استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/14

رواية أمل الحياة

            رواية أمل الحياة






كان فؤاد قد أنهى مسيره المتنزه بالقعود في وكالة مونفراتو المطلة على ميدان عرابي بالمنشية بقوله :"ومما يذكر للرجل (أي عرابي) أيضاً من مناقب المنفى : نشره الإسلام بسيريلانكا ونقل زراعة المانجو إلى مصر،.. ولحوادث الأيام طيف متعدد الدرجات من المنفعة.."، وقد فرغ من تجواله رفقة نجله الصغير عماد الذي بدا أنه قد غفل دون أن يستوعب من أبيه حرفاً وقد تضرر صدره من العوادم، وانشغل في هذا الطراز الإيطالي للوكالة وحقيقتها العتيقة وأغرته حرارة المكان حتى أخذته من النوم سنة، واستيقظ بعد زهاء ثلث ساعة فلم يجد الذي في يده، هنالك أخذه الذعر واحترق قلبه بالجزع، يقول :

- عماد، إلهي.. أين ذهب الولد؟

 

وأجابه من الجلوس واحد يقول :

- لعله مضى هنا أو هناك.

وتفجرت النقمة ببواطنه الملتاعة في خضم هزلية الاقتراح، قال :

- ماذا تظنه؟ إنه أصغر حتى من أن يمشي بشكل جيد..

ونهض الذي إلى جواره يقول :

- لقد جاء من حَمَله ومضى، كان شاباً أسمر، نحيل هزيل، كأنه عود القصب، وقد زعم أنه نسيب له ولكَ..  

واشتد بأس الرجل الذي كاد يُقضى عليه من الرَّوْع، وتعلق بحافة الأمل من هوة الضياع، فقال :

- دلني عليه، أهبك ما تريد..

قضى فؤاد العصر وما بعده في بحث دؤوب يقتفي وصف الرجل، وأوصاف غيره ممن تطوعوا إلى المساعدة دون عميق معرفة - كعادة أهل الحي - وحتى لقد جال هلال الضواحي الذي يطوق القلب الساحلي القديم للمدينة، بأحيائه الفقيرة والمتوسطة والراقية على السواء، وأشفى التوقيت على المغيب ثم زاد إلى ما بعده فأتاحت سننه المتواترة لليل أن يبسط وحشته، وأحس أن النهار لن يطلع في غداته أبداً، حري به ألا يكشف عن وجهه الوضاء،.. عاد الرجل إلى حيث بدأ : وكالة مونفراتو بحفي حنين، واستقرت فيه خيبة يائسة شعر معها بالجهد الذي بذله، وحين انقطع الأمل ألفى لدى الطاولة - التي هي إزاء مقعده بالوكالة الإيطالية - رسالة كتبها السارق يحدد فيها ثمن الطفل : خمس آلاف جنيه، وحدد مكاناً بالمساكن الصينية قرب سوق الهانوفيل بالعجمي يأتيه فيه حين تغيب آخر نقطة ضوء في الغد، وحمد فؤاد الأقدار وإن بقى يعوزه المال، ولاحت له مطامع السارق أهون من ضيعة الظنون، إنه إن كتب إلى امرأته تطلب جوابها وقت طويل وفاته الميعاد، وإن هذا مما يزكي المخاوف والطفل في يد غير أمينة، وأما أمه هدى فحظها بعد وفاة زوجها - وحتى قبله - من المال قليل، وما فكرت يوماً في ميراث أبيها ودبرت في سبيله واحتالت إلا لأنها كذلك،.. قصد يومذاك إلى حماته فيفيان يساوره الخزي والوهن، واستقبلته المرأة البدينة في ود تقول وكانت محبة للأطفال حتى أنها علقت نسخة من لوحة الطفل براغ في بهو البيت إلى الجوار من لوحة ماري جرجس الذي يطعن التنين بحربته، وسألته :

- وأين الطفل؟

وأظهرها على الحقيقة التي فجعتها، وكيف ضاع "أمل الحياة" عنده، وجعلت تردد كأنها تهتف :"قدوس، قدوس.."، وعادت تقص عليه قصة الطفل براغ العجائبية، وقالت خاتمة :

- قال الطفل : "ضعوني بجانب السكرستيّا، وستحصلون على المال..". وقد فعل الأب سيريللوس ذلك، وتمّ مكافأة إيمانه بشكل واضح، إذ جاءه غريب بحبوة من النقود، وعلى هذا النحو عادت إلى تمثال الطفل يديه المفقودتين بعد أن جرى ترميمه !

وهناك سألها وقد بدا أنه لم يستخلص من قصتها ما يفيده في محنته، يقول :

- هل يعني هذا أنكِ ستمنحينني المال الذي أريد؟

ونهضت فيفيان دون أن تجيبه ثم عادت بحقيبة النقود التي تلقفها منها الأب - دون متسع حتى لشكرها - منتقلاً من طور اليأس إلى حال من الهمة عجيب، وقطع سبيله إلى المساكن الصينية وبلغ العنوان المقصود، وفي الساعة التي اختفت فيها الأضواء ترك الشاب حقيبته في محيط قذر من القمامة والمستنقعات والبرك الطينية، وانقلبت الهمة بعد تصرفه هذا قلقاً مشروعاً فحروب العصابات هناك كانت تجبر الأهالي على ملازمة بيتوهم لأيام ثلاثة، وقد أنشأت المساكن لتكون بالأساس مقامات للعاملين بشركات القطاع العام في مشروع مصري صيني مشترك فغدت مجالاً للمهمشين، ومهجعاً للإجرام، ومن لا يملك لا يخاف،.. ومضى إلى الوراء خمسون خطوة تاركاً حقيبة النقود كما حدد الطالب في رسالة مونفراتو، كان يمضي فيحصي الخطى كالسائر فوق الصراط العسير، فلما أتم الخمسين ارتجف قلبه بنشوة أمل انبعثت من جوف الإحساسات الخانقة والافتراضات الجاثمة، هناك لاح شاب أسمر اختطف الحقيبة وراح يمضي راكضاً، وجعل فؤاد يناديه :

- أنت ! يا هذاً ! أين الولد؟ لا أشبع الله بطنك..

ولاح صوت باكٍ لطفل ظهر من ذاك الزقاق المعتم يمضي في الطريق الكريه، هرع إليه فؤاد لما كان يخشى عليه من زواحف شتى، ورفعه عن النطاق القذر ولثمه، قال :

- هذه ولادتك الثانية.. هذه ولادتك الثانية..

 وجعل يعدو راكضاً عن المكان الذي استوحشه، فيما يبكي منتحباً، ومعه طفله،.. تأخرت عودة فؤاد إلى الكويت بسبب ما قد جرى، واستوطنت الحيرة في نفس غادة التي كانت تطل على السبيل المظلم فترى في حجارته شخصية الدعيدع الخيالية، وتملكها الرعب منه وقد أخذت أحاديث جاراتها عنه مأخذ الجدية والتصديق، ولم تطق أن تسمع منهن أسطورة حمارة القايلة الذي يأكل الأطفال الصغار ممن يخرجون وقت الظهيرة، ولم تشأ كذلكم أن تشاركنهن السؤال حول هويته : جن هو أم غول؟ ولا هي حملت أقل الشغف بما كانوا يلوكنه من أحاديث عبثية تخصه في مجلسهن، وأحست لهفة وخوفاً تجاه طفلها البعيد عماد لم تدرِ سببها، وأخذت منها الأمومة مأخذاً كتوارد الخواطر يعبر الحدود، فكأنما وعت ما دار بالإسكندرية من اختطافه وعياً محسوساً لا مرئياً، وتأثر به وجدانها تأثر التجربة النفسانية دون المعايشة الكاملة،.. وجاءها المخاض وحيدة، وحضر الجيران يخدمون ضعفها فيما تتأهب لأن تطلق إلى الحياة كياناً آخر، وأنجبت طفلتها الثانية - مريم - بعد ولادة صعبة متعذرة، وانتظرت مقدم الزوج كي تطلعه على العطية الإلهية، ثم تشتكي تأخره عنها.

 

في موقع آخر..

كان عز يناقش مأمور قسم شرطة محرم بكَ حول مسألة اختفاء بكر، وكان للرجل وجه متجشم مخيف أشبه إلى سمكة كرة القدم Footballfish)) المرعبة، يقول (المأمور) :

- أنت تزعم أن مدير الكازينو اختطفه بغية إعادته إلى العمل، وحقيقة الوقائع أن الشاب لم يعد ولم يظهر..

- سيدي، كان هذا محض ترجيح أو احتمال ممكن..

- ترجيح سقيم بلا أقدام من البرهان، أراه رجلاً ذو ساق خشبية أو ملحية..

كان بكر محتجزاً في إحدى البيوت المهجورة بشاطئ أبي قير، قرب مخلفات مدينتي هيراكليون ومينوتيس الغارقتين هناك، كان مختطفوه رجال أشداء أوعز إليهم معارف العجوز بتعقب بكر ومعاقبته، ووقد حسبوا  - أي معارف العجوز - أن بكراً قد قتل المرأة ثم سرق ما كان مطمعهم من مالها، فأرادوا بتعذيبه دفعه إلى منحهم شيئاً مما قد انتهبه،.. وطال مطال الشاب المحتجز حتى رثت ثيابه (استولى الحارس الثاني على معطفه الكشمير فغدا يلبسه على ضيق مقاسه)، وكان الطعام لا يأتيه إلا لماماً : كسرة خبز مصحوباً بشيء من الجبن أو بلا شيء، وكان على وجهه عصابة، وجُعل على فمه رباط يمنعه من الحديث لما كان دائم القول وحتى في بعض أضغاث أحلامه :"إنني لم أقتلها، وإنما سرقتها.."، وأما جسده المهزول فمقيد بالحبال مربوط إلى ما يشبه الخشبة القائمة، وقال المختطف لصاحبه :

- هل تحسب يد الشرطة تصلنا؟

وأجابه الثاني وهو يرمي بعقب سيجار في الماء :

- سيتحلل جسد الشاب من الجوع الذي خمصه قبل ذاك..

وترك الأول الحجرة ووهب خليج البحر نظرة يقول :

- يقولون بأن آثاراً عتيقة اكتشفت في غور ذاك الماء، إن طياراً بريطانياً حلق فوقه يوماً في ثلاثينييات هذا القرن، لقد تلمح الآثار الغارقة من موقعه الجوي لنقاء المياه آنئذٍ، إلهي! تخيل أن ترى جوف الماء من السماء، ثم أن تبقى الآثار في جوف الماء المالح وتنتهي حضارة البشر الذين أنشأوها..

وأجابه الآخر في تحليل صائب نافذ غريب عن صاحبه كتبصرة نابهة :

- مادامت الآثار قد بقت فالحضارة لم تنتهٍ..

وأزاد الثاني وهو يذهب إلى ما ذهب إليه صاحبه :

- بمقدورهم أن يتلمحوا موقعنا بطائرة إذاً..

ووهب أفق السماء الخالي نظرة يقول :

- لم تعد تمضي الطائرات ها هنا.. لا خوف..

- ألا تشفق على الشاب؟ قال بأن أصله من الريف وأن سقف تطلعاته كان حياة عادية بالإسكندرية..

- أجل، أتعس بنهايته ! وأشرف سبل الإعدام ما كان رمياً بالرصاص، ولكن معارف العجوز جنحوا للانتقامية، وعمدوا إلى المهانة التي يتشفون معها بمن سبقهم إلى مأربهم، كان للعجوز عشاق كثر طماعون فيما لديها، وقد استبق الفتى ما كان يدور في أذهان هؤلاء من أمر السطو عليها، فصبوا جام غضبهم عليه، وقايضوه بحياته مقابل ما قد جمعه منها، ثم ألبسوه ثوب الهوان..

- لا يبدو قاتلاً، لعلها نزوة يأس ساقته إلى مثل هذا الحال المؤسف، ليت لنا قدرة على تحريره..

وتنهد صاحبه يقول كأنما يتحرر من واجب الضمير الإنساني في عبارات تسليمية  تصدر عن أرواح منطفئة :

- أجل، إننا مأمورون بأشياء، مجازون على تحقيقها، معاقبون على التفريط فيها..

كان صوت غمغمة قوية قد عاد يصدر من البناء المهجور، فتحول الرجلان عن مشهد البحر حتى ولجا إلى الداخل، وأزال أولهم وصولاً هذا الرباط حول فم بكر فقال أول ما قال :

- لماذا يريدون الثأر مني؟

وأجيب :

- لأنك استبقت مأربهم في سرقة العجوز،.. لماذا لا تهبهم شيئاً من المال الذي تحصلت عليه عسا أن يتركوك وشأنك؟

- تبرعت به للجمعيات الخيرية، عملاً بنصيحة فردوس !

ونظر محتجزه إلى بدنه الناحل في عطف وإشفاق، يقول :

- ماذا تنفعك المساومة وقد خمص جسدك؟ لا يمكن أن أصدق في وجود عاهرة شريفة، ولا يمكن أن أتصور وجود اللص الخيرّ، أيضاً.

وقال بكر وضوء الشمس ينسل من نافذة علوية فيجلل صورته المنكسرة :

- حاشا الله من أن أساوم أو أن أداجي، والكذب جذر الفساد..

وسأله الثاني :

- ولماذا سرقتها بالأساس؟

وأجابه بكر وهو يطأطأ رأسه :

- الحاجة عوراء، لن أترك الجناة متى خرجت حياً..

- هل تعرف الجناة؟

- أعرف أن مدير الكازينو دَّلهم عليَّ بادئ ذي بدء، وسأجبره على أن يكشف عن هوية أولاء الأفاعي..

ترددت قولته العالية النبرة الوعيدية الميسم في جوف البناء المهجور كصوت بلا قدرة، وخيم الرثاء من واقع العجز، وانتفت القدرة التي تصحب القول فتحيطه بهالة الوجاهة والاعتبار، تركه الرجلان بعد أن أعادوا الرباط على فمه، وجعلا يتفكران في شأن طعام اليوم وشرابه، فعمد الثاني إلى ابتياع الكشري من حانوت أبي طارق الشهير وحدد طلبه منه بـ" خالي كهرمان (عدس) ورد زيادة.."، وكانا يتوفران على الجعة التي يحتفظان بصندوق خشبي يحتوي زجاجاتها هو إلى الوراء من الباب، ولما عاد به أشفق من أن يأكلا الطعام أمام صاحبهم المكتف، وقد كان غاية آماله (بكر) خبز جاف يتحصل عليه في أواسط الأيام المكدودات، وقال الثاني له وهو يستوثق من إحكام الرباط الذي يحيط بوسطه ومن شدته :

- سنحرر يديك وسنفك وصاد فمك دون سائر جسدك، وسنهبك شيئاً يقيم أودك..

وأجابه الأول في تسفيه تأثر حزمه وضبطه لشرب الجعة التي أرخت منه الأعضاء واللسان :

- لشد ما أنت أحمق ضعيف العقل ! إن وجودنا ههنا مرهون باستمرار حياته، ستطيل مدتنا بعطفك الجزيل.

- هوناً هوناً،.. طبق واحد لن يهبه أكسير القدرة الخارقة كسبانخ باباي.

وأجابه الثاني فيما يعدد على أصابع يده المكونات التي يأخذ يذكرها فينتهي إلى يد كاملة بعد أن تتكشف أًصابع خمسة :

- طبق واحد منه يحتوي على المعكرونة والأرز والبصل المقلي والبندورة الحارة (صلصة الطماطم)، بمقدوره أن يهبه شيئاً مما وصفت (أي شيئاً من القدرة الخارقة).

ونزل الأول لدى إلحاح الثاني ففك يديه، جعل بكر يأكل ويمطق في نهم حقيقي لم يجتهد في إخفائه إلا حين ألفى النعاس يتسلل إلى وعي الرجلين، أزاد الغذاء الجالسين رغبة في النوم، استسلما لغواية لذيذة في خضم حرارة متوسطة ومناخ ساحلي، تحرر بكر من أكباله رويداً رويداً وقد قرر الهرب، وجاز الباب حريصاً على ألا يصدم صندوق الجعة الخشبي، ولكنه ما لبث أن عاد حين أحس بالخارج برداً، وتسلل على أطراف أصابعه إلى محيط النائمين عائداً كيما ينتزع معطف الكشمير من الحارس الثاني الذي كان يغط غطيطاً مسموعاً في رفق وتأدة ثم ينصرف انصرافه الأخير،.. ومر زمن يسير استيقظ بعده الحارس الأول فجعل يهتف موقظاً الثاني الذي بدا غافلاً وبغير معطفه :

- لقد هرب الشقي، لقد هرب من قيده ! أيهذا المأفون !  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق