روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/22

الخواطر المستغرقة

            الفصل الخامس: الخواطر المستغرقة


انتقل بلال بدرسه الديني من مسجد عباد الرحمن ببولكلي إلى مسجد رياض الجنة (مقهى الفنانين سابقاً) بحي كرموز، وقد جعل الشاب من موضوعه في هاته الظهيرة الباردة : قضية الهوية والهجرة، فجعل من صاحبه منير أمثولة الشرح، وأنموذج الطرح، واستهل حديثه بالحمد الفصيح :

-"الحمد لله على سوابغ النعم، وله الشكر على جلائل القسم، ربنا الذي علم الإنسان بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، فأنطقه بالحروف المجمة التي هي صيغ الكلام منثورة ومنظومة، وخصه من بين الحيوان باللغي التي ينطق بها مسرودة مفهومة..".

 وكان منير يجلس في هذا الطقس البارد فينتبه إلى ذاك المعروض لوهلة حين يأتي الأمام على اسمه عرضاً، ثم تعود تلتهمه الخواطر المستغرقة في مستقبل أيامه حين تتم له الهجرة إلى الولايات المتحدة عما قريب، وقد حملته البرودة على أن يضع يده بين أزار قميصه (أشبه إلى نابليون في لوحاته التي يظهر فيها وهو يدس يمناه في معطفه)، ودعاه (منيراً) السعال إلى أن يمسح أنفه بطرف الكم، وقد صيره الوضوء كتلة من الثلج والبرودة، وفيما هو كذلك سمع الإمام (بلال) يقول :

- وما رأي أخينا في هاته المسألة؟

وساد صمت أطول مما يجب، فانتبه منير إلى حقيقة السؤال حين استعاد آخر الحديث معولاً على ذاكرته القصيرة المدى، وقد بدا قبلئذٍ في غفلة ذهنية كاملة، ونهض في ارتعاش البرد يقول :

- معذرة، لقد سهيت..

وأجابه بلال في بشاشة يقول :

- لا بأس، سأعيد موجز حديثي على أسماعك وأسماع من فاته : كنت أقول بأن بقاء المؤمن في بلاد الإيمان - ولو أنه لاقى الأذى فيها - خير له من الاغتراب في ديار كفر.

ونظر منير إلى محيطه فأخذته هيبة الحضور الذين كانوا - بطبائع الأحوال - في طوع الإمام، ولكنه اعتزم على الإتيان بما في نفسه من رأي مخالف غير هياب :

- كيف تختزل الولايات المتحدة في "ديار كفر"؟ أنت تعلم أن بها وجوهاً للخير لا يجحدها إلا من عمي البصر والبصيرة، قرأت عن تاريخ البلد الذي انتوي الهجرة إليه، إن دستور الولايات المتّحدة الأمريكيّة لعام 1787م وضع لبنة الحضارة المعاصرة.

وأجابه بلال يقول :

- لا تقل خيراً قط، ولكن قل : زينة الحياة الدنيا، إن التباس المفاهيم أولى حبائل الغزو الثقافي، وحضارة الغرب - وفي قلبها الولايات المتحدة - أقرب إلى الانهيار مما يُتصور، إنها تقبع اليوم في طور الاكتهال والأفول، لأنها (أي الحضارة الغربية) خلو من القيم الروحية فلا يؤول بناؤها إلا إلى مآل بيت العنكبوت، وبعض عقود من السيادة العالمية لن تقنعني بأسطورة الحضارة الخالدة، ولتنظر كيف كان يعامل أمثالك من السمر قبل عقود من اليوم في البلاد التي تنزهها عن كل سوء..

وأجابه منير في عزم وهو يشير إلى باب المسجد في لغة جسد متحفزة وكانت حرارة النقاش ورهبة المعارضة قد ذهبتا ببرودة بدنه :

- حسبك نظرة إلى وجوه العائزين في هذا السبيل وفي غيره تدري بها أي الحضارات أقرب إلى الانهيار..

وسارت في صحن المسجد جلبة شديدة، قال بلال منهياً صخبها :

- هل أنتَ معهم أم معنا؟ الفقر ابتلاء يا عزيزي وإننا لمبتلون، والفقراء لهم في الآخرة جنّات مَعْرُوشات وخير كثير، فلتجلس !

وجلس بلال كاتماً سؤالاً في نفسه :" أليس لهم في دنياهم نصيب؟"، وجعل الأمام يردف قبل أن يقيم الصلاة يقول :

- كان هذا مقهى الفنانين، واليوم صار مسجداً متوسط التكوين، ولكنه كبير جليل بنفوس من فيه، وقد هبط الثلج كما رأيتم حتى رفلت قبته في ثوب أبيض بديع، وقد يأتينا طقس الشمال البارد فيزحف إلى بلادنا دون أن ننسى من نكون، والحمد لله، والعاقبة للمتقين، (ثم وهو يرمي بنظرة إلى منير ذات دلالة..) ولا عزاء لمن سحرهم بهرج الدنيا وزينتها..

ونهض المقصود بنظرة الإمام (منير) في ثورة انفعال مكتوم، فاستوقفه بلال وجعل يسأله :

- ماذا بكِ؟

- كاد أصحابك يقتلونني بنظراتهم..

- إنهم أخوانك، وقد أبدوا غيرة محمودة كنت آمل أن أزرعها بكَ بعد كل محاولاتي، لقد استمعوا لي وأنصتوا، وقد استمعت لي ولم تنصت، وقد اختلف مردودكما ذلك أن سماعاً يمر بالآذان والأَصْمِخَة ليس هو سماع الإنصات والإصاخة..

- إن نفسي عصية على تقبل هذا النمط من الالتزام، إن حقيقة أكثر غوراً تملأني بالمقت : لم أعد أطيق هذه البلاد، وقد بعت فيلا لوران، سألحق برفاقي النوبيين في بلاد العم سام، الوداع.

وقصد منير إلى مطار النزهة القديم وقد انتهى كل ما كان يصله إلى بلاده، بعد وفاة تفيدة فذهب، ثم خروجه على هذا الالتزام القصير وتملصه من الجماعة المحافظة، لقد ثكل الجميع إذاً وما عاد يؤنسه إلا نفسه، وتطلعه الذي يجتهد طاقته ألا يستحيل يأساً، ولكنه بوغت حين حطت أرجله نطاق الطائرات بمن تبعه من درس مسجد رياض الجنة يقول له متحفزاً :

- يجب أن تبقى ليوم أو بعض يوم، لقد رأيت نقاشك مع الإمام، وقد تخيرتك - لأجل ذاك - مستقبلاً للسر الذي يضنيني، كنت منهم ولم تكن كذلك، تماماً مثلي، ثمة جريمة ستقع اليوم..

 


في مقهى الكريستال..

كان مراد قد استأنف صلاته إلى صديقه القديم جمعة، فأبدى له سروره بحفيده صفوت يقول :

- وقد جاءت البنت (أي فردوس) بما عجز الولد (أي رؤوف) عن الإتيان به، يا بُشْرَى! إنها هدية ميمونة، لقد عددت الحفيد الذي لم أره في صعيد مصر عوض السماء عن إيمان التي اُبتسرت قصتها في المهد.

ثم عرج إلى مصارحته بعلاقته الفاترة الغريبة بزوجه أميرة، يقول :

- تخطينا كل الحواجز على نحو معجز، ولكننا ما أن التقينا حتى خملت جوارحنا.

وكان مراد يحس بشيء من شعور سيزيف حين تدحرج صخرته إلى الوادي قبيل وصوله إلى قمة الجبل في خيبته الأبدية، وأجابه جمعة يقول:

- You are The Island and she is The seagull. (أنت الجزيرة وهي طائر النورس)، وكلما كثرت مواردك وحسنت أشجار جزيرتك كنت موؤلاً جيداً لها.

وقال مراد :

- لديك رصيد لاينضب من الفكر الشيطانية، ولم أعد هذا الشاب العجول إلى مجاراة ما تنتجه مصانع رأسك..

- ليست فكرة شيطانية، الأنثى مجبولة على الضعف ولهذا فهي أقرب إلى الإنكار والأنانية.

- كف عن التعميم بحق خصوصية الأشياء، ورحمة بها.

تحدث جمعة مع مراد عن مشروعاته المستقبلية فوهبه الرجل - الذي كشفته تجاربه الفائتة معه - نصف أذن، وكان يرى فيه نسخة قريبة من المرابي البخيل شايلوك في مسرحية تاجر البندقية لوليم شكسبير، من جهة استغلال حوج الناس للمال، ومكث يتأمل جدران المقهى المغطاة بالخشب المطلي باللون البني، هذا الذي تعلوه المرايات الزجاجية، كان التلفاز يذيع عرضاً بالأبيض والأسود، وقد أحس مراد نفسه قد عاد بالزمن إلى أربعينييات هذا القرن، هذه المرة في ثوب المستطيع القادر، وفي مقهى البهوات الذين انتهوا ولم يبقِ منهم في المدينة المتقلبة إلا أثر بعد عين، ولم يزل صديقه في ثرثرة حتى جعل يقول :

- ألم تسمع من قال :

لا يوجد الرزق بالإمعان في الطلب.. ولا بكدّ ولا حرص ولا تعب

بل الحظوظ التي تعلو بصاحبها.. لا بالخطوط التي في سائر الكتب

إنها حكمة اليوم، والغد، ولها فضل في إطراح أغلال شعور المرء بمسؤولية أن يفعل شيئاً !

ومكث مراد على حال من الشرود الذهني فيما جعل صاحبه يزين له عرضه الجديد حتى أتاهما رجل مذعور يقول :

- من منكما والد رؤوف؟

ونظر الرجل الوافد ملياً في وجه الجالسين يتفرس أمارات الغضون، فاستبعد الأصلع (جمعة) وتوجه إلى أشبه الاثنين برؤوف (مراد) يقول له في ذعر بدا أنه قد استأنفه من فيض جزيل الشعور بعد لحظة تأمل وتحقق عارضة :

- رؤوف بعثني إليكَ رسولاً، إنه يتقي فتنة نشبت بالعامرية بين العرب وبين الصعايدة بالاختباء في بيوت الأقباط المحايدين هناك.

ونهض مراد من فوره عن اجتماع صاحبه يسأل الرجل المذعور :

- هل بمقدورك أن تدلني عليه ؟

- سأدلك على بيت الرجل القبطي الأول الذي فيه نزل، إن هذا غاية علمي ومبلغ درايتي، ولتتبع بعد ذاك أثره عبر السؤال، إنه لا يبيت أكثر من ليلة في بيت واحد، ويتحرى الفرار الهادئ من الحي بعيداً من أعين المتربصين من الصعايدة والعرب، مع صديقته الأعرابية الحسناء..

وسأله وهو يقترب من باب خشبي :

- وكيف ولماذا حدث كل هذا؟

- إنها قصة طويلة.. 

مضى مراد إذاً في إثر الرجل المذعور - الذي تبين لمراد عبر السؤال كونه مسيحياً من أهل العامرية واسمه نادر - فيما بقى جمعة في مقهى كريستال يندب حظه في ضياع عرضه على صاحبه، وطرق نادر على باب المسيحي الأول، وهناك ذهل الرجلان حين ألفيا جماعة من ذوي اللحى الكثة يستقبلون الاثنين، كانت اللحية - توصية الإله الإبراهيمي - ورمز الحكمة والنضج والقوة في الأديان الثلاثة، وحاول مراد - مستوحياً شيئاً مما تقدم - الاستمرار في  تصور كونهم أقباطاً، ولكن عينيه وحين هبطتا راصدتين هيئة الفاتحين الرافلين في جلابب قصيرة قد أزالتا الغموض واللبس والاشتباه لديه، ما هم بأقباط قط إذاً، وسرعان ما لاح الشيخ فوزي ففر ميلاد فرار الخوف الذي لم يُرى بعده، وبقى مراد يسأله في صوت أبوي موسوم بالحرارة واللهفة وشيء من البراءة التي يلتمسها من ضل في سعي واسترشد بضعاف المرشدين :

- هل تعلم أين ذهب رؤوف؟

- من أنت؟

- إني أبوه..

وابتسم فوزي ملياً فتكشفت أسنانه الناصعة من أثر استخدام السواك، وجعل يقول في حفاوة ماكرة :

- فلتدخل، سيدي، أكرمك الله..

دلف مراد إلى البيت القبطي في حضرة الشيخ فوزي وجماعته،  وأجلسه الرجل إلى جوار أصحاب البيت وكانا عجوزين مسكينين يرتعشان خوفاً وقلقاً، أعاد مراد السؤال على الشيخ هذه المرة وسط الأجواء التي أقلقته :

- أأنت عليم بموقعه حقاً؟

وجلس الشيخ فوزي على أريكة أسفنجية التكوين هبطت ملياً بجلسة الأربعة عليها، وقال :

- إنهما يعلمان (يريد مالكي الدار) موقعه ولكنهما يخفيان..

- بحق السماء،.. ولماذا تبحث عنه؟

وندت عن الشيخ فوزي إرهاصة بكاء لم يستبنها الجالسين أولاً، ثم تكشفت هويتها حين أعقبها بالأنين، فجعل يجود بالدمع على نحو مدهش أشبه إلى انقلاب الغول المخيف إلى طفل موادع :

- لقد سرقها مني، وايم الله كنت لأهبها فستاناً أبيض مرصع بالماس لو أنها قبلت بي..

- ومن تكون؟

- صالحة بنت هزاع !

وأجابه مراد في ثقة :

- أعلم رؤوف جيداً، وما هو بالسارق، وإن باطنه لأنقى من البياض..

وتمالك الشيخ نفسه بعض تمالك، دون أن يعود إلى حقيقته المفزعة التي بدا أنها قد انكسرت بما بدر عنه من نحيب طفولي، قال :

- إنه أسوأ من هذا، أقسم لك أنه الساعة رفقة الحسناء ذات العينين الدعجاوتين (يريد صالحة) يتغزل بها في سفور !

كان رؤوف - وفي هاته الأثناء - رفقة صالحة في بيت رجل قبطي أعزب، وكان مقامه أكثر مناطق العامرية قرباً لوسط المدينة، وأخذ يقول لها :

- خمار الرأس لا جدوى له الساعة، لقد نام رب البيت..

- وكأنك لست رجلاً..

وتصنع الجدية يقول :

- كنت أروم التحقق من النسبة الفرعونية في مظهرك، والوجه ليس مما يحرم الكشف عنه، من حقي أن أرى وجه محدثتي.

واستاءت من تصرفه فجعلت تقول :

- كف عن التلاعب، لم أتصور أن تكون على هذا الجبن وضعف الجأش، كنت عظيم القلق طوال الأيام الفائتة حتى أورثتني مثيل ما في نفسك..

وخفض رأسه في أسف ونازعته نفسه إلى الارتضاء بوجود ذاك الساتر الذي ضرب على وجه مظلم، ولكنه حين عاد يرفع ناظريه ألفاها وقد خلعته، وتطلع إلى شعرها المُرْسَل في خشية منضبطة هذبت رغائبه وخفض رأسه في رهبة زاهدة ورجع طرفه حسيراً، ونهض- كالموزور- إلى شرفة البيت الغريب يتطلع إلى صبية السبيل الذين كانوا يلعبون بالثلوج فيرمونها على فصل البنات بالمدرسة ذات الجدران الملونة والإرشادات الوعظية، وأعقبته الفتاة التي عادت تلبس الخمار - وكأنها وعت بعض ما في نفسه - فمكثت تتابع أحوال اللهو في الطقس البارد، والماء ينزل من السحائب قطعاً صغاراً (حَبُّ الغمام)، وتزامن هذا الحاصل مع طرق الباب فحضر الرجل القبطي، رب البيت، حضر - مدفوعاً بما وصله من أنباء يتداولها أبناء الحي - يقول في نبرة رعناء :

- لقد حبس الشيخ فوزي أباك، ولن يحرر أسره إلا بمقدمك وصالحة.. 

 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق