استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/18

وجه آخر للحياة

 الفصل الثامن عشر : وجه آخر للحياة 




 

كانت صلة منير قد توثقت إلى بلال الذي أظهره على وجه آخر للحياة التي يشيع فيها التقوى والورع الأخروي، توافق وحالته البائسة بعد موت أمه الروحية تفيدة، وقال له بلال يوماً وهما جلوس على درج السلم في مجمع الكليات :

- أحسب أنها المرة الألف التي أدعوك فيها لدرس يوم الخميس بمسجد عمر بن الخطاب بالإبراهيمية دون أن تحضر !

وأجابه منير في استغناء أشبه إلى اليأس :

- أني أكتفي بندوات الجامعة..

ثم أشعل الأخير سيجاراً أوحى لبلال باستخفاف محدثه به، واستهتاره بما لديه، فجعل ينصحه بالقول :"لا ضرر ولا ضرار" وهو يهش أثر الدخان الساري في حنايا المجمع، وعلى درجه الصاعد، سيراً قصيراً ينتهي إلى زوال كالبخر، وقال (بلال) :

- وكأنك لم تقنع قط بما سمعت..

وأجابه منير وهو يصرف تيار الدخان عنه بتحريك ناصية وجهه دون جسده :

- أليست الاستجابة منازل ودرجات ؟!

- صدقني بحق من فلق الحبة وبرأ النسمة، العاقبة لمن يحملون الحب لله ودينه، فلتنظر إلى المدينة التي كانت مرتعاً للخواجات كيف انتهى رجالها إلى تدين محمود، ونسائها إلى حجاب حفيظ، المعسكرات الصيفية أيضاً صبغت بصبغة الإيمان بعد ما كان يجري فيها من مخالفات شرعية، لنا رصيد في ذاكرة هذا البلد هو كسنام الجمل..

 وكانت مثابرة بلال في إقناع محدثه قد دعت منيراً إلى أن يكون أكثر حدة في حديثه فقال يريد المساعي السلفية بالمدينة :

أحسب أنكم تركزون جهدكم على ذاك الشريط الجنوبي من المدينة لاحتوائه على أحيائها الفقيرة الأبعد عن الشاطئ الأكثر تمديناً بالشمال، ولو أنكم على وجاهة رأي لقنع بكم الموسورن قبل الفقراء..

- الموسورن في إلهاء الدنيا وزخرفها مستكبرون بما لديهم، والفقراء في رجاء الآخرة أطوع على الإيمان.

- لماذا تتقاتلون في الجامعات وخارجها (يريد الفرق الدينية الإسلامية)؟ لا يمكن لصاحبي حق أن يتقاتلا..

- الصوفيون مفرطون في الفقه والعلوم الشرعية، ويقيمون «الموالد» التي تحفل بالثريد (الفتَّة)، يرتكبون المنكرات بدعوى العبادة، ثم يسقطون تكاليف الله، والإخوان طلاب سلطة ودنيا، نزاعون إلى استئثار وحوزة..

وأجابه منير قائلاً في استفهام محمل بالاستنكار :

- وأنتم أصحاب الحق المنزه؟

- حاشا لله، وإنما نحن أقرب إليه ممن سوانا..

وطال المطال بحديث الاثنين حتى آن ميعاد محاضرة التكاليف فابتسم منير يقول كأنما يروم خلاصاً لنقاش ذي شعوب طوال :

- لماذا لا نقول بأن كل منَّا يحب الله على طريقته ؟!

وأجابه بلال في تحدي وهو يأخذ ينهض :

- إن حباً غير مقرون بالالتزام هو إهمال في شأن المحبوب، الجنة درجات، والنار دركات، والجاهل لا يدري رتبة نفسه.

وانتهى منير من سيجارته فألقى بجسدها الصغير المتبقي منها على الأرض ثم دهسه يقول :

- فليغفر الله تقصيرنا، وجميعنا مهملون في حقوقه..

- سآرك بعد المحاضرة، وسأقنعك بما لدي، لازلت أتلمح فيك نبتة خير تتحين فرصة النماء بالتربة الصالحة.

كان منير قد أخذ يستحضر حديث صاحبه في خلال المحاضرة الصعبة حتى أنه سها عن معظم ما قيل فيها، وحضره هاتف يقول :"فلتقصد إلى المسجد الموصوف كي تقطع شكاً بيقين.."، وتمنى - دون أن تلبى أمنيته - أن يجد بلالاً في انتظاره حين انتهت محاضرته، ومكث يتحين ظهوره مدة فلما لم يجده عزم أمره على حضور الدرس الديني بالمسجد يوم الخميس.

وفي عين الأثناء كانت آمال تلعب لعبة اللودو رفقة أخيها عارف في ردهة المنزل بمانارولا، تحت ساعة حائط كوارتز ذات الطراز الأوروبي القديم، حين أتاها الأب يقول بعيد أن وهب الساعة نظرة دلته على تأخر الميقات :

- هلم، لننام الآن، وغداً نبدأ سياحتنا في مونتيروسو كأول ما نزوره من مدن الأراضي الخمسة.

وألقت الفتاة بحجر النرد ثم أخذت تقول في شغب :

- لا أريد زيارة مدن الأراضي الخمسة أو حتى الستة، وتطلعي مقصور في واحدة..

وهبط الرجل حتى أشفى على موضع نجليه فوق الأرض يقول في همس:

- وأي مدينة تكون؟

وبدا أن أذنيها الواهنتين قد تلقفتا سؤال الرجل على همسُّه لشغفها بموضوعه، فأجابت :

- مازلت أروم زيارة المدينة التي أكلنا فيها يوماً اللحم في قصع الفخار بحديقة الفيلا البيضاء !

وكانت مريم تجهز بيتزا إيطالية غير بعيد من الحديث الدائر بالمطبخ فطفقت تقول :

- تروم المشاغبة أن تزور الإسكندرية، لماذا لا تهبط لدى إرادتها؟!

ونهض نعيم عن الأرض كأنه يروم الحديث إلى من يماثله من جهة العمر والمسؤولية، يقول لمريم :

- تعرضت المدينة (أي الإسكندرية) لانتكاسات ثلاث في رأيي خلال الخمسمائة عام الأخيرة : اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، والاحتلال العثماني، ثم ما وقع في يوليو 1952م، لا يجب أن ننظر للماضي والمستقبل كله هنا، في إيطاليا، ومن نظر إلى الوراء تعثرت خطاه.

وذكرت الأم شيئاً عن نيتها في إرسال آمال إلى المدارس العامة الأمريكية في ولاية ماريلاند لما بدا عليها من النباهة الرياضية لدى معارف للأب هناك من أصدقائه القدامى بكلية فيكتوريا، وبارك نعيم اقتراحها - لما كان بمنأى عن الإسكندرية التي كان يراها بلا مستقبل - ثم اختطف الرجل هذا القوام المكون من العجين، الصلصة، والموزاريلا للبيتزا الإيطالية من يد امرأته، ثم عاد به إلى ردهة البيت يقول :

- سأمنحكم هذه إذا تركتم اللعب ونمتم..

وأجابه عارف يقول في انفعال الخسران :

- ليس قبل أن أظفر بنصر عليها، إنها تغش !

 

في زيزينيا..

أنجبت ابتهال من حسين توأماً من ولد وبنت فسمت الأول بإياد فيما سمت الأنثى بمليكة، وكان كثيراً ما يقع أن تحمل الأم مليكة في شرفة البيت المطلة على قصر الصفا فتجعل تقول والضحى يغشى الأحياء :

- إنها ملكة القصر بعد إستيفان زيزينيا مشيده الأول، والأمير محمد علي باشا توفيق، بانيه الثاني.

وكانت مليكة تبكي غير واعية بحديث الأم فتسلمها إلى سريرها، وتعود تحمل إياداً وتعيد الكرة دون أن يبدي الصغير نحيباً مماثلاً لأخته،.. ومضى زهران على دأبه من زيارة ابنته وزوجها حين تشتد عليه ضائقة المراهنة في أعقاب خيبات توقعاته الكروية، وكان يقف أمام آية الكرسى على مدخل قصر الصفا من الجهة البحرية في شَدْه التطلع، ويخامر ما يسمع عنه من أسماء الله الحسنى المموهة بالذهب الخالص في قاعة طعامه وعيه بالأمنيات الحالمة، ظلت صورة قصر الصفا إذاً تخالج آمال زهران وكيانه وتبث فيه رغبة محمومة في الحوزة، وقال لابنته يوماً :

- لدي مقام أفضل لكما وقد اتفقت مع صاحبه، قولي لزوجك بأن يجمع المال ويأتيني به في بيتي عند القوارب الملونة.. 

وقالت ابتهال له في قلق :

- ولكننا سعداء في زيزينيا..

- ولماذا لا تكونان أسعد في مقام آخر؟

وألح عليها بالأمر حتى طفح وجهها بالانفعال والريبة، قالت :

- لماذا لا تطلب منه رأساً بدلاً من أن توكلني بالأمر نيابة عنك؟

وقهقه في سخف يقول :

- إلهي! بينكما آصرة غرامية وزوجية، فلتنظري إلى وجهك ووجهي، (ونظرت إلى وجهه الدميم الذي يشيع فيه الحروق، فيما جعل الرجل يردف..) إن استجابة لمطلب يبديها المرء تكون على قدر مثابة الطالب، وبهاء صورته في النفس والعقل، وبيني وبين صاحبك (أي حسين) مصانع الحداد، وقد استنفذتْ المراهنة رصيدي عنده.

ولاذت بصمت عميق فجعل يردف كأنما يطمئن ريبتها التي أحس بها :

- لا أروم غير صالِحكِ، وأما الشقة الجديدة فبسان ستيفانو وقرب برجها الشاهق، وإنها لخير من هنا (أي من شقة زيزينيا)، وصاحبها سيقابلكما في بيتي المتواضع للاتفاق النهائي.

ولبت الفتاة مطلب الأب مرغمة، وطاوعها حسين - لما كان محباً لها رغم كونه غير متطلع حقاً إلى الحياة الساحلية لخوفه المعروف من البحر - فجاء رفقة زوجه بحقيبة ملأى بالنقود وحضر لدى بيت زهران وقرب زوارقه الملونة، ومكث الثلاثة في صمت الانتظار حتى نطق زهران يقول حين اشتدت حراجة الجلسة :

- اللعين (يريد صاحب الشقة) لم يحضر اليوم، ولن يحضر فيما يبدو،.. ألا هل ركبنا قاربنا هذا فمضينا به نتسلى بالمَخَر والبحر؟

هش حسين وبش وطاوعه في مراده - لإعجابه بصورة القوارب المضاءة بالقناديل الزيتية ذات الفُرُشِ الملونة - وكان كل شيء مجلو بالضوء والبهجة والسحر، ولعله تذكر تجربته في جولاته البحرية على نهر السين يوماً في باريس فود أن يعيد الذكرى في بلد آخر، كان حسين ينظر إلى زهران في ريبة موصولة دائمة رغم مسوح الترحاب التي تسربل بها الرجل هذا اليوم، ركب ثلاثتهم قارباً كبيراً فمضى بهم في غير استقرار، كانت له صورة - التداعي فوق غيره من القوارب - التي تلوح للمدقق في حقيقته ولكن أحداً من الراكبين - كما يبدو - لم يلتفت حقاً إلى الأمر، ولعل بناءه الكبير كان يخبئ عيوبه ونقائصه، وكانت نزعته إلى الضعف مطمورة تحت حقيقته المبهجة الثرية، كان داوود يترقبهم من موقعه بالشاطئ بغية المساعدة إذا جد جديد، أو وقع طارئ، ومكث (داوود) يودعهم بيديه فيما تلتهمه ظلمة غاشية وتغشاه غيبة المسافة المتزايدة فتصيّره إلى نقطة فعدم، أحاط حسين ابتهال بيديه فيما انصرف زهران إلى قياد القارب، وهمس حسين في أذن زوجه يقول :

- إن له (أي أبيها) صورة القراصنة، وأخشى أن يخدعنا سلام البحر حتى إذا اصطخب ماؤه بغتة فصار كالجبال الموائج غرقنا..

وابتسمت ابتسامة انتهت إلى رنين ضحك لم يدم، وقالت تحاول جمع عزمها على الجدية :

- فلتصمت، إنه يسمعنا..

ولم يعر تحرجها اهتماماً، فأزاد يقول :

- ستصدمنا صخرة البحر كما اصطدمت تيتانيك بجبل الثلج، وليكن اسمه : زهران جون سميث..

فلما استقر قاربهم لدى مسافة من البحر بعيدة انطفأت قناديل الزيت بغتة، ووثب اضطراب جديد على حالة القارب المحمول على الموج الرصين، فإذا هو بين لجة جامحة، وموجة طامحة، وجعل زهران يهتف يقول :

- سنغرق، إن القارب يأخذ يهبط بنا، أوزاننا فوق طاقته.. 

وجعل الرجل المنفعل يرمي بالصناديق الخشبية التي كانت أشبه حمولات زائدة بلا طائل، ثم طفق منادياً على نجله داوود أن آت، مضت عجلة الحوادث على نحو متواتر يستلهم الأمل ويتحرى التصرف، خلع داوود قميصه وهم سابحاً إلى قارب آخر فمضى يجدف به في بحر مظلم صوب نداء أبيه الهاتف، وطفق زهران يقول لحسين :

- بني، فلترمِ بحقيبة النقود، عسى أن نطيل الزمن ريثما يأتي داوود..

تشبث حسين بحقيبته حتى غمر الماء معظم سطح القارب الكبير، وحين لم يجد بداً من التصرف ألقى بما في يده، جاء داوود متأخراً فأنقذ الثلاثة دون القارب الذي التهمه الغرق والظلمة، كان الماء قد بلل الأجساد في غمرة البرد، ارتعشت ابتهال وسعلت وأحاطت جسدها المبلل بمنشفة كبيرة من الكتان، جعل حسين يقول في حسرة ونبرة مرتعشة :

- فقدنا حقيبة النقود..

وأجابه زهران، وكانت عيناه قد تضررتا من ملح البحر فاحمر بياضهما :

- سنحبث عنها على هدى ضوء النهار..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق