روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/24

ألكسندرا في غابة بولونيا

               الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا




في باريس..

عادت ألكسندرا إلى غابة بولونيا في باريس وقد أشقاها معاش الإسكندرية حتى هجرتها في صبيحة يوم تبدد فيه صبرها، وطفقت تلتمس هذا الكوخ المخبوء بين شجون الشجر، هذا الذي تركته وصاحبها لما يربو على الأعوام الثلاثة، وكانت تقتفي - في ذاك - حاستها القوية وحدسها بتغير الأوضاع على ما كان يعنيه الرجوع من مخاطر جمة، تنكرت الفتاة في هيئة أخفت صورتها الرائقة الناضرة تحت وطأة كهولة عجزاء صنعتها صنعاً بالمساحيق والإكسسوار حتى أفلتت من يد العدالة التي لم تميزها، ودلفت إلى البلد في غير مشكل بعد إذ زيَّفت بطاقة الهوية، ورجحت احتمالين اثنين في تقدير مآل الكوخ : الأول وهو الغالب المرجوح : أن يكون الكوخ المخالف قد أزيل من الغابة الباريسية الضخمة بعيد اكتشافه من جهة الأمن، والثاني وهو الأقل رجحاناً : أن تكون طاقة من الشرطة لا تزال - وحتى بعد الأعوام الثلاثة - تتحين عائداً إليه فتسومه العقاب المناسب، وعلى كراهة الاحتمالين ظل حدسها نفسه الذي دعاها إلى ترك الإسكندرية يحضها على رؤية مآل الأمر، ويحدثها بالأمل في ارتقاب تصور ثالث لا تعلمه، وتسللت في ثوب العجوز عبر هذا الشجر، وكانت تجتهد طاقتها في تذكر الموضع الذي تركته منذ زمن طويل حتى بلغت مبلغ هاته الشجرة الكبيرة التي كانت تحجب بدورها صورته (الكوخ)، وأزاحت ما حولها من عشب فألفت مشهداً عجبت له كل عجب، ونطقت بنبرة شابة - لا تلائم صورتها العجزاء الجديدة - في انفعال :

- "إلهي !".

كان الكوخ الصغير لا يزال قائماً وقد زُحزح ما حوله من الشجر والعشب، فحصحصت حقيقته المخبوءة بانتزاع ما كان يخبئه، وهؤلاء هم الزوار يقصدونه ويقفون أمام لوحاته الكثر المصفوفة في نظام المعارض، ثم يحجزون لأجله تذاكر الدخول في تزاحم عجيب، وساقتها نفسها المأخوذة إلى حركة نحوه حتى استوقفها من يقول :

- "معذرة، لا دخول دون تذكرة..".

ورفع الرجل سبابته إلى لافتة دونت عليها عبارة مماثلة : "الدخول لقاء خمس فَرَنْكَات !"، هناك فكرت ألكسندرا في مصارحته (الحارس) بحقيقتها ولكنها عادت تخشى العواقب، وتلتمس السلامة، وأجابته في صوت عجوز، وكانت تقلد فيه بعض معارفها من العجائز السخيفات :

- "معذرة، بني، لم أرها، (ثم وهي تخرج من حقيبتها المبلغ اللازم..) ستشيخ يوماً وستحتاج إلى من ينبهك !".

وضحكت - في إثر ذاك -  بمزيد من السخف حتى اضطربت باروكتها البيضاء فمضت وهي تخشى أن ينكشف أمرها باسترسالها في تصنع الدور الغريب عنها، وزلفت إلى رهط من الزوار الذين كانوا يتأملون في لوحات وجهها الحادية عشر فأخذت بالأمر ملياً، وسرها أن تكون موضوع اهتمام من لا تعرفهم، وسمعت منهم من يقول وهو يتأمل الزحام:

- "لا جرم أن  الرسام صاحب الكوخ قد تحصل على ثروة من جراء كل هذا الزخم والعدد الكبير..".

وأجابه الثاني يقول :

- "لابد أنه كان يعشق هذه الفتاة حتى جعل لها من اللوحات ما يكافئ أو حتى هو يزيد عما رسمه لعباقرة التاريخ المعروف جميعاً، إن النساء معروفات بالتبذير وضعف الاقتصاد، وعلى هذا فلن يبقى للرجل المغرم إلا القليل المنذور..".

ووافقه صاحبه فيما ذهب إليه من تحليل في ابتسامة من يطلع على أمر شائق، ثم جعل يقول :

- "فلننتقل إلى لوحة يوهان غوته..".

كادت ألكسندرا تقتحم حديث الاثنين غير مرة لولا أنها تذكرت تنكرها الذي بات يثقلها بحق، وبهتت نفسها فارتدت إلى صمت حزين، لقد كان وجودها في نطاق الكوخ المزدحم تجربة عامرة بالمشاعر المتناقضة : الخوف والتستر، النشوة والدهش، والحزن، وحزمت المرأة إحساساتها المتضاربة على كلمة سواء فضاقت عيناها الجميلتان على ما أحاط بهما من الغضون المصطنعة، تقول :

- "لابد أن أُبَلِّغ زهيراً بما قد رأيت، وينبغي له أن يعود..".

وحملها الانفعال ومماهة ما بنفسها على حركة هي أشد مما يجب فهوى شعرها الأبيض، وتكشفت للخلائق حقيقتها الموزعة بين الشباب والشيخوخة، هناك جعلت تفر من العيون فرار الارتباك والخجل.

 

في قسم شرطة كرموز..

كانت قضية مسجد رياض الجنة قد اكتسبت بعض الشهرة الإعلامية على نطاق مجتمعي، وقد جرى إقصاء عز عن القضية لتضارب المصالح ووجود آصرة القرابة، وحضر يوسف وعفاف إلى قسم الشرطة أمام المحقق الذي عرض بدوره عليهما نفراً من المشتبه بهم عسى أن يتعرفا على عنصر منهم، وجعل يوسف يتفرس في هاته الوجوه فكانت - جميعاً - عليها غبرة، ثم هي ذوات لحى طويلة، ما خلا واحد (بلال) مكث يوسف يتطلع إليه ملياً، وقد كان الشاب الأمرد يتقي النظر إليه، والتفت يوسف صوب المحقق الذي كان كثير التوتر والانفعال، فأجابه في صوت وانٍ :

- لا أعرف منهم أحداً..

وسأله :

- ومتى امتلكتم دار العبادة؟

والتبس الأمر على يوسف الذي لم يكن يلقي بالاً بالتواريخ، وقد كان محباً - على الدوام - أن يعيش لحظته الآنية، دون أن يكون في عقله أقل الاهتمام بالإبقاء على سجل لما مضى من الحوادث، ولما هو آت منها، وقد أزادت فترة الصمت التي طالت أكثر مما يجب من انفعال المحقق حتى صار الجزء  المنكشف من قدمه وراء هذا المكتب يتحرك في رعاش كأنه المصاب بواحدة من أمراض الأعصاب الطرفية، وقد جعله الاهتمام الإعلامي في شقاء الحصول على نتيجة سريعة للقضية الشائكة، وأعجب العجب أن عفاف - وعلى إصابتها بداء النسيان - كانت أقدر على التذكر من زوجها الذي أخذ بحركة قدم المحقق حتى أمسكت به رهبة قوضت عقله، فطفقت تقول في تماسك :

- اشترينا مقهى الفنانين في العام 1957م، وأحلناه إلى مسجد قبل عامين من اليوم.

وسألها المحقق بعد أن وجه بصره إليها :

- ولماذا أقدمتما بهذا التحول الغريب في حقيقة المكان؟

- إننا وزوجي في خاتمة العمر التي تناسبها الأعمال الإيمانية والخيرية.

وأعاد المحقق النظر إلى يوسف الذي بدا لطبيعته الطفولية وجسده النحيل القصير أبعد من "خاتمة العمر" بأشواط، وأعاد (المحقق) النظر إلى أوراقه ثم أرجع إليه البصر مدققاً فارتأى بعض الشعيرات البيضاء التي دلت من وجه ما على عمره المتقدم، وكانت المرأة (عفاف) أكبر عمراً من زوجها على نحو نضح معه تقدم سنها، ومكث المحقق يعرض جملة من الكتب على الجالسين (كالفريضة الغائبة ورواية أشواك والعمدة في إعداد العدة) يسألهما عنها، فأجاب يوسف يقول في براءة يتبعها بأسف :

- قراءتي مقصورة على الإنجليزية، وعفاف ماعادت تقرأ كثيراً منذ مرضت مرضها الأخير (وأمسك بكتاب العمدة يقول في فضول غير حصيف..) ولكنني رأيت هذا يُباع على الأرصفة في زيارة عابرة في بيروت..

ومكثت المرأة تظهر المحقق على بعض الكشوف الطبية عن حالتها بعد أن فتحت حقيبتها التي كانت من جلد الغزال، وذكر يوسف في خضم ذاك شيئاً - غريباً عن سياق التحقيق - عن ثقته الكاملة في شفائها في حس عاطفي يتبرأ من عاطفيته، ونهض المحقق مدة يشرب فيها سيجاراً دون أن ينوه بشيء، فجعلت عفاف تنادي على بلال الواقف وجاءها - وهو يغض عن شعرها الأبيض البصر - يقول :

- أي خدمة؟

ووهبته المرأة بسكويت شمعدان وجدته في حقيبتها بعيد إخراجها للكشوف الطبية، وقالت :

- لعلكم جميعاً موزورن، ولكنك تبدو الأفضل بينهم، فلتأخذ هذا..

وارتبك بلال ملياً حتى نظر إليها متملصاً من حرجه، فألفاها عجوزاً ليس في صورتها أقل الغواية، وعاد إلى موضعه وسط أقرانه بما جد في يده من نعمة، وجال النظر في الجالسين - يوسف وعفاف - وأرهف السمع لحديثهما، وقد تلمح في تصرف المرأة خيرية حملته على إعادة التقييم فيما كان قاطعاً الحكم عليه : أي كونهما فردين من مجتمع تناسى أصول الدين وأغوته العولمة ببهرجها، كان يوسف يقول لزوجه في همس مسموع :

- سأموت من فرط الرعب إن أنا مكثت ههنا مزيداً من الوقت..

وقالت له :

- مم تخاف؟ إننا لم نؤذِ مخلوقاً على طول حياتنا الحافلة بالمتغيرات..

- أتمنى أن أستعير رباطة جأشك لبعض ساعة.

ومدت يدها إليه تقول :

- هاك رباطة جأشي..

وأمسك يوسف بيد زوجه فانتابه شيء من طمأنينة الأمومة التي كان يشعر بها حيالها دائماً، وكان بلال لا يزال يتابع المشهد الذي أمامه ثم انتبه - في لحظة فارق فيها ذاته المراقبة إلى تأمل محيطي - إلى ما هو منخرط فيه من مخالفة شرعية فغض البصر مأخوذاً، وجعل يدعو أترابه - الذين كانوا على حال مماثل له قبل الانتباه - إلى المثل، عاد الضابط إلى حجرة التحقيق فتحولت اليدان عن الاتصال إلى الانفصال، وشرع يقعد (المحقق) وهو يرمي بعقب السيجار في سلة فيخطئ - لتوتره - الهدف، وجعل يهز رأسه - كالمتندر - كأنما زل عن أمر اعتاد على عدم الزلل فيه، هناك تقدم بلال نحوه - متملصاً من جماعته من جهة شكلية - يقول:

- سيدي المحقق، لا أقل جريرة لهذين..

وتوجه المحقق في جلسته ببصره تلقاء المتحدث الذي أردف :

- السيدة السافرة صاحبة الشمعدان، وزوجها القصير لم يقترفا شيئاً قط يحاسبان عليه، أعني أنهما بريئان بمقاييس قانونكم الوضعي.

وتواتر المشتبه بهم من قُرَنَاءُ بلال على الإدلاء بالشهادة المماثلة التي برأت يوسف وزوجه، وأعفتهما من وزر التخطيط للجريمة الشائنة مثلما نزهتهما من إثم العلم بأمرها، وأما حين خرجا من بوابة القسم استقبلهما عز ومعه هدى - التي كانت في قلق على أخيها الأصغر يوسف - يقول:

- كنت على ثقة من براءتكما، معذرة من طريقتي الجافة في اقتيادكما إلى..

وقاطعته عفاف تقول :

- لابد لنا من ليلة سرور ننسى بها هذا المساء الثقيل..

وقالت لها هدى وهي تخرج شيئاً من من هذا البوك الحريمي :

- هاك هذه، وقد اختفطتي بمقالك ما كان لتوه على لساني، إنها دعوة عرس رؤوف بصالحة، أعطتها لي أميرة من طريق مراد..

وذكرت عفاف شيئاً عن وعدها - الذي ترجو ألا تتخلف عنه - بالحضور، فيما كان يوسف يرقب بلالاً الذي مضى رفقة جماعته تحت تصرف الأمن إلى عربة ترحيلات خارجاً من البوابة في ستار الليل وسط حشد آدمي كثيف من الإعلاميين.

 

في العامرية..

تزوج رؤوف بصالحة في ليلة مشهودة أُكرِم فيها أبناء الحي، ووُزِع فيها الأطفال والأقزام ماء الورد، كانت الراقصات يمضين بما فوق رؤوسهن من الشموع متبخترات مائسات، حريصات على ألا تنطفئ هذه اللهائب، وكان إذا شَعَلَتِ النارُ على الرؤوس وأوقدت ألسنة الشموع انطفأت من فورها في اليوم ذي الريح، وظل الشيخ فوزي - الذي وقف في زاوية من العرس الكبير - يكن كراهية حشوية لرؤوف ولأبناء الحي الذين تكاتفوا دون أن تكون الكلمة له، واحتفر جحور الصمت والانتظار رفقة جماعته، وكان يتابع انطفاء شموع الشمعدانات بقلب متشفٍ غليل، يقول :

- انظروا كيف تنطفئ لما في أجساد حملتها من الإثم البين !

وقال له من جماعته واحد :

- ألفنا رؤية الراقصات في الأعراس، إنها ليست عيباً ولا بدعاً من الأمر..

وأمسك الشيخ بخناقه حتى جعل الرجل يقول :"غفرانك..! غفرانك..!"، فتركه الشيخ ولم يترك ما بنفسه من الأحقاد، وكانت ألكسندرا قد أبلغت زهيراً بحقيقة ما آل إليه كوخه فور عودتها إلى الإسكندرية، وحضته - بعد ذاك - ملياً على التفكير في العودة إلى باريس وتحمل العواقب، قالت له :

- "باتت شهرتك هناك فوق ما يُتصور، وأما معرض الكوخ فآية للناظرين، ولتتحمل العقاب القانوني على جريمة الأمس في سبيل ثمرة ستجنيها، اليوم وغداً، كان الاعتراف بنبوغك الفني رجاءك على الدوام..".

 ووعدها - الرجل الذي التبس عليه ما قد سمع - بالتفكر في الأمر بعيد انتهاء العرس المعقود، كانت ألكسندرا مأخوذة بما طفقت تبصره من تشاركية شعبية احتفالية على نحو دعاها إلى رؤية وجه جديد لمدينة أزعجتها طويلاً، وقد أفصحت ألكسندرا -  عبر زهير الذي جعل يترجم حديث الاثنين - لصالحة بما عانته من مشاكسات تعرضت لها بالسوء في شوارع المدينة من الصبية والمراهقين المجاوزين، وجهرت الفتاة الأوروبية بشقاء ناءت به للبدوية المحافظة التي آلمها ما سمعت كل الألم، كان من أعجب فصول العرس لحظة خلعت صالحة خمارها فألبسته لألكسندرا، وجعلت تقول :

- فلتسمعوا لي، وحري بكم أن تفعلوا في يوم عرسي، إنني إذا خلعت هذه (أي الخمار) وألبسته لصديقتنا ما تغيرت حقيقتينا، ولا هويتينا، ما كان لكم إلا أن تعاملوا الساترة كآدمية وأن تعاملوا السافرة كذلك..

وراح قزم يرش ماء الورد على شعرها المسترسل (صالحة) الذي انكشف، فعادت تلبس ما خلعته بعد أن وهبت ألكسندرا نظرة إخفاق مشوب بالشين، وارتأت في قناعة يائسة أن طبعاً في الحي العجيب هو أشد من التطبع فيه، وأن محاولة التغيير لمتجذر متطلبة الجهد والوقت الجزيلين فوق المبادرات الجسورة.

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق