..

وقال النحيل واسمه فريد :

- قال بأن الحق سيعود إلى أصحابه،..هل نحن على غير الحق؟

أصاب فؤاد الغضب والذهول، وتساءل دون أن يجيب عن السؤال الأخير :

- من منكما قد رآه فيبلِّغ الأمن الكويتي بأوصافه؟

وأجاب عبد العزيز :

- كان مستتراً وراء لثام أخفى هويته، ولكنني كشفت بعض وجهه حين أماطت لثامه نسمة ريح، كان في خده الأيسر حسنة سوداء في حجم الزيتونة، على أن هذا دون ما يُستدل به إلى هويته. 

وجاءت إلى الحانوت آسيل فمضى عبد العزيز يتحدث إليها هنيهة ثم جاء إلى فؤاد يقول :

-  إن زوجك تطلب منك أن تشتري الشيكولاتة لعماد الذي يأخذ يبكي في البيت لرغبته فيها، وقد حملت جارتكم (آسيل) برسالتها هذه إليك..

وترك فؤاد عبد العزيز مجتهداً أن يتفادى جسده الملآن فتقدم إلى آسيل بضع خطى في محيط الدمى، والأخيرة بادرته إلى القول البشوش :

- أبناء المجتمع الكويتي شغوفون بالشيكولاتة، إن عماد كويتي الهوى..

وابتسم يقول :

- لقد عاش حياته كلها هنا، أرجو أن أقف على أمر حاسم في حياته، إنه يغرقني بالأسئلة..

وقالت :

- لا بأس، الشغف والسؤال قرينان، لعله محسود لجمال صورته..

وقال في هدوء كالمرء يرمي بصنارة في بحر هادئ :

- ربما، ولا يخلو جسد من حسد..

ومضت آسيل عنه ولكن عبد العزيز سألها إن هي تريد أمراً آخر، وجعلت المرأة تحدث عبد العزيز مدة وكان فؤاد عليماً بما يدور في خلد صاحبه من رغبته في التقرب إلى الفتاة الكويتية التي تعثر في هواها  وقد حدثه عن فتونها وجمالها فتركه، وجلس (فؤاد) يقرأ خطاب حماته فيفيان التي كانت تراسله كثيراً وزوجه لوحدتها التي ضربت عليها بالإسكندرية، هذه التي قصرت حراراة الإيمان وصلوات السماء عن إشباعها، وعن وقايتها من خواء قد نجم عن "شحة الأنفاس التي في مداها"، بتعبيرها :

"عزيزي فؤاد..

لقد انتقلت إلى الحياة في حي فلمنج بالإسكندرية، إن مبرري في هذا أني أردت القربة بكنيسة مارمينا، ودير راهبات الرحمة في أواخر أيامي القليلات، ما أوثق التضرع إلى الرب الذي في السماء قرب بيوته التي في الأرض ! وقد ذكروا لي - أعني أولاء الذين ابتعت شقتهم - بأن الحي الجديد الذي نزلت به قد سُمي على اسم مكتشف البنسلين ألكسندر فلمنج دون أن أتحقق من حقيقة الأمر، إذ تدهورت صحتي على نحو ألزمني جلسة البيت بعد زيارتي لمشفى مبرة محمد علي (جمعية محمد علي الخيرية التي نجت من ثورة 1952م قبل أن يداهمها التأميم بعد ذلك وقبل عقدين) هناك، فلم تعد بي طاقة التحقق أو السؤال وإن رجحت بطلان ما سمعت،.. وأريد رؤيتكما اليوم قبل الغد في بيتي بشارع تاج الرؤساء،.. ولا أبالغ إذ أقول إن بينكما وبين أجلي المحتوم سباق أرجو أن تكون لكما الغلبة فيه..

محبتي..".

وتذكر فؤاد حقيقة ما جرى لعماد في زيارته الأخيرة إلى الإسكندرية، فنزهته التجربة من فكرة اصطحاب نجليه وقرر استبقاءهما بالكويت، كانت آسيل بالكاد أنهت حديثها إلى عبد العزيز، وترك فؤاد موقعه فجعل ينادي عليها بعد أن تحرك على عجل حتى صار واقفاً أمام الحانوت، يناديها دون أن يذكر لها اسماً، متأثراً بثقافة خليجية تقرن بين اسم المرأة وبين العيب :

- مهلاً مهلاً، سيدتي، إني قاصدك في خدمة..

 

في استوديو التصوير..

جعل مظهر يسرد لطاقم الفيلم وقائع زيارته لألمانيا الشرقية التي قضى مدتها في الأسبوع الفائت، وجعل يقول :

- والفرد في ألمانيا الشرقية أقل نرجسية من مثيله في ألمانيا الغربية لأن ولائه للمجتمع ككل، ولاعجب فسياسة الانفتاح التي مررنا بها خلقت طبقة من الأنذال والمستغلين، وبالعودة إلى تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية فأقول : إنها تجربة إنسانية مجتمعية حقيقة بالرصد، لقد شيدوا الجدار الخرساني ذي الأسلاك الشائكة الذي فصل بين العائلات التي تصادف وجودها في أجزاء من المدينة مختلفة.

وطفق المصور يعارضه فيقول قاصداً ألمانيا الشرقية جواباً على أسئلته الكثيرة :

- عذراً، لقد كنت رفقيك في هاته الزيارة، وإنني اتساءل : وأي طرف يلقن الأطفال التقاليد البائسة؟ وأيهما فرض الرقابة على الأفلام؟ وأيهما حظر فيلم Grease لكونه رأسمالياً أكثر من اللازم؟ لا مشكل لدي في أن يصاب المتفوق بالغرور مادام تفوقه حقيقة،.. هل أنتجت الاشتراكية فناً متفوقاً؟

ورمقه مظهر في ازدراء كأنما يروم أن يستنزل اللعنة عليه أو أن تهب عليه ريحاً عاتية، يقول :

- هل سمعت عن الواقعية الاشتراكية؟

- الفن متى حملته بالأهداف والعقائد انقلب منشوراً دعائياً من فوره.

وجعل المنتج يقول :

- أجل أنني أوافق السيد المتحمس (يريد المصور) فيما يخص النرجسية، وكما يقولون : Nice guys finish last! (اللطفاء ينهون أخيراً)

ولف مظهر السأم وجعل يقول (يريد المقارنة بين المانيا الشرقية وبين الغربية):

- وأيهما استخدم طاقته البشرية في الحفاظ على البيئة عبر إعادة التدوير؟ وأيهما أوفى من جهة فرص العمل؟ والمشكل أنك لا تستطيع أن تقنع الجميع بأن الاشتراكية مآل حتمي، إنها السياسة النبيلة التي استوعبها  - ولا يزال يستوعبها - القرن العشرين بامتياز من الشيوعية والفاشية وحتى الاشتراكية القومية.

- عم تتحدث؟ كثير من عمال المصانع هناك (أي في ألمانيا الشرقية) ليس لديهم ما يفعلونه، اليسار ظاهرة صوتية تجده في مقاهي وسط البلد وفي تلك الصالونات العبقة بالسجائر الملغمة، وبمقدوري القول بأن الحقيقة الجوهرية في فِكَره هو "أنها لا تعمل"،.. حسبك عبثاً أن تجمع بين الفاشية وبين السياسة النبيلة في جملة واحدة.

وقال مظهر :

- مهلاً مهلاً، لا حاجة بنا لالتماس النماذج البعيدة، لقد مرت مدينتنا بالطورين الاشتراكي والرأسمالي، من منكم يود أن يعيش في الإسكندرية الناصرية؟ ومن منكم يريد العيش في إسكندرية اليوم؟

وأجاب المصور :

- لا هذا ولا ذاك، سأعيش في الإسكندرية الملكية.

- ربما تعيش بائعاً للماء تسقي السادة، بلا تعليم، وقد يصيبك السل.

- لا يزال هذا خيراً من تطبيقات الشيوعية..

- ماذا يزعجك في الـCommunism ؟

- لا أريد أن أفني عمري بين وظائف بائسة وبين حروب طاحنة، على حين يتنعم أبناء الرفاق في جامعات خاصة بالعالم الأول..

وجعلوا يتناقشون حول أفلام المقاولات، فجعل المنتج يقول :

- صحة الفن هي ببساطة مؤشر لصحة الحضارة والمجتمع، مثلما يستدل على صحة البدن بسلامة البشرة من جهة اللون والقوام، وأفلام المقاولات دليل على الانحطاط العام الذي بتنا نرزح تحت وطأته، والسبب في ذاك مشترك بين اضمحلال طبقة النقاد الجادين، وبين سيطرة أنماط الإنتاج الربحي..

واستمر النقاش طويلاً كفريقين متنازعين في معركة يرميان بعضهما بسهام وحجارة مجانيق، لم يصل مظهر كعادة نقاشاته مع طاقمه إلى كلمة سواء ترضيه، وأخذ ينادي في طاقم عمله يقول وكان يلثغ في كلامه ويتهته :

- هلموا، سادتي، فليكن أداؤكم متدفقاً بشدة وتتابع كأنه ماء ثَجَّاج، ولا تزيدوا من حركة الوجه والحاجبين كمن يقف في الباب الدوار لمطار مستمراً في دورانه دون أن يعبر منه، إن في العينين المبتدأ، وفي الصمت المنتهى، وإذا "سرق" ممثل الكادر من ممثل آخر فكلاهما سيِّئ فرَّط في الغاية من الأداء، ومن ترك نطاق حركته المخصوص لرغبة في الظهور أضاع ثراء العناصر، وهبط بالسينما إلى مسرح هواة، لغة الجسد لسان الممثل في أوقات صمته، ونبرة الحديث أهم عملياً من محتواه في توصيل الشعور، ولكل فن إيقاع، ومعنى، وخيال، وعاطفة !

وكان الرجل يكرر توصياته هذه حتى استحالت إلى ما يشبه الديباجة التي يحفظها الجميع، وبعضهم يسبقه إليها حتى يحدث أن يحرك المصور أو الممثل شفتيه بمنطوق الكلام في سخرية وهزل، وتم الأمر لمظهر فابتدأ التصوير، كان الأب يقول لابنته، يلوح متهدل البطن ذو بشرة زيتونية :

- إلام تحملين لي هاته البغضاء وقد صرتِ طبيبة؟

وكانت البنت تقول لأبيها الذي في الفيلم :

- لقد لوثت حياتي بمطامعك، وصحن الطعام إذا ولغ فيه الكلب ما عاد صالحاً للأكل إلا بغسلات سبع أولاهن بالتراب.

- خسئتِ،.. أتشهبين أباك بالكلب؟

- إن بعض الكلاب لا تعرف الطمع والجشع كالآدميين.

وهكذا صار للفيلم اسم :"بعض الكلاب لا تعرف الطمع !" نسجاً على منوال الأسماء الجادة ذات الصياغة الفصحى في هذا العقد، وجعل فريق العمل يصفق تصفيقاً طويلاً، يباركون إتمام المشهد الأخير، غير أن مظهراً جلس على كرسيه الخيزراني الهزاز يقول بوجه محايد كأنه أعشى العينين :

- معذرة إذا أفسدت سروركم وابتهاجكم، إذ أن هذا ليس بالمشهد الأخير.

وملأ صدره بدخان السيجار ثم جعل يقول في فترة تسبق الزفير :

- لقد أعدت قراءة السيناريو طوال الليل، ووجدت أنه لا يصلح إلا بقبلة النهاية.

كانت نور تلبس إيشارباً يخفي بعض شعر رأسها، وخلعت غطاء الرأس كأنما  أرادت أن تتملص من ظاهر الشخصية في غضب تقول :

- لن يكون ثمة قبلة بالنهاية، لقد انتهى الفيلم..

وانفعل الرجل يقول :

- لدي من المشكلات ما يكفي كيلا أضيع وقتي في أمر على هاته التفاهة، كان أولى بكِ أن تؤدي فيلم قراصنة هو مسطح الفكر منزوع المعاني..

وأغضبها أن يستهين بها على مسمع من الجميع فطلب الرجل من الحضور الانصراف كي ينفرد بحديثه إليها، ثم جعل يقول :

- إذا أنتِ نزعت السياسة والدين والرومانسية من فيلم، ماذا تبقى له من بهارات الجذب؟ القبلة ضرورة للتسويق الدعائي.

كان المصور يقف لدى عتبة الباب وقد أعاده صوتها العالي حين سمعها تقول:

- فليذهب التسويق الدعائي إلى درك الجحيم..

وهنالك تقدم مظهر نحوها يقول :

-  ماذا تخسرين بقبلة تهبيها لعجوز فوق السبعين، مثلي؟

وقالت تدفعه عنها :

- القبلة لكَ إذاً لا لأجل الفيلم..

وصرخت صراخ الفزع من وجه شائخ يتحرى القربة منها، هناك تدخل المصور يخلصها من نفس تروم العدوان عليها. 

 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق