الفصل السابع عشر : اعتذار
1983م..
أرسل مظهر مساعده المصور في طلب
الاعتذار من نور، وأوعز إليه بالقول الذي تلاه على أسماعها كالممثل المسرحي يردد
ما يسمعه من الملقن :
- لقد كان السيد مظهر على حال من
التخدير الكامل حتى أنه لم يفقه إلى ما قد فعل، أجل، لقد كان كالمجنون، هل نحاسب
المجنون أم نسقط عنه الحرج؟
وأجابت في شيء من إباء وشمم كرد فعل
نفساني لشعورها بالامتهان في استوديو التصوير :
- ولماذا أرسلك؟ أتراه استنكف عن أن
تنطق ذاته المتعالية بعبارات الاعتذار والأسف فأرسل بها من يستهين بأمره؟
وأجابها المصور دون أن يأخذ عبارتها
الأخيرة مأخذاً شخصياً :
- كلا، ثم كلا،.. وإنما ألبسه تصرفه
ثوب الاستخزاء، إنه إن رآك كع عن الصراحة وتلكأ وجبن.
- فلتعد إلى صاحبك محملاً برفضي
لاعتذاره، ولتمكث حول حوضه، وقرب المداهنين ممن يتزاحمون على محافله، وأما أنا
فلا..
- أتعنين أن حالتك بلا رجاء (نطقها
بالإنجليزية Hopless case)؟ سنخسر
أموالاً ما أنزل بها من سلطان كنا قد استخدمناها في المشاهد الأولى، ولا يقع تبديل
البطلة إلا بتبديلها..
وقالت :
- من لسع بالنار اتقَ الرماد، لم تعد
الشهرة أولوية لي بعد ولادتي لنبيل وعطية الله..
- لا أريد لكِ أن تكوني كنعيمة وصفي :
أنجبت ولدين وبنتاً فاعتزلت مهنة التمثيل من جراء ذاك..
وكان تظهر انزعاجها من أن يزيد في
استجدائها ولكن بواطنها احتوت على سرور ما، فلا يُلتمس الصفح عادة إلا من صاحب
الحق، علاوة على أنها كانت لا تزال في غورها تروم إكمال الفيلم الذي ترى فيه
انتصاراً لكفاح المرأة على قهر الظروف، وقد أخذ منها إعجابها ببطلته مأخذ التقمص
والتوحد حتى درست دواخل شخصيتها كأنها الحقيقية فعاشت حياتها الشخصية بنظرية
قسطنطين ستانيسلافسكي عبر الأداء الصادق،.. وإنهما لكذلك في تدابر وشد وجذب حتى دق
الباب دقاً غير معتاد، نهضت المرأة إلى الباب ففتحته وهناك فألفت بكراً على حال يُرثى
له، وقالت يتخالجها الرَّيْب :
- رباه.. ماذا دهمك؟
وأجابه ورأسه يأخذ مأخذاً دواراً في
حركته لهزال وضعف أصابه واستعصت معه الوقفة
القويمة :
- إنها قصة طويلة، احتجزت في بيت مهجور
عند خليج أبي قير، وفي ظروف غير آدمية، لا أعرف كم احتجزت هناك إذ أن الأيام
تتشابه على من سُجن وفقد حريته،.. إن من رحمة التصاريف أن حارسيَّ هناك كانا من
البله الذي أمكنني أن أنسل من بين يديهما !
وتضارب في وعيها الشعور، قالت وقد
أخذت بهيئته الذرية :
- ومن يكون المدبر وراء الأمر؟ أتراهم
يقتفون أثرك؟
وتركها الشاب وسؤالها الأول المعلق
وإن أجابها على الثاني بكلا حتى دلف إلى الحمام فجعل يتقيأ في حوضه الرخامي،
واستحم فأزال رواسباً من الأتربة كانت قد تعلقت بجسده بليفة من الكروشيه، أكرمته
المرأة فجاءت له ببطة كاملة متبلة بالزبيب والقرنفل والزيت النباتي بدت في صحن
بيضاوي كالممتطية لأرز أصفر - أقول جاءت له بهذا طعاماً له يشد عضده، ويقيم أوده،
وعجبت كيف حدا به نهمه إلى التهام طعام الغداء - الذي كان مقرراً له أن تأكله وزوجها
الذي تأخر- وحده، فوقفت مدة رفقة المصور في عجب تتابعه وهو يأكل في شهية عظيمة لا
تكاد تفرغ، ولا يوشك أن ينفذ مداد إشباعها، وسألها المصور كأنه يتذرع للحديث حول
غرضه مجدداً ويلتف بالقول :
- السيد بكر، ظهر في فيلم لكِ..
وأجابته وهي ترقب استخدام الآكل للملعقة
إذ هو يحملها فوق طاقتها من الأرز الأصفر كأنها تل ضئيل :
- كان هذا أفضل أفلامي، وأنبلها..
واختطف منها مفردة وجعل يطوعها لخدمة
غرضه يقول :
- النبل ينطوي على تضحية ذاتية في
سبيل خدمة الجماعة أو مقاربة القيمة العليا، النبيل يضحي جهده وحتى حياته في سبيل
هاتين، والأمر ينسحب بنحو ما على حالتك التي تطلب التضحية والمرونة والعفو..
وسألته في استنكار جارح صادم :
- وهل يضحي النبيل بعرضه؟
نهض بكر حين أتم طعامه ممتلئاً ببعض
حيوية دافقة، كان لا يزال جفنه متأذياً من الأرق، وطلب منها أن تظهره على القصة
التي تجادل الرجل في شؤونها وتحاجه في أمرها، فلما أظهرته قال ناصحاً إياها :
- فليكن هذا آخر أفلامك معه، ولتعودي
لأجل العاملين البسطاء الذين سيتضررون بتوقف العمل لا من أجله..
وهتف المصور كأن وجهه ينطق
:"عفارم ! وتستحق البطة لأجل سداد هذا الرأي.."، يقول :
- لماذا لا تصحبين الشاب إلى الاستوديو، ولتجعلي
منه ديدباناً يقيك مطامع الرجال،.. ألا تثقين به ثقتك في ولديك الصغيرين (نبيل
وعطية الله)؟
ونظرت المرأة إلى بكر الذي ابتسم لها
في موافقة،.. كان مظهر ولوعاً بالحديث ولعه بالعمل، شريطة أن ينطوي الحديث على لون
من التعقيد المركب، وإن حديثاً بسيطاً خالياً من المبهمات لا يحفل به، لقد كان يرى
في التعقيد ثقافة نخبوية، وفي التركيب رفعة عقلية، حتى يصح أن ترادفت في وعيه
المرادفتان، وكان لأجل ذاك كثير التردد على الصالونات الثقافية التي يتواجد فيها أَراهِطُ
من الوجوه المجتمعية البارزة - من رسامي الكاريكتير والصحفيين وحتى ملاك بعض
الحانات الكبيرة والكازينوهات المهمة - فيبتكر الجديد ويجتر القديم من مرادفات
الثقافة مشبعاً بحماسة التواجد في المجتمع المتأنق، ويردد على أسماعهم ما يحملهم
على الانبهار به : "إن البناء الفوقي مشروط حتماً بالبناء التحتي، لا يقوم
إلا به ولا يدوم، وصراع البلوريتاريا سيفضي إلى ديكتاتورية العمال، و«من كل حسب
قدرته إلى كل حسب حاجته» (شعار كارل ماركس في كتابه نقد برنامج غوتا)، وسياسة
الرئيس الحالي (مبارك) هي امتداد لمن سبقه (السادات)، وعبد الناصر كان أفضل وأسوأ
الحكام في آن لأنه كان عظيم المجد والأخطاء (دون أن يلتفت إلى ذاك التضارب المنطقي
الجلي في أن يحمل المرء صفة الشيء ونقيضه.. وإنما مدفوعاً بالإنشائية التي تعمي
البصائر، وحفاوة من لا يمحصون..)"، ثم يردد شيئاً من رباعيات صلاح جاهين التي تحمل القعود على تصفيق حار لبساطة تركيبها
ونفاذ معناها، يهبط جسد الرجل تجاه الجلوس فكأنما يشبع نرجسية ما بحركته هذه تُرضي
دولة باطنه كأنه الورقة التي تبث فيها الحيوية بالماء فتورق وتخضر، وقصدت المرأة
إلى إحدى الصالونات الثقافية بدعوى منه بغية إعادة الأواصر المفقودة، وقد أرسل
إليها باقة من الورد محملة بطلبه هذا، وذهلت من حديث الرجل الذي جعل يقول أمام
الملأ :
- كانت المقاهي الثقافية بالأمس تحفل بأسماء المتنورين، لازلت
أذكر دانتون حين صعد على منبره للخطابة، يقول : "يجب أن يتناول الحصان غذاءه
من الشوفان.."، لقد أصقلت الثورة الفرنسية مثقفي الأمس، وأما عصر اليوم فبلا
طعم ولا رائحة ولا مذاق، وكل من ليس له صفة صار في بلدنا موقوراً مهاباً، لا أقصد
الطعن فيكم، أعزائي، كلا،.. وإنما العصر غير العصر، ولكل عصر من الأعصار رجاله، ومن
عجب أن بعض المثقفين يتخذون هذه المثابة المتخيلة وتلك السمعة الطيبة سبيلاً
لممارسة أحط الدناءات والنقائص، ولا أقول إلا أن الاستوديو الفني محراب له قدسيته
وخصوصيته، ولا يدنسه إلا صَفِيق واطئ الخصال !
وكانت المرأة ترى رجلاً تملص من حيائه
فانطلق إلى حال كقلب الحقائق، وكادت تفسد الصالون الثقافي بقولها الغاضب الذي
اقترن بوقفتها التي ضارعت وقفة المتكلم (مظهر) :
- أليس أولى بالناصح أن يعظ نفسه؟
نصحها بكر بالجلوس فاستجابت له، كان
الفتى مسروراً بالاطلاع على شيء من الزبدة الثقافية للمجتمع السكندري، وكان فضوله
يدفعه إلى المآزق دون توبة أو فقدان شغف، وتزين في بذلة لها بابيون أحمر وقد استرد
شيئاً من صحته، واطمأن إلى سكون جأش التي في جواره (نور)، وقد أراد لها التماهي مع
ما يدور بالمجلس بغية ألا تفسد استمتاعه به، وكانت المرأة الوحيدة وسط رجال كثر،
فلما أدرك منها ما أراد، استدار (بكر) إلى يساره فألفى وجهاً مألوفاً فزع لرؤيته
ولم يتوقع قط حضوره، وجعل يهمس: "الخرباوي؟"، وكظم الشاب شعوره أمام
الجلوس ممن كانوا يستمعون إلى حديث الواقف (مظهر) لدى رأس إحدى الموائد البيضاوية
الطويلة ذات الساتان الناعم التي تحلق حولها قعود اختلفوا في درجات الاهتمام
والانشغال، وهمس الخرباوي في أذنه يقول :
- أريد أن أتحدث إليكَ، بعيد أن يفرغ
الثرثار من لغوه..
ونظر الخرباوي إلى ساعة يده المصقولة
من الذهب الوردي نظرة فضاق بكونها الحادية عشر مساءً ثم جعل يتثائب على نحو عال
نكير مفتقد للياقة أوحى للمتحدث (مظهر) بأن ينهي حديثه سريعاً في إنشائية حالمة :
- وهكذا، سادتي، أفضت الثورة الفرنسية
بعد إذ بعثت باعث البشرى والأمل لكل إنسان على المسكونة بحياة لا يستعبده فيها ملك
ولا يسترقه كاهن - أقول أفضت بعد هذا كله إلى انتشار الليبرالية، والعلمانية،
وحقوق الإنسان، والاشتراكية، ونصرة المرأة،.. وهلم جرا، فهلا امتلكت نخبتنا
الثقافية أحد أعشار جسارة مقتحمي سجن الباستيل من ثوار فرنسا؟!
وصفق الحضور - ما خلا نور التي بدا أن
افتقادها للشعور بصدق المتحدث أورثها تشككاً في جدوى الثورة الفرنسية نفسها - لمن
جلس يمسح وجهه بمنديل في حركات عصبية، ثم وهب (أي مظهر) الخرباوي نظرة قاسية جامدة
لما أنهى وقفته الخطابية الإلهامية على طاولة الصالون الثقافي بأتفه الأفعال
البشرية، ولكن الخرباوي كان على حال آخر لما كان حضوره - على الحق - مبعثه نقل
رسالة، وجعل يحدث بكر في نبرة لا تتعدى حيزاً بعيداً :
- إنهم يفاضلون بين أمرين : رأسك، أو
ما سرقت..
وتلمح بكر مصراع باب الصالون الذي كان
يتحرك والهواء يعصف به باردًا قارسًا في صبَّارة الشتاء، ثم تساءل كأنما ضاق
بوجوده بغتة :
- من تقصد؟
- معارف العجوز المائت، جاءوني طالبين
موقعك.
وهتف به بكر في غضب كأنما يعاتبه في
حنق :
- وقد أرشدتهم إليَّ..
- لقد هددوني،.. أردتك مغنّياً تتكسب
الأجرة في كازينو لي ولم أشأ تعذيبك، فلترحل عن هنا الآن بحياتك..
- عن المعمورة؟
- الإسكندرية برمتها ما عادت موطناً
آمناً لكَ.
وأجاب في عزم وجسارة يتولدان في نفس
المحب :
- لن أرحل عن المدينة..
- فلتهب شانئيك مرادهم من النقود إذاً،
ولتفض ما بينك وبينهم من مواطن النزاع..
- لقد تبرعت بها (أي بالنقود) مثلما
طلبت مني فردوس..
وحدس الخرباوي أمراً صائباً، فقال :
- هل تحب فردوس؟ لقد أطعتها فيما
طلبت، ولا ريب أنك كذلك،.. لماذا لا تتزوج بها في قريتك وتعود بعد عشرة أعوام، أو
حتى خمسة عشر إلى هنا؟
وألقى بكر على صورة محدثه الموفورة
نظرة كلية سريعة أوحت له باستغنائه وكفايته، وسأله في يأس محمل بالارتياب :
- ولماذا تنصحني؟
ابتسم الآخر ابتسامة وافية يقول :
- قلت لكَ آنفاً : لأني أرى فيك صورة
نفسي..
أخذته حيرة عاصفة، اعتصره هاتف بث في
روعه شعوراً مقبضاً، خنقه البابيون على ظرافته، تساءل :
- بأي وجه أعود إليهم في أبي تيج بعد
أن هجرت رسالاتهم؟
وكانت نور تتسمع حديث الرجلين فقالت :
- بوجه الرجل الذي خبر المدينة ورام
إفادة أهليه بما قد اكتسب..
وقال :
- مازال بي شغف لم ينضب عصي عليَّ أن
أكتمه.
وقالت المرأة تحاول أن تعيده إلى خانة
القناعة والكفاية :
- أحسبك قد تحصلت على الجوابات التي
أردتها من سفرك..
وساد الصمت المطبق بين ثلاثتهم فَعَلا
هرج الحضور من رواد الصالون الثقافي الذين كانوا ما يلبثون في توافد يزيد حشدهم،
وطفر بكر دمعة صدرت عن جوف شعوره المأزوم بقلة الحيلة، وودعته الأحلام العِذاب
والآمال العراض، يقول :
- لقد كانت رحلة قصيرة، كمنام رائع..
وطوقته نور بيديها ثم قبلت رأسه
متأثرة كل التأثر، وغاص فيها أسى فغدت مكلومة الحشا، أغمض الشاب عينيه في قلب
ذراعيها، فلما فتحها لم يجد الخرباوي الذي اختفى كالطيف، كما يبدو، مثلما حضر،..
وكان مظهر قد بدأ يستأنف وقفته يقول :
- ونتساءل، سادتي، عوداً على بدء
: وكم من أسير في سجن الباستيل حين
اقتحامه المشهود في تموز من العام المجيد 1789م؟ والجواب : سبعة أسرى ! والعبرة
بسقوط رمزيته القاهرة لا بعدد من تحرر منه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق